سامي عمارة
إذا كان الماضي القريب سجل في أكثر من مناسبة تصدر سيرغي شويغو، وزير الدفاع الحالي والرئيس المناوب السابق للكثير من التشكيلات الحزبية التي تصدرت الساحة السياسية الروسية منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي ومطلع القرن الحالي بما فيها “حزب روسيا الموحدة”، فإن أحداً لم يلحظ نشاطاً حزبياً لسيرغي لافروف، وزير الخارجية الذي جاء به الرئيس فلاديمير بوتين من منصبه السابق كمندوب دائم لروسيا في الأمم المتحدة ليستهل معه ولايته الثانية عام 2004.
سيرغي شويغو… وزير في 13 حكومة روسية
وكانت الأوساط الروسية السياسية والاجتماعية عرفت شويغو منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي مسؤولاً حكومياً على رأس “لجنة الدولة للطوارئ والدفاع المدني” التي سرعان ما تحولت إلى “وزارة الطوارئ” وصارت كياناً مؤسسياً يتمتع بالكثير من عناصر القوة والصلاحيات، استطاع أن يجمع تحت رايته أفضل العناصر العسكرية والأمنية التي كان الرئيس الأسبق بوريس يلتسين أحالها إلى التقاعد، بقراره حول تقليص تعداد القوات المسلحة، في توقيت كان هو الأسوأ على مر تاريخ روسيا المعاصر. ولعله كان الوزير الوحيد الذي لم تخلُ منه أي من الحكومات السابقة (وعددها 13)، وعمل مع كل الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم روسيا منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، عدا تلك الأشهر القليلة التي شغل خلالها وبترشيح من الرئيس بوتين، منصب محافظ مقاطعة موسكو قبل انتقاله وزيراً للدفاع في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012.
شعبية لافروف
وعلى الرغم من أن زميله في الحكومة، سيرغي لافروف قضى الجزء الأعظم من حياته الوظيفية بين أروقة الأمم المتحدة، وتدرّج في سلك البعثة الدبلوماسية الروسية هناك، حتى منصب المندوب الدائم لبلاده في الأمم المتحدة، أي أنه كان بعيداً من دائرة اهتمام الأوساط الاجتماعية في الداخل الروسي، إلا أن ما اتخذه من مواقف وما اتسمت به تصريحاته من رصانة ووقار دفاعاً عن مصالح روسيا وحلفائها في الساحة الدولية، كانت كافية لأن تعود عليه بأكاليل الغار، والكثير من الشعبية على الصعيدين المحلي والعالمي. وذلك ما دفع ويدفع الرئيس بوتين إلى التمسك به، على النقيض مما تردد حول رغبة لافروف بالتقاعد، وهو الذي قام خلال الأعوام الأولى فقط لوجوده على رأس وزارة الخارجية الروسية بزيارة 136 من دول العالم في إطار مهماته الرسمية، فضلاً عن اضطلاعه بالكثير من المهمات الداخلية من مواقعه كعضو دائم في مجلس الأمن القومي الروسي، وغيره من المؤسسات ذات الصلة.
قصارى القول، يبدو ما يشبه الإجماع حول أنه لا غنى لبوتين عن هاتين الشخصيتين اللتين يجمع في ما بينهما الكثير على الأصعدة كافة، ومنها الشخصية والحوكمة. فخلافاً لما يربط بينهما من صداقة شخصية وهوايات مشتركة، منها المغامرات الرياضية المائية العنيفة، و”الريفتينغ” (التجديف على متن القوارب المطاطية في الأنهار السريعة)، وتشجيع نادي سبارتاك لكرة القدم الأوسع جماهيرية في العاصمة الروسية، فإنهما عنصران أساسيان في مجلس الأمن القومي الروسي، إلى جانب ثنائية “2+2” التي طالما يلجأ إليها بوتين في مجالات السياسة الخارجية والدفاع مع أهم شركائه في الساحة الدولية، ولحل ما تواجهه بلاده من أزمات محلية ودولية.
وفي هذا الصدد، يتداول العامة والخاصة لدى الحديث عن قضايا الحرب والسلام مع روسيا، القول المأثور، “إن من لا يعجبه ما يقوله لافروف، سيكون مضطراً إلى قبول ما سوف يفرضه شويغو”، والكناية هنا واضحة، تشير إلى أن من يرفض الإصغاء إلى صوت العقل والمنطق، من خلال دبلوماسية لافروف، فإنه سوف يكون مضطراً إلى الانصياع لصوت القوة، التي يمثّلها شويغو من منصبه كوزير للدفاع.
قائمة الخمسة الكبار
وتلك كلها أسانيد تقول المؤشرات إنها وراء قرار الرئيس بوتين حول ترشيحهما ليتصدّرا معاً قائمة الخمسة الكبار على رأس مرشحي الحزب الحاكم “الوحدة الروسية” في انتخابات مجلس الدوما المرتقبة في 17-19 سبتمبر (أيلول) الحالي، مع دينيس بروتسينكو، كبير أطباء المستشفى المركزي لمواجهة وباء كورونا، ويلينا شميليوفا، الرئيسة المناوبة “للجبهة الشعبية لعموم روسيا”، ومفوضة الرئيس لحقوق الأطفال أنا كوزنيتسوفا، وإن أعلن بعضهم أنه لم يعلم بهذا الترشح إلا قبيل انعقاد المؤتمر بأيام معدودات.
