د. سعيد الشهابي
لم يبدأ حتى الآن السجال الجاد حول التداعيات التي ستتمخض عن الانسحاب الأمريكي المفاجئ من أفغانستان، وما نجم عنه خصوصا استيلاء حركة طالبان على الحكم. جاء ذلك بعد عشرين عاما من العودة الأمريكية القوية للمسرح العالمي التي ترسخت بعد عشر سنوات من الحرب التي شنها الحلفاء بقيادة أمريكا لإخراج القوات العراقية من الكويت. وقبل ذلك كانت أمريكا ما تزال تعيش شبح انسحابها المهين من فيتنام التي كانت قد انتهت في العام 1975 فأصبحت تتحاشى التورط في نزاع مثله يستنزف طاقاتها بدون مردود حقيقي.
بقيت مشاهد الهروب الأمريكي المستعجل من سايغون تطارد أمريكا 15 عاما، فيما كانت الحرب الباردة تتراجع عن ذروتها لتتلاشى بانسحاب الاتحاد السوفياتي من أفغانستان وتفككه في مطلع التسعينيات. لذلك بدأ السجال حول مستقبل الدور الأمريكي في السياسة العالمية وما إذا كان انسحابها الأخير يعني بداية تطبيق مبدأ «أمريكا أولا» الذي يعني التوجه نحو الداخل للتعاطي مع أزمات عديدة، سياسية وعرقية واقتصادية وبيئية. ولكل من هذه الأزمات تداعياتها وأعباؤها السياسية والاقتصادية.
السجال المتوقع حول الدور الأمريكي العالمي يرتبط بشكل أو آخر مع ما يفترض قيامه من سجال حول الشرق الأوسط وما يجري فيه من تطورات. فثمة رأي يقول إن الولايات المتحدة كانت تعد للانسحاب من المنطقة بعد أن تضمن مستقبل أمن «إسرائيل» وتدفع باتجاه ما حدث من تطبيع بين بعض الحكومات مع قوات الاحتلال. ونجاح هذا السيناريو يتطلب استمرار الوضع الراهن الذي تعيش الشعوب فيه مهمشة. ويقود هذا الافتراض لإعادة قراءة المشهد العربي وتطوراته خلال السنوات العشر التي أعقبت قمع الربيع العربي وثوراته، فثمة من يقول أن الصمت الغربي بقيادة أمريكا إزاء أبشع حملة قمعية للشعوب العربية التي ثارت ضد حكامها جاء في سياق التخطيط الأمريكي للانسحاب من المنطقة بعد ضمان أمن «إسرائيل» من خلال مشروع التطبيع الذي بدأت ملامحه تظهر منذ أن أعلن الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس. وربما كان ذلك القرار بالون اختبار لردود الفعل في العالمين العربي والإسلامي. وكان واضحا أن القمع الذي وجه للشعوب منذ العام 2011 ساهم في «تحييد» الرأي العام إزاء القضايا المصيرية ومنها قضية فلسطين، فلم يقابَل نقل السفارة بردة فعل عربية او إسلامية فاعلة.
وهكذا تبدو تطورات أفغانستان الاخيرة خطوة متطورة ضمن سياسة الانسحاب الأمريكي التي شملت كذلك توجه واشنطن لـ «العمل الأحادي، يونيلاتيرالزيم». وتزامن البدء بتنفيذ سياسة الانكفاء الأمريكي مع سياسة معاكسة رددها الساسة البريطانيون في السنوات الأخيرة. جوهر هذه السياسة رغبة البريطانيين في العودة إلى المسرح الدولي من أوسع الأبواب. لكن هذه السياسة كانت متكئة على استمرار الحضور الأمريكي الدولي على الصعيدين السياسي والعسكري. لذلك كان رد فعل بريطانيا على خطوة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان غاضبة جدا. ومن يتابع ذلك يكتشف مصاديقه في وسائل الإعلام البريطانية التي لم تتوقف عن انتقاد الخطوة الأمريكية وإبداء الانزعاج الواضح مما حدث.
فبريطانيا كانت تخطط لدور دولي واسع بالتوازي مع الدور الأمريكي، وليس بانفراد. وقد تعلمت دروسا من حقبة الحرب الباردة، وأنها لم تكن قطبا متقدما في تلك الحقبة إلا بالإتكاء على الولايات المتحدة ضمن ما اصطلح على تسميته «العلاقات الخاصة». وعندما تحدث الساسة البريطانيون عن رغبتهم في العودة إلى المسرح الدولي كقوة كبرى كانوا يفترضون أن أمريكا ستبقى اللاعب الأقوى في ذلك المسرح. لذلك كانت ردة فعلهم على ما جرى شديدة، تتسم بالغضب والرفض. وكشفوا عن عجزهم عندما أعلنوا انهم لن يستطيعوا وحدهم تسيير رحلات طيران من مطار كابول لنقل الآلاف من رعاياهم او الذين عملوا معهم كمترجمين، وتركوهم ليواجهوا مصيرهم بعد ذلك. فاستحضرت ذاكرة الكثيرين مشاهد الفرار الأمريكي من مستنقع حرب فيتنام التي كلفت أمريكا اكثر من 58 ألف قتيل.
