علاء الدين أبو زينة
في اليمن أطلقوا الألعاب النارية؛ في الصومال وزعوا الحلويات؛ في سورية، أشادوا بطالبان لتقديمها “نموذجًا حيًا” لكيفية “الإطاحة بنظام إجرامي” من خلال الجهاد. في جميع أنحاء العالم، كان الجهاديون مبتهجين بسقوط كابول. من خلال قوة الإرادة، والصبر والمكر، تمكنت عصبة منخفضة الميزانية والإمكانيات من المحاربين المقدسين من هزيمة أميركا وتولت السلطة في دولة متوسطة الحجم. وبالنسبة للمسلمين الذين يتوقون إلى طرد الكفار والإطاحة بالدول العلمانية، كان ذلك دليلًا على رضا الله. ويمكن الشعور بالآثار واسعة النطاق لما حدث في أفغانستان في الأماكن الدانية والقصية.
في الأيام القليلة المقبلة، سيتعين على الرئيس جو بايدن أن يرتب الفوضى التي أحدثها في مطار كابول، حيث تريد الجماهير الفرار بيأس. وهي لحظة خطيرة بالنسبة لرئاسته. وعلى المدى الأطول، يجب على العالم أن يتعامل مع الدفعة التي تلقتها الجهادية من النجاح في إذلال أميركا. ولا يكمن الخطر الرئيسي في أن يستخدم الإرهابيون أفغانستان كقاعدة يمكن منها ضرب الغرب، كما فعلوا في 11 أيلول (سبتمبر) 2001. فقد أصبح تنفيذ مثل هذه الهجمات أكثر صعوبة الآن، وقد أصبحت الدول الغنية تتمتع بأمن أفضل. وإلى جانب ذلك، من غير المرجح أن تتسامح طالبان مع وجود معسكرات تدريب كبيرة للإرهابيين من ذوي الاتجاهات العالمية، لأنها تتطلع بتوق إلى تلقي الاعتراف والمساعدة الدوليتين.
من المؤكد أن البعض في طالبان يشعرون بأن عليهم واجب الضيافة تجاه الجهاديين السنة الأجانب، وسيساعد البعض أبناء عمومتهم المتشددين في باكستان، ما يجعل تلك الدولة المسلحة نوويًا أقل استقرارًا. لكن الآثار المتسعة خارج أفغانستان ستكون نفسية. سوف يؤدي انتصار طالبان إلى تأجيج حماسة الجهاديين في البلدان الأخرى، ودفع المجندين للانضمام إليهم. وسوف يتلقى بعض الذين يعيشون في البلدان الغنية الإلهام لارتكاب أعمال إرهابية هناك. ولا يتطلب الأمر الكثير من هذه الهجمات لبث شعور بالخوف أو تعكير صفو السياسات الداخلية.
لكن الأسوأ حتى من ذلك هو التأثير الذي قد يحدث في الدول الفقيرة والضعيفة، حيث يطمح الجهاديون -ليس إلى مجرد القتل، وإنما السيطرة على الأرض، أو على الأقل منع الحكومة من فعل ذلك. وهم يفعلون ذلك مسبقاً في أماكن مثل باكستان، واليمن، وسورية، ونيجيريا، ومالي، والصومال وموزمبيق. ويهددون بفعل الشيء نفسه في أجزاء أخرى عديدة من آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. ويتساءل الكثيرون منهم الآن: إذا كان إخواننا الأفغان قادرين على هزيمة قوة عظمى، أفلا يمكننا بالتأكيد هزيمة حكامنا البائسين؟
ليس الجهاديون كلهم الشيء نفسه. الكثيرون منهم يختلفون حول العقيدة. ويكره الكثيرون ويقاتلون بعضهم بعضا. ويعبر أنصار “داعش” بغرابة عن ازدرائهم لطالبان، باعتبار الأخيرين عملاء للأميركيين. وكان أول ما فعلته طالبان في كابول الأسبوع الماضي هو إخراج زعيم تنظيم “داعش” في جنوب آسيا من السجن وقتله.
تنطلق معظم الجماعات الجهادية بشكل أساسي من دافع المظالم المحلية: حكومة جشعة مفترسة؛ وانقسام عرقي أو طائفي؛ ومتطفلين كافرين. ومع ذلك، فإنهم يستفيدون أيضًا من سرد عالمي سائد. إنهم يرون على شاشاتهم أدلة يومية على أن الاضطهاد الذي يواجهونه في الوطن هو جزء من نمط أوسع من اضطهاد المسلمين، من معسكرات العمل في شينجيانغ إلى الجحيم في غزة. وعندما ينجح جهاديون في أي مكان، فإنهم يشعرون بالفخر ويرون في ذلك دعوة إلى العمل.