وما إن استقر الرأي على ترشيح الوزيرين حتى بدأ كلاهما جولاته الحزبية في مختلف جمهوريات وأقاليم ومقاطعات الدولة الروسية، استعداداً لهذه الانتخابات وهو ما يحدث للمرة الأولى في تاريخ الوزيرين الأوسع شهرة والأكثر جماهيرية في الساحة المحلية.
مخاوف بوتين
وعلى الرغم من أن الشك في احتمالات فوز قائمة الحزب الحاكم لا يراود أحداً في الساحة السياسية الروسية، نظراً إلى اعتبارات عدة، يدركها كل متابع لمجريات الحياة السياسية في البلاد، فإن القلق بدأ يساور الرئيس بوتين تجاه تبعات فوز الوزيرين اللذين تجمعه مع كل منهما علاقات صداقة شخصية، فضلاً عن موقعيهما المؤثرين في الكثير من توجهاته وقراراته السياسية، وهما اللذان كانا إلى جواره أثناء اتخاذ الكثير من قراراته المصيرية، ومنها ما تعلق بعملية “ضم القرم” في مارس (آذار) 2014 بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية في فبراير (شباط) من العام ذاته، وبدء العملية العسكرية في سوريا في سبتمبر (أيلول) 2015.
وكان بوتين أعرب في حديثه أمام “المنتدى الاقتصادي” في فلاديفوستوك في الثالث من سبتمبر الحالي عما يراوده من مشاعر الأسى تجاه احتمالات “رحيل” الوزيرين عن منصبيهما بعد انتخابات مجلس الدوما، وهما اللذان أبديا أكبر قدر من الكفاءة والتميز والقدرة خلال عملهما في هذين المنصبين. وتعود هذه الاحتمالات إلى أن الدستور الروسي يحظر الجمع بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، أي إن الوزيرين سيكونان أمام خيار واحد لا ثاني له: “إما البقاء في منصبيهما، أو قبول الانتقال إلى عضوية مجلس الدوما”.
وقال بوتين بهذا الصدد إن الوزيرين مدعوان إلى اتخاذ قراريهما، على الرغم من يقين الكثيرين في الساحة السياسية الروسية أن القرار والقول الفصل في هذا الشأن يظل بين يدي الرئيس الذي يقف بحكم صلاحياته الدستورية على رأس الدولة وسلطتها التنفيذية من جانب، واعتباراً من صلاحيات منصبه كقائد أعلى للقوات المسلحة من جانب آخر، فضلاً عن أنه يملك أيضاً وبحكم منصبه، صلاحية اختيار وزراء السيادة، (الخارجية والدفاع والداخلية والعدل والاستخبارات).
وإذا كان الرئيس بوتين ورداً على سؤال بهذا الشأن، اكتفى بالقول إنه سيكون “من المؤسف” التخلي عن الوزيرين بسبب انتقالهما إلى العمل في المجلس النيابي، لكن الأمر يتوقف على خيارهما، وهو رد دبلوماسي يحتمل التأويلات، فلم يكُن في ردود الوزيرين على أسئلة مماثلة جرى توجيهها إليهما خلال جولاتهما الانتخابية في مختلف الأقاليم والمقاطعات التي جابها كل منهما، ما يمكن أن يميط اللثام عما يمكن أن يتخذاه من قرار حول هذا الموضوع. وكان شويغو اكتفى بالإعراب عن شكره لما أولاه الحزب من ثقة، مؤكداً أن تمثيل حزب “روسيا الموحدة” في مجلس الدوما مهمة جادة ومسؤولية كبيرة. أما سيرغي لافروف، فلم يكُن بدوره بعيداً من مثل هذا المضمون، إذ قال إنه وبحكم منصبه “مرتبط عملياً بشكل وثيق مع حزب روسيا الموحدة في عمله، إذ يلعب الحزب، باعتباره الرائد في البلاد، دوراً رئيساً في التصديق على المعاهدات الدولية”.
وحول هذه المواضيع، يحتدم الجدل في الساحة الداخلية الروسية، بما في ذلك داخل أوساط الحزب الحاكم. وفي هذا الصدد، قال دميتري أبزالوف، مدير “مؤسسة الاتصالات الاستراتيجية وقياس الموقف” المعروف بعلاقاته الوثيقة مع المؤسسات الرسمية إن “الأمر يظل رهن إرادة كل من الوزيرين”. لكنه سرعان ما أضاف أنه “إذا كان الموقف بالنسبة إلى وزير الدفاع أكثر صعوبة، نظراً إلى أن عملية نقل الصلاحيات خطيرة للغاية، ومن الضروري إعداد الخليفة المناسب”، فإن القضية تبدو بالنسبة إلى لافروف قابلة لمختلف التأويلات، وهو الذي سبق وأعرب عن رغبته بالرحيل عن منصبه. وأضاف أن “هناك من رفض رحيله، مؤكداً ضرورة بقائه في منصبه”. وكشف أبزالوف عن وجود “الخليفة” المناسب، وإن لم يفصح عن اسم الشخصية التي يمكن أن تشغل مثل هذا المنصب، الذي نتوقع في حال اتخاذ مثل هذا القرار أن تتسع دائرة المرشحين لشغله كبديل لسيرغي لافروف، إلى آخرين من خارج مقر وزارة الخارجية في ميدان سمولينسك.
