محمود الوهب
العرب، شعوباً وقبائل، بحاجة إلى جرعةٍ من التفاؤل. جرعة أملٍ تخرجهم من الحال الذي هم فيه. والعرب هنا دول المنطقة، بما تمثله من أقوام وأديان وطوائف تتعايش في تلك الدول. والعرب دولاً بحاجة، وبغض النظر عن مآل الربيع العربي، إلى خلاصٍ من عطالة الواقع الذي تعيشه منذ أزمان، ما أوصلها إلى حالٍ من الركود الكلي، أفسح معه في المجال لأمراضٍ أخذت تنهش في أرواحها وهياكلها، مهدّدة إياها بالموت تهميشاً واستبعاداً عن ملامسة حضارة عصرها.. وكانت بين الحربين العالميتين، وما بعدهما، أي بعد أن نالت استقلالها عن الانتداب والاحتلال تعد بحياة جديدة، وعيشٍ رغيد على يد من سيحكمها من أهلها. لكن ما شهدته شعوب معظم تلك البلاد كان أسوأ مما عانته فيما سبق، فلم يعد أحدٌ يرى غير الصور القاتمة للواقع العربي في مختلف دوله، وخصوصاً في تلك التي كانت تعد بكثير من التحرّر والنمو والتقدّم، مثل سورية والعراق، وحتى ليبيا واليمن ولبنان الذي كان في سبعينيات القرن الماضي يحتضن فلسطين الناشطة في زراعة بذور أمل العودة عبر مقاومة جدّية.
ولكنَّ المفارقة المحزنة تقول إن حال تلك الدول ساءت، بعد أن كبرت أحلامها بنيلها استقلالها، واصطنع عسكرها لأنفسهم ثوراتٍ فصّلوها على حجم فرديتهم القاتلة، وهم من أهل البلد الذين فرح بهم كل من ساهم بالاستقلال. لكنهم، وبكل أسف، كانوا أسوأ بما لا يقاس ممن استعمروا بلدانهم. ولن يجري الحديث هنا عما آلت إليه كل من لبنان وسورية والعراق، حيث الفوضى والجوع والفساد والدم أيضاً، إضافة إلى اليمن الذي لا يزال ينزف على غير صعيد، فصورة المنطقة واضحة للجميع، وواضح كذلك أن رعونة حكامها السياسية وقمعهم وفسادهم ومن حولهم ما أوصل بلادهم إلى ما هي عليه من أحوال.
في هذه الأجواء يأتي مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة، في مبادرة ربما هي الضرورة الأكيدة المنبثقة من ذلك الواقع، لتلمس أسباب الخروج من تلك الصراعات والمطامع التي أغرقت المنطقة بالدماء والفوضى، إلى درجة أغلقت معها كل أفقٍ يمكن أن يخرجها من تلك الأنفاق المظلمة التي أدخلت فيها، فأهدرت معها ثرواتها وطاقات شعبها، فلا حصاد لها غير الكراهية والأحقاد، إنْ على صعيد الشعب الواحد، أم على صعيد المنطقة!
نعم، مؤتمر بغداد ضرورة موضوعية، يجب التمسّك به، وبمخرجاته مهما كانت هشة، ولا بد من تقويتها في مجال التنفيذ العملي، ولا يهم من كان خلف الدعوة إليه، بل المهم ما ينتج عن مثل هذا المؤتمر في زمن التكتلات الدولية، القائمة على المنافع المشتركة.. ومَن أكثر من منطقة الشرق الأوسط بحاجةٍ إلى تكاتفٍ وتضامن في وجه الهجمة عليها، منذ أن تفكّكت آخر الإمبراطوريات لدى نهاية الحرب العالمية الأولى، وبرز الصراع حول المنطقة واشتد خلال الحرب الباردة، ولم يزل، على الرغم من أن بعض دوله تباينت قوة وضعفاً، وصار القوي بينها يطمع بالضعيف، وعين البعيد الأكثر قوة لا تنام.
