إبراهيم درويش
هناك نشاط دبلوماسي أردني متواصل، وحراك بدا واضحا في الملف السوري، ورغم ما تعرض له الأردن من أزمة داخلية أو ما عرف بالفتنة وتورط مسؤولين سابقين مع أمير بارز في محاولة قالت الحكومة إنها كانت تهدف لزعزعة أمن النظام وبدعم من قوى خارجية لم تسمها، إلا أن الدبلوماسية الأردنية لم تتوقف، فقد توج الملك عبد الله الثاني تحركاته بزيارة واشنطن في تموز/ يوليو وموسكو في آب/أغسطس حيث حمل معه عددا من الملفات الإقليمية المهمة وبخاصة سوريا.
رحلة واشنطن
وفي 19 تموز/يوليو كان الملك عبد الله أول زعيم عربي يلتقي الرئيس بايدن في البيت الأبيض فيما نظر إليه خطوة لتأكيد أهمية استقرار الأردن ودوره في المنطقة. وهو ما دعا المعلق في صحيفة «واشنطن بوست» ديفيد إغناطيوس للقول بمقال نشره في 20/7/ 2021 إن الملك عبد الله أصبح مرة أخرى الزعيم العربي المفضل لواشنطن. وإن الملك عبد الله حمل معه ثلاث رسائل واحدة تتعلق برئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي وضرورة مساعدته لأنه الشخص الذي يمكنه المساعدة في مواجهة التأثير الإيراني في المنطقة. والثانية بالوضع السوري وضرورة تحقيق الاستقرار فيه وجمع الأطراف، أما الأخيرة فهي العلاقة مع إسرائيل التي بردت في ظل رئيس الوزراء المتطرف بنيامين نتنياهو الذي لقي دعما من دونالد ترامب. وقد عانى الأردن في ظل الرئيس الأمريكي السابق ترامب من ضغوط للقبول بخطة «السلام» التي أعدها جاريد كوشنر، صهر ترامب وتحيزت بشكل كامل لإسرائيل. وكان موقف الرئيس ترامب نشازا من بين الرؤساء الأمريكيين من ناحية الحفاظ على العلاقة التقليدية مع الأردن وضرورة دعمه. ويواجه البلد تحديات تتعلق بشعب شاب غير راض عن سياسات الحكومة ولهذا السبب ظل الملك يعدل ويغير الحكومات ويتحدث عن الفساد وضرورة الإصلاح بدون جدوى. هذا بالإضافة للظروف الاقتصادية التي فاقمها انتشار فيروس كورونا وتعطل قطاع السياحة الذي يعتبر مصدرا للدخل القومي. وهناك المشاكل التي تعصف بالمنطقة وخاصة سوريا التي دفعت مئات الآلاف من السوريين للجوء إلى الأردن مما زاد من الأعباء الاقتصادية على الحكومة. لكل هذا كان الملك حريصا على طرح الموضوع السوري في مباحثاته مع المسؤولين الأمريكيين وضرورة إعفاء الأردن من العقوبات التي فرضت على النظام السوري بموجب قانون قيصر. ومنذ زيارة الملك عبد الله لواشنطن حدثت الكثير من الأمور، فقد انتخبت إسرائيل حكومة جديدة اجتمع رئيس وزرائها مع بايدن يوم الجمعة. وكان قد زار الأردن بعد انتخابه واجتمع مع الملك عبد الله.