يخلق الحكم السيئ مساحات للجهادية. وعندما تكون دولة ما غير عادلة، قد يتصور مواطنوها أن دولة يديرها الجهاديون ربما تكون أفضل. وحتى لو لم يحملوا السلاح، فإنهم قد يدعمون بهدوء أولئك الذين يفعلون. وقد قرر العديد من الأفغان في المناطق الريفية أن عدالة طالبان، على الرغم من قسوتها، كانت أسرع وأقل فسادًا من المحاكم الحكومية؛ وأن نقاط تفتيش طالبان كانت أقل نهبًا. وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى أن لا تواجه مسيرة طالبان الأخيرة إلى السلطة الكثير من المقاومة. وكان السبب الآخر نفسيًا: لقد انتصر طالبان لأن الأفغان، عندما انسحبت أميركا، لم يريدوا أن يموتوا وهم يقاتلون من أجل قضية خاسرة. وتنطبق مبادئ مماثلة على أماكن أخرى أيضاً. من الصعب التغلب على الجهاديين في شمال شرق نيجيريا لأن السكان المحليين يكرهون الحكومة المركزية، بينما يقوم ضباط الجيش ببيع أسلحة رجالهم للمقاتلين ويضعون الأموال في جيوبهم.
ومع ذلك، بمجرد أن يفوز الجهاديون بالسلطة، فإنهم يجدون أن أيديولوجيتهم تجعل الحكم صعبًا. سوف تجعل رغبتهم في إنشاء مجتمع تقي تمامًا، وعدم تسامحهم القاسي مع الانحراف عن هذا المثل الأعلى، من التسوية البراغماتية مُرتقى صعبًا. وقد استمر حكم “داعش” على جزء كبير من العراق وسورية ثلاث سنوات فقط. وأدت عادتها المتمثلة في إغراق الناس بالماء وهم داخل أقفاص إلى نفور السكان السنة الذين كان يمكن أن يكونوا متعاطفين. وكذلك فعل فشلها في تعزيز الأنشطة الاقتصادية بغير النهب والخطف. وقد أخافت القوى الخارجية والعراقيين الشيعة لدرجة أنهم اجتمعوا معًا لسحقها.
كما كان مقاتلو طالبان حكامًا مروعين عندما حكموا أفغانستان آخر مرة. وسوف يعتمد الكثير على ما إذا كانوا قد تعلموا من أخطائهم. وإذا تمكنت مجموعة من الجهاديين -ليس من الاستيلاء على دولة فحسب، بل وإدارتها بشكل جيد أيضاً، فإن الجهاديين في كل مكان سيرونها منارة. ويواجه كبار أعضاء طالبان معاناة كبيرة من أجل أن يظهروا بمظهر البراغماتيين ويصرون على أنهم سيحترمون حقوق الإنسان. لكن أوقاتاً عصيبة تنتظر في الأمام. وقد ارتكب جنود طالبان الفظائع مسبقاً. وثمة العديد من الأفغان في المناطق الحضرية، الذين تذوقوا حرية ارتداء الملابس والعمل والدراسة كما يحلو لهم، حتى الإناث منهم، ويحتقرون النظام الجديد. ولأن احتياطيات البلد مجمدة في أميركا، فإنه يعاني نقصا في السيولة. والاقتصاد متعطل. والأسعار ترتفع. ولم تكشف طالبان بعد عن أفكار جيدة لإحياء الاقتصاد. وبدلاً من ذلك، يصرخ قادة الحركة بأن الأفغان المهرة يجب ألا يهاجروا. لكن الأفغان المهرة قد تكون لديهم أفكار أخرى.
أحد الدروس المستفادة من الفشل الأفغاني هو أن ما يحدث في الدول الفاشلة البعيدة لا يهم الأشخاص الذين يعيشون فيها وحدهم، وإنما يهم بقية العالم أيضاً. وتعني الكارثة في كابول اليوم تدفقات أكبر للاجئين، والمزيد من الهجمات الجهادية، وفرصة أكبر لانتصار حركات التمرد الإسلاموية الأخرى. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى زعزعة استقرار عدد كبير من البلدان بطريقة تعرِّض للخطر كلاً من السكان المحليين والأجانب الذين يزورون تلك الأماكن أو يقومون بأعمال تجارية فيها.
وثمة درس آخر هو أن المقاربة العسكرية البحتة لمحاربة الجهادية لا تفعل الكثير لجعل الأرض أقل خصوبة لها. ويكمن الحل طويل الأمد في بناء دول أقل فظاعة وأقل إقصائية. ولو كانت الحكومة الأفغانية القديمة أقل فسادًا وأقل عجزًا في التعامل مع سماسرة السلطة القبلية، فإنها ربما كانت لتصبح أكثر مقاومة. وبالمثل، لو كان حكمت شمال موزمبيق، أو جنوب تايلاند، أو كشمير، أو المساحات الشاسعة من الساحل الأفريقي، حكومات أكثر اعتدالًا، فإنها ربما لم تكن لتشكل ملاذًا للجهاديين المتشددين.
إن تحسين الحوكمة أمر صعب، وليس أقل المصاعب أن العديد من البلدان الضعيفة أمام الجهاديين تعاني أيضًا تغير المناخ. وتزيد حالات الجفاف المتكررة من تأجيج السخط وتثير النزاعات حول المياه والمراعي. ويمكن للمانحين تقديم المشورة والنقود في هذا الصدد، لكن الأمر يعود في النهاية إلى السكان المحليين لبناء مؤسسات عاملة. وما لم تقدم الدول الحالية لمواطنيها الخدمات الأساسية وشيئاً يشبه العدالة، فإن أغنية عرائس البحر الفاتنة التي تنادي الجهاديين ستظل تتردد، مغوية، على الدوام.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: Following the Taliban: After Afghanistan, where next for global jihad?
المصدر: الغد الأردنية/(الإيكونوميست)