عبدالوهاب بدرخان
خلال حرب غزة في أيار (مايو) الماضي، طلبت الولايات المتحدة من مصر ودول عربية أخرى بذل جهودها لوقف إطلاق النار، لقاء وعود بإحياء المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، باعتبارها المسار الطبيعي لمنع تكرار الحرب. وبعد وقف النار انتقل الحديث الى “التهدئة” وضرورة تثبيتها كي يمكن البحث في إعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل. مرّت أربعة أشهر من دون التوصّل الى “التهدئة”، وساد الجمود ملف إعادة الإعمار، لأن إسرائيل ربطته باتفاقٍ على تبادل الأسرى بشروط تصرّ عليها منذ 2014، لكن “حماس” وفصائل غزّة ترفضها. أما إحياء المفاوضات فلاح فيه لفترة بعض الأمل، مع تأكيد الإدارة الأميركية تفضيلها خيار “حل الدولتين”، إلا أن الرئيس جو بايدن لا يرغب في إطلاق أي مبادرة، فهو عايش إخفاق المبادرات السابقة ولا يرى أن الظروف تغيّرت، بل الأرجح أنها ازدادت سوءاً.
لا يُعتمد على واشنطن في قول كلمة حق عندما يتعلّق الأمر بإسرائيل، حتى لو كان عدد من دبلوماسييها يعبّرون بصراحة أحياناً عن آرائهم، غير أن تحليل المواقف شيء والسياسة المتّبعة شيء آخر. تعرف واشنطن أن تعنّت إسرائيل سببٌ رئيسي في فشل كل المساعي التفاوضية السابقة، بل شاركتها فيه، لكنها لا تتهمها بل تحاول معالجة الفشل بالبحث عن تنازلات من الجانب الفلسطيني – العربي. ومع أن الإدارة الحالية تعتبر أن سياسة الرئيس السابق ضاعفت الصعوبات في هذا الملف، إلا أنه ليس من الوارد أن يتراجع بايدن عن أي مكاسب قدّمها دونالد ترامب الى إسرائيل. الأسوأ أنه لا يستطيع التراجع عن “مكاسب” موضع جدل، تصرّف بنيامين نتنياهو على أنه حصّلها، ومنها مثلاً ابتلاع القدس الشرقية، أو إبقاء ضمّ أراضي الضفّة (وفقاً لـ”صفقة القرن”) “خياراً” قائماً.
أضيفَ الآن ما هو أقلّ تعقيداً كإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، إذ شهرت إسرائيل ضدّها اعتراضاً “استراتيجياً”. حتى أن وزير الخارجية يئير لبيد اعتبرها “فكرة سيّئة وترسل رسالة سيّئة قد تزعزع استقرار الحكومة الإسرائيلية القائمة”.
أصبح من واجب الأطراف الدوليين، وربما الفلسطينيين والعرب، أن يحافظوا على هذه الحكومة، وكأنها نقيض خالص لنتنياهو وزمرة المتطرّفين التي شاركته الحكم. لكن “الرسالة السيئة” التي قصدها لبيد هي أن إعادة فتح القنصلية تعني أن واشنطن لا تعتبر القدس الشرقية جزءاً من “القدس” التي اعترف بها ترامب “عاصمة لإسرائيل”. الواقع أنها “رسالة سيئة” الى عرب وغير عرب، يرون أن لبيد يختلف عن نتنياهو أو عن نفتالي بينيت، وإذا كان هناك من فارق فعلاً فإنه لن يظهره إطلاقاً لئلا يجازف بائتلافه الحكومي.