في ظل هذه الحقائق، ما مستقبل المنطقة العربية؟ ثمة مؤشرات لتوجه الأمور فيها. الأول: أن على حكوماتها أن تبحث عن أساليب جديدة للحفاظ على أمنها، وان القواعد العسكرية الأمريكية التي وفرت لها قدرا من الإحساس بالأمن قد لا تبقى طويلا، وأن المعاهدات الدفاعية الثنائية لن تكون مجدية في غياب الوجود الأمريكي على الأرض. الثاني: أن أمن المنطقة يجب أن يتحقق بتعاون دوله وشعوبه، ولن يحققه الأجانب. ويجب أن يكون ذلك جانبا من استراتيجية دفاعية مشتركة خصوصا في منطقة الخليج. فلم يعد هناك مجال لضمان أمن الخليج سوى عن طريق تعاون أهله، على ضفتيه الإيرانية والعربية. هذا الأمن بقي همّا حاضرا في استراتيجيات المحور الذي تقوده أمريكا خلال الحرب الباردة، وهي استراتيجية منعت وصول السوفيات إلى ما يسمى «المياه الدافئة». الثالث: إن من الضرورة بمكان أن تتخلى الحكومات عن سياساتها التي سعت من خلالها لبسط نفوذها وتوسيعه إلى خارج حدود المنطقة، لاستيعاب حقائق الواقع وأن مصلحة الجميع تقتضي الحفاظ على ما هو قائم من ترتيبات عسكرية وأمنية، والتخلي عن عقلبة التوسع والاستحواذ والإقصاء.
الرابع: أن أمن المنطقة لا ينحصر بتوفير أدواته العسكرية وأجهزته الأمنية فحسب، بل يتطلب شراكة حقيقية على المستويات المحلية لاحتواء الجميع، حكومات وشعوبا، ضمن مشروع ينهض بأعباء الأمن والاستقرار، ويتخلى عن عقلية الاعتماد على الوجود الأمريكي او البريطاني. خصوصا أن ذلك الوجود لم يمنع حدوث التوتر والخلافات بل الحروب الطاحنة. وكان من مصلحة الوجود الأجنبي إشعال الحروب لضمان تشغيل مصانع السلاح الغربية. الخامس: أن المنطقة في حاجة لتحديد هويتها بعد عقود من الضياع. وفي ظل تراجع القوتين الكبريين اللتين هيمنتا على الوضع العربي على الأقل منذ الحرب العالمية الثانية، حان الوقت لنهضة عربية جوهرها تحديد هوية هذا العالم المستهدف من كل الجهات.
ستظل مسألة هوية العالم العربي مثارا للغط الواسع. فقد شهدت المائة عام الاخيرة صراعا مريرا من أجل تحديد هذه الهوية. ففي حقبة ضعف الدولة العثمانية طرحت القومية كعامل لتوحيد المنطقة، وأصبح لها أصداء واسعة من المحيط إلى الخليج. ولكن الزخم الذي أحدثته الدعوة القومية لم يحقق أمن المنطقة. وربما ساهم المد اليساري خصوصا الشيوعي في المنطقة في تقليل وهج المشروع القومي نظرا لما انطوى عليه من تهميش للدين، وتحسس قطاعات مجتمعية كبيرة من انتشار الشيوعية في المنطقة. ففيما كان نضال شعوبها من أجل الاستقلال محتدما تعرضت لنكبة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، إذ فُرض عليها الكيان الإسرائيلي ليكون ضربة موجعة في خاصرة الأمة. ولم تتحول المشاعر القومية إلى قوة جامعة تواجه الاحتلال، بل كان ذلك الاحتلال عاملا آخر ساهم في بقاء الأمة خارج السياقات التاريخية المعاصرة. وجاءت نكسة حرب حزيران في العام 1967 لتطفئ الوهج القومي وتدخل المنطقة في صراع جديد من أجل تحديد الهوية. وجاءت الصحوة الإسلامية بعد ذلك، وكانت جامعة لشعوبها مرة أخرى من المحيط إلى الخليج، ولكنها تعرضت لواحدة من أبشع حملات الاضطهاد والقمع التي تصاعدت بعد ثورات الربيع العربي.
وهكذا فان السعي المتواصل لانتشال العالم العربي من الضياع الفكري وأزمة الهوية سوف يزداد في الفترة المقبلة لأسباب عديدة: أولها: أن أيا من محاولات تحديد هذه الهوية في العقود السابقة لم تحل الأزمة، فبقي ثمة فراغ في الوجدان الشعبي يضغط على المرء لتحديد الانتماء، ثانيها: أن كلا من القومية والدين طرحا في السابق كهويتين منفصلتين، وربما متعارضتين، وليس مستبعدا أن يعاد طرحهما كهوية واحدة متكاملة.
انسحاب أمريكا وبريطانيا، لو حدث، لن ينهي الأزمات التي تواجه المنطقة، بل ستتواصل الأمة ما دام الاحتلال مستمرا مدعوما بالاستبداد والديكتاتورية وحكم العسكر في أكثر من بلد عربي. فليكن الوعي والحذر والبصيرة أهم سمات الموقف، خصوصا في أوساط الأجيال الجديدة.
كاتب بحريني
المصدر: القدس العربي