سوريا التالية؟
وتواجه إدارة بايدن اليوم تداعيات قرار الخروج من أفغانستان وسيطرة طالبان على الحكم. وهو ما جعل الكثير من قادة الدول العربية ترتيب التحضير لخروج أمريكي قريب من سوريا، كما كتب نيل قويليام، الزميل في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشاتام هاوس في لندن. ففي مقال نشرته مجلة «فورين بوليسي» (25/8/2021) قال فيه إن العالم العربي فهم الرسالة من الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وبدأ يتساءل إن كانت سوريا التي تحتفظ أمريكا فيها بمئات الجنود ستكون التالية. وأضاف أن إدارة بايدن أظهرت إشارات أنها مستعدة لحرف النظر عن دول الخليج التي تقوم بإحياء علاقاتها مع ديكتاتور سوريا بشار الأسد بدلا من العمل على منعها. وهو ما يمثل تحولا طفيفا ولكنه مهما في السياسة الأمريكية كما بدا من قانون قيصر عام 2019. ففي غياب شهية الولايات المتحدة لفرض العزلة على سوريا، بما في ذلك الوسائل العسكرية، بدأت الدول العربية العمل على إخراج سوريا من العزلة الدبلوماسية. وفي الأشهر الأخيرة أبدى عدد من الدول الخليجية بما فيها البحرين والإمارات العربية والسعودية رغبة في تعميق العلاقات مع النظام السوري، مع أن الدوافع والأهداف تختلف من دولة لأخرى، أما قطر والكويت فلم تبديا اهتماما بعد في فتح العلاقة مع النظام التي توقفت بطرد سوريا من الجامعة العربية بعد اندلاع الثورة عام 2011. وهناك محدودية لما يمكن أن تفعله دول الخليج العربية لتعزيز علاقاتها، ذلك أنها تظل مقيدة بنطاق قانون قيصر الواسع. ولكن القادة العرب يتذكرون أن الرئيس ترامب أعلن عن انتصاره على تنظيم الدولة الإسلامية في 2018 فهم يتوقعون والحالة هذه إعلانا من الرئيس بايدن بالخروج من سوريا في ضوء سحب القوات الأمريكية من أفغانستان بعدما أعلن أن «المهمة قد انتهت» وأن بقاء القوات الأمريكية في أفغانستان استنفد أغراضه. وعلى خلاف أفغانستان فلن تجد أحدا في الإدارة يناقش علنا أن سوريا تعد مصلحة أمريكية حيوية. وقام عدد من القادة العرب بمن فيهم الأردن والإمارات بالضغط وعلى مستويات عليا في واشنطن لاستثنائهم من قانون قيصر ودعم تواصلهم مع النظام السوري. ومن المغري وصف التواصل العربي مع النظام السوري على انه «سياسة واقعية» ومحاولة للحصول على التأثير في سوريا والمساعدة في إعادة الإعمار رغم الجرائم التي ارتكبها النظام وداعموه. أو أنها محاولات متضافرة لإبعاد سوريا عن التأثير التركي والإيراني.
تموضع قبل التسوية
وبدلا من ذلك علينا فهم محاولة كل بلد بعيدا عن دافع البلد الآخر والنظر إليها على أنها «موضعة مسبقة» قبل التسوية السياسية بدلا من كونها خطوات نحو التطبيع السياسي مع نظام الأسد في ظل الوضع القائم الآن. ويظل المناخ السياسي غير مساعد لعمليات التطبيع وستكون نتائج التواصل «برشامة» مرة من الصعب ابتلاعها، وبخاصة للسعوديين والعداء المستحكم تجاه العائلة الحاكمة في سوريا. وبالمقابل لم تبد الإمارات والبحرين حساسية مثل هذه، بل وتحدث الإماراتيون عن العلاقات الأخوية التي تعود إلى سنوات السبعينات من القرن الماضي. ويظل المناخ السياسي قاسيا والمخاطر تتفوق على المكاسب في أي عملية تطبيع. ومهما يكن الأمر، فبعد عقد من الحرب ترغب دول الخليج العربي بتطوير حل عربي للحرب وإعادة سوريا إلى «الحظيرة العربية» وهو