كان بينيت، قبل أن يسافر الى واشنطن ليتحادث مع بايدن في “الشأن الإيراني” تحديداً، قد أعطى موافقته على لقاء وزير الدفاع بيني غانتس الرئيس الفلسطيني محمود عباس للبحث “فقط” في شؤون أمنية واقتصادية. استعاد بينيت خيار “السلام الاقتصادي”، كما طرحه نتنياهو سابقاً مقابل رفضه الشروط الفلسطينية للعودة الى التفاوض السياسي. وكان بينيت شريكاً في كل الحكومات التي خلت برامجها من أي بند يتعلق بالمسألة الفلسطينية، كأنها لم تعد قائمة إلا بالجانب الأمني المتروك لجيش الاحتلال. لكن الموافقة على إجراءات وتسهيلات اقتصادية واجتماعية يبلغها غانتس الى الجانب الفلسطيني كانت تلبية لإلحاح أميركي على “تقوية” السلطة الفلسطينية في مقابل “حماس”، باعتبار أن واشنطن، وحتى إسرائيل، تحتاجان الى جهة معترف بها ويمكن العمل معها. في المقابل، لم يمانع الجانب الفلسطيني معاودة الاتصالات مع سلطة الاحتلال وقبول ما تعرضه عليه كـ”إجراءات لبناء الثقة”، نظراً الى أن الخيارات الأخرى معدومة.
غير أن ردود الفعل المسعورة، بعد لقاء عباس – غانتس، ومن أحزاب اليمين في “الائتلاف”، تجاوزت حتى حدود المزايدات السياسية المعهودة، مستندة الى أن غانتس “خرج عن النص” متطرقاً الى جوانب سياسية. لكن الرئيس عباس هو مَن أثار هذا الملف، ولم يكن بإمكان غانتس أن يمنعه كما يريد حلفاؤه في الحكومة، لذا قفز هؤلاء مباشرة الى التذكير بأن “العودة الى أي تسوية على أساس الدولتين” مرفوضة ومحرّمة، وأنه “لن تكون دولة فلسطينية في الضفة”، وأن “من واجب الجيش الإسرائيلي أن يستعدّ لليوم التالي بعد أبو مازن”… لكن أسباب الاعتراض تعود الى “التسهيلات” نفسها، ومنها إجراءات لمّ الشمل لآلاف العائلات المتوقفة منذ 2009، بل منها خصوصاً منح تراخيص للفلسطينيين للبناء في المنطقة “ج” الواقعة كلياً تحت سلطة الاحتلال، ما استفزّ أنصار بينيت من المستوطنين، وحلفاءه في الحكومة، إذ فسّروا هذا الإجراء بأنه لا يعتزم ضمّ المنطقة “ج”.
كانت القاهرة قد سارعت، خلال توسّطها لوقف إطلاق النار في حرب غزة، الى التنبيه بأن نتائج وساطاتها تبقى هشّة وآنية ما لم يُفتح المسار السياسي مجدّداً. لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي سيلتقي بينيت قريباً، تلقّى من الأخير تأكيدات بأنه غير معني بالبحث في ملف التفاوض، وقد كرّر ذلك بعد لقائه بايدن وبعد عودته من واشنطن وبعد “معاقبته” غانتس، خلال لقاء افتراضي مع قادة منظمات يهودية أميركية، إذ برّر رفضه لقاء عباس بالشكوى الفلسطينية ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، كما قال إنه لا يريد للقاءٍ كهذا أن يخلق لدى الفلسطينيين “وهماً بشيء لن يحدث”.
وبالتالي، فإنه لن يحمل الى لقائه مع السيسي سوى الملف الأمني (شروط التهدئة، صفقة تبادل الأسرى، تشديد المراقبة على تسلّح “حماس”…).
لذلك أخذت القمة المصرية – الأردنية – الفلسطينية علماً بأن “التسهيلات الاقتصادية” للفلسطينيين هي أقصى ما يمكن أن تقدّمه إسرائيل في هذه المرحلة. وبما أن السيسي وعباس والملك عبد الله الثاني اجتمعوا لتوحيد موقفهم قبيل الجمعية العامة للأم المتحدة، فإنهم لم يجدوا سوى العودة الى المواقف التقليدية (التمسّك بـ”حل الدولتين” ومناشدة واشنطن الحفاظ عليه، المطالبة بالحدّ من السياسة الاستيطانية، الحفاظ على الوضع التاريخي والقانوني لمدينة القدس، مواصلة العمل لتحقيق المصالحة الفلسطينية…). وطالما أن لا جديد عند إسرائيل فلا جديد عند أميركا، سوى انتظار الحرب التالية مع غزّة وفيها.
المصدر: النهار العربي