بوتين هو روسيا
ويفتح ذلك المجال لتغييرات أخرى، لا بد من أن تطرأ على الجهاز القيادي والإداري لمجلس الدوما في دورته المقبلة. وهناك من يقول بضرورة التخلص من شخصيات معينة تقتضيها متطلبات المرحلة، ومنها الرئيس الحالي للمجلس المنتهية ولايته، فياتشيسلاف فولودين الذي طالما أغرق في إطراء الرئيس بوتين إلى الحد الذي قال فيه إنه “انطلاقاً من تحديات الحاضر، فإن أفضلية روسيا لا تكمن في ما تمتلكه من النفط والغاز، بل في وجود بوتين، وهو ما يجب علينا الدفاع عنه”. كما ينقلون عنه قوله إن “بوتين هو روسيا”، إضافة إلى ما سبق وقاله في مشاركة له في منتدى “فالداي”، الذي سبق وأعلن الرئيس بوتين عن تشكيله مع نهاية ولايته الأولى عام 2004، “يوجد بوتين، توجد روسيا، لا يوجد بوتين-لا توجد روسيا”، وهو ما صار أقرب إلى القول المأثور الذي يلوّح به عدد من ممثلي المعارضة، مثالاً للنفاق والإطراء المبالغ فيه.
أفول نجم دميتري ميدفيديف
لكن ماذا عن غياب دميتري ميدفيديف، الرئيس السابق ورئيس الحكومة، والصديق الصدوق للرئيس بوتين الذي سبق وقام بأداء دور “المحلل” لعملية التوريث عام 2008، وهو الذي طالما وكان دائماً على رأس قائمة المرشحين بحكم منصبه كرئيس للحزب الحاكم؟
تقول المؤشرات وتسلسل أحداث الأعوام القليلة الماضية إن نجم ميدفيديف جنح نحو الأفول منذ منتصف ولايته الأولى، والأخيرة خلال فترة 2008-2012 وهو الذي كان كشف عن طموحات ثمة من وصفها بـ”غير المشروعة” صوب الاستمرار لولاية ثانية، على النقيض من اتفاقه السابق مع الرئيس بوتين حول عودته إلى سدة الحكم في الكرملين عام 2012، وهو ما أودعنا الكثير من تفاصيله في كتابنا “بوتين. صراع الثروة والسلطة” الصادر في القاهرة عام 2014. وكان ميدفيديف سارع إلى تقديم استقالته من منصبه كرئيس للحكومة في مطلع عام 2020 في أعقاب إعلان الرئيس بوتين حزمة التعديلات الدستورية التي جرى إقرارها لاحقاً في الاستفتاء الشعبي الذي جرى في 25 يونيو (حزيران) وأول يوليو (تموز) 2020. وقنع ميدفيديف بمنصبه الجديد كنائب لرئيس مجلس الأمن القومي الذي لم يكُن له ليكفل له سابق الأضواء التي كان يرفل في بحارها على مدى عقود طويلة كان خلالها أقرب إلى الرجل الثاني من موقعه على مقربة من رئيس الدولة فلاديمير بوتين.
ومن هنا، كان من الطبيعي أن يسفر التسلسل الطبيعي للأحداث عن المزيد من التراجع في مواقع ميدفيديف، الذي تجسّد بعضه في إبعاده عن صدارة قائمة المرشحين عن الحزب الحاكم على الرغم من الإبقاء عليه في منصبه كرئيس لذلك الحزب. وثمة من يقول إن ميدفيديف نفسه لم يكُن على علم بمفردات هذه القائمة وذلك القرار، إلا قبل الإعلان عنه بفترة وجيزة، مفسحاً مواقع الصدارة لكل من وزيري الدفاع سيرغي شويغو، والخارجية سيرغي لافروف وآخرين ممن أشرنا إليهم عاليه، وهو ما عكسته ملامح وجهه طيلة أعمال المؤتمر، وإن حاول جاهداً إخفاء ذلك. وما إن جرى إعلان قائمة المرشحين لخوض الانتخابات البرلمانية ضمن صدارة قائمة الحزب الحاكم، حتى تحوّل مؤشر شخصية ميدفيديف إلى المزيد من الهبوط حتى الحد الذي لم يحصل فيه إلا على ثقة 23.3 في المئة، مقابل 66.6 في المئة من أصوات المشاركين في استفتاء قياس الرأي العام ممن أعربوا عن عدم الثقة به، بحسب نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة “فتسيوم” (مؤسسة قياس الرأي العام في عموم روسيا).
المصدر: اندبندنت عربية