غازي دحمان
على مرأى العالم ومسمعه، يجري التنكيل بدرعا. تجتمع قوّة إقليمية مشكّلة من مليشيات سورية وعراقية ولبنانية، برعاية إيران، وإدارة روسية، تضع الخطط، بما فيها التدمير والقتل بمنهجية، وتقديم الغطاء الدبلوماسي، ويُقابل ذلك كله صمت عربي ودولي غير مفهوم، على الرغم من أن أصوات القنابل التي تفتك بدرعا، ورائحة البارود، وأصوات استغاثات أهلها قد مزّقت أسلاك الحدود الشائكة.
تذهب تحليلاتٌ كثيرة، زوراً، أو لعدم فهم، إلى الحديث عن وضع درعا الفريد، بوصفها تقع على خط صدع الصراع الدولي والإقليمي، ومركز لتقاطعات إقليمية ودولية، وسواها من العبارات الطنّانة. والواقع أن هذه ليست سوى كليشيهات يردّدها المحلّلون، الذين يرغبون وسم تحليلاتهم ببعد وعمق استراتيجيين، في حين أن درعا وحيدة تخوض في النار، لا قريب ولا صديق يسمع صدى صرخاتها. ويذهب الممانعون إلى أن الحرب الكونية على نظام الأسد، أو محور الممانعة، بدأت من درعا، وتنتهي اليوم في درعا، في إشارة إلى انتصار محور الممانعة وهزيمة خصومه الافتراضيين.
كل ما يقال من هؤلاء وأولئك لا يمتّ لمجريات الأمور بصلة. وللتأكيد على أن درعا لا هي صدع ومركز للتقاطعات، ولا هي نقطة البداية للحرب الكونية المزعومة. في درعا، ومنذ تشكيل غرفة الموك، بدأت مرحلة تراجع الزخم الثوري. قبل ذلك كان ثوار درعا، وجميعهم من المدنيين، قد حرّروا ما يعادل 75% من مساحة المحافظة، واستولوا على أسلحة معسكرات النظام، وهي بالأطنان. وكانت الخطوة التالية التقدّم باتجاه دمشق، ثم جاءت “غرفة الموك” لتضبط تقدّم الثوار، وتوقف تمدّدهم وتمنعهم من الاقتراب من دمشق، لأسبابٍ سنفهمها بعد ذلك، تتعلق برؤية الرئيس الأميركي في حينه، باراك أوباما، للصراع في سورية، بمعنى أنّ ثمّة أطرافاً أرادت توظيف تقدّم الثوار في مفاوضاتها وألعابها السياسية.
لم يكن صعباً على نظام الأسد التقاط هذا التحوّل الاستراتيجي وفهم أبعاده، وإدراك أنه أمام فرصة لتغيير الوقائع وقلب المعادلة في جنوب سورية، مستخدماً في ذلك خلطةً من الأساليب والوسائل القذرة، أشار الزميل معن البياري إلى إحداها، “النهج الإسرائيلي للنظام في درعا” وهي اتباع النهج الإسرائيلي القائم على استخدام أقصى درجات القوّة في مواجهة مخاطر ليست بالحجم نفسه، من دون مراعاة أي اعتبار أخلاقي أو قانوني.
واللافت أن نظام الأسد دمج، في استراتيجيته في مواجهة ثوار درعا، سياسات بعضها مستوحى من قرون ماضية، مثل سياسة استئصال السكان الأصليين وزرع سكان جدد موالين مكانهم، كما فعل في قرى مثلث الموت بين أرياف دمشق ودرعا والقنيطرة. وبعض هذه السياسات توقف بعد “صلح وستفاليا” في منتصف القرن السابع عشر، استخدام البعد الديني في الصراع، وهو ما يمثله استقدام المليشيات العراقية والباكستانية واللبنانية، والتي ترفع راياتٍ طائفية صريحة، وتحاصر براياتها وأفكار معتنقيها درعا البلد، وتنذرهم بالويل والثبور. وطبعاً من دون نسيان سياسة النفي التي تذكّر بأساليب انتهت على الأقل منذ قرن، وربما آخر حالة نفي تستحضرها الذاكرة العربية، نفي اللورد اللنبي الزعيم المصري، سعد زغلول، سنة 1921، إلى جزر سيشل في المحيط الهندي، وسبق لنظام الأسد أن نفى الآلاف من سكان درعا سنة 2018 إلى إدلب، وما زال يرغب بنفي مزيد منهم.
جديد هذه السياسات، تم استيحاؤه من سياسات الإمبريالية الحديثة، ومن تطبيقات شركات النفط والغاز العالمية، وخصوصا في أفريقيا، حيث قامت بتجريف البيئات المحلية التي تمرّ بها خطوط نقل الغاز والنفط، لضمان عدم اعتراض هؤلاء على مرور أنابيب النفط من أراضيهم، وضمان سلامتها من جهة أخرى. ويبدو أن هذه السياسة يُراد إحياؤها في درعا التي سيعبرها خط الغاز العربي إلى سورية ولبنان، والذي يعتبر مقدمةً لإعادة تأهيل نظام الأسد، بحكم الواقع والضرورة، وإعادة دمجه في المنظومة العربية، بذريعة أنه باقٍ ويتمدّد. وهنا، تبيح البراغماتية وسياسات إعلاء المصالح لأصحابها أن يضعوا أيديهم على آذانهم حتى تنتهي عملية اغتصاب درعا، وتبدّد صراخها في الأثير.
ليست الأساليب وحدها هي ما يكشف عن كنه السياسة الاستعمارية البائدة التي يمارسها نظام الأسد تجاه درعا، وسورية عموماً، بل الجوهر القائم على استخدام نخبة منتقاة من أبناء البلد، لتنفيذ هذه السياسات، إذ طالما استندت الدول الاستعمارية على فئاتٍ معينة، لتحقيق أغراضها. وفي الحالة السورية، النظام بأجهزته الأمنية وفرقه العسكرية منخرط بكليته لتحقيق أهداف إيران وروسيا في سورية.
كذلك، الوضع القانوني للسلطة في سورية شبيه تماماً بوضع سلطات البلدان المستعمرة، فقد ساد، في مرحلة استعمارية متقدّمة، مفهوم شبه الدولة، أو الدولة ناقصة السيادة، ومن أهم معالمها، عدم سيطرة الدولة على حدودها وأراضيها، وسلطاتها خاضعة لحاكم خارجي، وهو ما ينطبق تماماً على سلطة نظام الأسد في وضعها الراهن.
هذه الأنماط من السياسات عادة ما يتم ذكرها بخجل، وتحاول البشرية أن تتخطّاها، وحتى محوها من الذاكرة، لما انطوت عليه من توحّش وانحطاط أخلاقي وقيمي، إذ إن أبشع ما صنعته السياسة منذ عرفها البشر حروب الإبادة والتهجير والقتل على أساس ديني أو لتحقيق مصالح اقتصادية. لكن لمَ يتم غض النظر عنها في درعا اليوم؟
المصدر: العربي الجديد