طموح بعيد المدى ولن يحدث. إلا أن العمل باتجاه هذا الهدف يعطي دول الخليج أولوية حال قررت الولايات المتحدة حزم أمتعتها والخروج من سوريا أو توصلت لاتفاقية مع روسيا حول شكل سوريا المستقبل. ومحاولات كهذه كانت تبدو قبل أعوام غريبة أما اليوم فتبدو واقعية، ويجب أن ينظر لمحاولات دول الخليج إعادة بناء علاقاتها مع سوريا من خلال هذا الضوء. فهي تحاول بناء علاقات عمل مع النظام بعد توقف عشرة أعوام، وما سيختلف هذه المرة أنها علاقات تعاقدية وتدفعها المصلحة. فقد انتهت الأيام التي كانت تسارع فيها دول الخليج إلى أزمات المنطقة ومعها دفاتر الشيكات، فقد فشل هذا النهج وبشكل ذريع في لبنان والعراق حيث تفوقت إيران عليها. واليوم لا توجد شهية بين دول الخليج لتمويل مشاريع الإعمار بدون الحصول على ضمانات تحفظ مصالحها. ولم تقطع عمان علاقتها مع دمشق طوال الحرب، بل وزادت في الفترة الأخيرة من تمثيلها الدبلوماسي. ولكنها تفتقد الرأسمال السياسي لكي تدفع باتجاه رفع الحظر عن سوريا في الجامعة العربية، ولهذا اصطفت مع البحرين والإمارات لتحقيق هذا الهدف. ونشطت الإمارات منذ إعادة فتح العلاقات الدبلوماسية مع دمشق في 2018 مندفعة بوقف التأثير التركي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والبحر الأحمر. ففي عام 2020 استغلت الإمارات دبلوماسية كوفيد-19 كذريعة لحث النظام السوري على خرق الهدنة التي توسط بها الروس والأتراك في إدلب لمقاتلة الجماعات التي تدعمها أنقرة. وفي نفس الوقت فلا ترى الإمارات العمل مع نظام الأسد والقوات التي يقودها الأكراد أمرا متناقضا، حيث تعتقد أنهما قادران على حل خلافاتهما في أي تسوية سياسية ولهذا منحت أبو ظبي ثقلا سياسيا لمشروع إدارة ترامب الكردي «مشروع النفط» والذي كان يهدف لتوفير قوات سوريا الديمقراطية بمصدر دخل مستقل، وبدون الالتفات للاعتبارات القانونية، وحتى تكون قادرة على قتال تنظيم الدولة ومواجهة التوغلات التركية في المنطقة.
اعتبارات أردنية
ولا تختلف التحركات الأردنية في التعامل مع النظام السوري عن سعي دول عربية إعادة تأهيل الأسد وموضعة نفسها للاستفادة من أية تسوية تنهي الحرب الطويلة، بخلاف أن الأردن جار لسوريا وتأثر بالحرب من خلال استقباله حوالي 1.3 مليون لاجئ سوري وتوقفت الحركة التجارية على المعابر الحدودية. ولهذا رأى موقع «ميدل إيست آي» (11/8/2021) في تقرير أعده شين ماثيوز أن المواجهات الأخيرة في مدينة درعا تمثل تحديا لجهود تطبيع العلاقات مع حكومة الأسد، مما يؤكد الصعوبة التي تواجه جيران الأردن لإعادة العلاقات مع بلد يعاني من حرب مضى عليها عقد وعزلة دولية. واندلع القتال في درعا الشهر الماضي عندما قامت القوات الموالية للنظام بقصف درعا البلد، مركز الثورة والتي ظلت تحت سيطرة المقاتلين. واتسم القتال بالحدة حيث لم ير مثله منذ الاتفاقية التي رعتها روسيا عام 2018. وربطت تقارير التطورات الأخيرة برفض سكان درعا المشاركة في الانتخابات الأخيرة في أيار/مايو واستمرار المظاهرات المناهضة للنظام. إلا أن دمشق عازمة على ما يرى البعض على تقوية سيطرتها على الجنوب السوري ومواصلة التطبيع مع الأردن، فقبل اندلاع المواجهات تحدث وزيرا الداخلية السوري والأردني عبر الهاتف واتفقا على فتح معبر نصيب- جابر، ولكن الأردن أغلق جانبه من المعبر بسبب القتال.