ثمّة من يرى أن الولايات المتحدة هي التي دعت إلى مؤتمر بغداد، بهدف ضمان مصالحها. هكذا بكل بساطة تدعو أميركا، صاحبة فكرة الفوضى الخلاقة وراعيتها، إلى مثل هذا المؤتمر لتعيد ما خربته بيديها. وتنفي رؤية أخرى أية إرادة عن رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، وأي إحساس بالمسؤولية يفرضها عليه الواقع، للخلاص مما يجري، فهو لا يقوى أن يقول لوزير الخارجية الإيراني الذي اصطف في المقدمة عند التقاط الصورة التذكارية للمشاركين في المؤتمر: السيد الوزير مكانك ليس بين الرؤساء إذا سمحت.. وكأن السيد الوزير لا يعرف هذه الحقيقة، ولا هو خبير بالأعراف الدبلوماسية، ولا يرافقه من بها عليم. ولكن الأمر كله ناجم عن غليان داخلي ورغبة بالاستفزاز، والقول إن إيران في المقدّمة، وإن لم يحضر رئيسها. والكاظمي حريصٌ على أن ينجح المؤتمر، وإنْ بحدوده الدنيا.
حسناً، لنفترض أن أميركا هي التي دعت إلى ذلك المؤتمر، فما الذي يجعل المعنيين به لا يأخذونه على محمل الجد، واستثماره على نحو يجعل، كما سلف أعلاه، من هذه المنطقة عصيةً على كل طامع، وينعكس على استقلال بلدانها، وعدم تدخل الدول القوية بالأخرى الضعيفة، أو الأقل قوة، وأن تنعكس خيراتها على تنمية شعوبها، فما الضير في ذلك؟ ولماذا يصوّر الصراع في العراق أنه بين موالاة لإيران وأخرى لأميركا (الشيطان الأكبر)؟ وهل يعبر ذلك عن واقع الحال، أم إن كل نهضة وطنية يجب أن يشكك فيها مسبقاً؟ ثم ألم نلمح بوادر تلك الصحوة من خلال المظاهرات التي تعمّ المدن العراقية منذ سنتين، ورفعت شعارات وطنية أعلت من شأن العراق الجامع، رافضة كل شعار يفرق، وقدمت مئات الشهداء، متقاطعة بذلك مع ما جرى في لبنان أيضاً، وكتبت مقالات قالت الكثير عن نهب العراق من خلال علاقات تجارية غير متكافئة وغير متوازنة؟
مؤتمر بغداد في أدنى مستوى له نقطة مضيئة في وقتٍ تنقطع فيه الكهرباء عن العراق ولبنان وسورية. ولا شك في أن مصاعب جمَّة تعكس مصالح متناقضة أمام ما طرحه المؤتمر، لكن الكثير من تلك المصالح ليست محقّة في جوهرها، فهي مطامع ترفضها أعراف العلاقات الدولية.
لقد انتهت الحرب الباردة منذ ثلاثة عقود، وردمت خنادقها، فلماذا يجري البحث عن بدائل في الميدان نفسه؟ وما مصلحتنا في عداوة هذه الدولة أو تلك من الدول العظمى أو الإقليمية، إلا إذا فرضت عداوتها. ولم لا نقيم علاقات حسن جوار مع دول المنطقة كافة، عربية وغير عربية، فلا مصلحة لنا اليوم إلا فيما يقود إلى نهوضنا الذي يتجّلى سياسياً في ردم الهوَّة بين الحاكم والمحكوم، من خلال بناء دول ديمقراطية، يمتلك فيها الشعب زمام أمره، والميل باتجاه اقتصادٍ إنتاجي يقوم على أسس من العلوم، والمعارف المتخصّصة، والتكنولوجيا الرفيعة، فالاقتصاد الريعي الاستهلاكي لم يجعل بلداننا وراء الأمم فحسب، بل فتح نوافذ لتبرير الاستبداد بأشكاله كافة، كما فتح أبواباً على أحجام من الفساد غير معهودة.
أعود إلى مؤتمر بغداد “للتعاون والشراكة”، لأقول هو علامة فارقة لا بد من الاهتمام به، وتأكيد نتائجه، فله على الأرض ما يبرّره سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وله مؤيدون في عمق شعوب المنطقة، وقد جاء عليها البيان الختامي للمؤتمر.
المصدر: العربي الجديد