وكان الملك عبد الله من أوائل القادة العرب الذين دعوا بشار الأسد للتنحي عن السلطة عام 2011 إلا أنه غير موقفه بعد استعادة نظام الأسد معظم المناطق التي خسرها بدعم من روسيا وإيران. وفي عام 2018 عين قائما بالأعمال في سفارته بدمشق، وهو تطور مهم بعد استدعاء السفير الأردني في سوريا عام 2011. واتفق البلدان على فتح جزئي لمعبر نصيب- جابر في 201 وأصبحت زيارات رجال الأعمال السوريين والأردنيين أمرا معروفا في دمشق وعمان. وفي تصريحات للعاهل الأردني في زيارته الأخيرة لواشنطن قال فيها إن الحكومة السورية «هنا لتبقى» وأكد على أهمية الحوار مع دمشق. كما ضغط الملك في زيارته لأمريكا على ضرورة استثناء بلاده من عقوبات قيصر من أجل استئناف التجارة المتبادلة بين البلدين، فالأردن يريد لعب دور المعبر للمنتجات السورية إلى دول الخليج. ويأمل بأن ينعش فتح المعبر التجارة في مدن الشمال الأردنية، إربد والرمثا القريبة من سوريا وكذا الاستفادة من مشاريع إعادة الإعمار في سوريا التي ستكلف ما بين 250 – 400 مليار دولار. وكل هذه الجهود مرتبطة بالموقف الأمريكي، فدعم العقوبات على سوريا لا يزال قويا في الكونغرس. وفي غياب السياسة الواضحة من سوريا لا يبدو أن إدارة بايدن جاهزة لتغيير سياستها بعد، ففي الشهر الماضي فرضت عقوبات على مسؤولين في الحكومة السورية. وتذكر المواجهات في درعا ومخاطر تعرض أي طرف يتعامل مع النظام للعقوبات بهشاشة الحكم في سوريا والذي وإن نجا إلا أنه ما زال يعتمد على قوى وكيلة، فالوحدات التي هاجمت درعا هي الفرقة الرابعة في الجيش السوري القريبة من إيران والميليشيات الشيعية التي تدعمها طهران. ويخشى الأردن من تعزيز إيران لوجودها على حدوده وهو ما دعا الملك عبد الله لاتهام إيران بمقابلة مع شبكة «سي أن أن» الأمريكية باستهداف بلاده بالطائرات المسيرة والهجمات السيبرانية النابعة من الجمهورية الإسلامية. ولأن الأردن يعتقد أن التعامل مع سوريا يعطيه نفوذا قويا فيها، في وقت تبتعد فيه السياسة الأمريكية وتركز على المخاطر الكبرى النابعة من روسيا والصين، فقد حمل الملك عبد الله اهتماماته للرئيس فلاديمير بوتين، الذي تلعب بلاده دورا مهما في سوريا وكانت وراء الترتيبات في الجنوب السوري وفي إدلب وهي بمثابة الضامن للنظام السوري. وفي النهاية، تظل المحاولات الأردنية رهن الضغوط الأمريكية.
تغيير الوضع القائم
ويواجه الأردن تحديات أخرى غير سوريا، وهو الملف الفلسطيني، فالملك عبد الله وإن أكد على أهمية حل الدولتين وتساءل عن طبيعة حل الدولة ثنائية القومية إلا أن بايدن لم يذكر الملف الفلسطيني في لقائه مع نفتالي بينيت بالبيت الأبيض إلا بشكل عابر، ولم يتطرق رئيس الوزراء الإسرائيلي للموضوع أبدا. وقبل وصوله لواشنطن قال لصحيفة «نيويورك تايمز» إنه لن يحاول ضم المستوطنات في المناطق الفلسطينية وسيعمل في الوقت نفسه على منع وقوعها تحت السيادة الإسرائيلية. وكما لاحظت صحيفة «واشنطن بوست» (27/8/2021) فقد حاول الزعيمان تجنب الخلافات في اللقاء الأول والتركيز على بناء الثقة بينهما، بالإضافة إلى أن إدارة بايدن التي تدعم حل الدولتين لا شهية لها للقيام بمحاولة جديدة، وفي ضوء أحداث أفغانستان فسيظل الملف الفلسطيني مجمدا وتواصل إسرائيل خلق حقائق على الأردن. وسيشعر الأردن بالقلق، وخاصة فيما يتعلق بالحرم الشريف في القدس وما كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» (24/8/2021) أن إسرائيل تسمح وبهدوء بصلاة اليهود في باحة الحرم الشريف، مما سيزيد من التوتر ويغير الوضع القائم الذي يريد الأردن الحفاظ عليه باعتباره الوصي على الأماكن المقدسة. وفي الوقت الذي أكد فيه مكتب بينيت «ألا تغيير على الوضع القائم» إلا أن مراسلي الصحيفة شاهدوا المصلين اليهود في مكان منعزل في الجناح الشرقي للحرم. وفي صباحين شاهدوا ضباطا إسرائيليين يقفون بين المصلين ومسؤولي هيئة الأوقاف التابعة للأردن لمنعهم من التدخل، ما يعني صداعا جديدا بعد أحداث أيار/مايو الأخيرة.
المصدر: القدس العربي