محمود الوهب
شغل الحدث الأفغاني العالم كله، فأوقعه في حسابات مربكة، متراكمة، تعددت وجهات تحليلاتها، وانقسمت الأقلام والآراء حول تنظيم طالبان العائد إلى الحكم بين مؤيد ومعارض، ففي الوقت الذي ذهب فيه بعضهم إلى أن طالبان حركة إرهابية لا يمكن إصلاحها، وستعود حتماً إلى سيرتها الأولى تنشر الإرهاب داخل بلاد الأفغان وخارجها، سيما وأنها أتت منتصرة على أقوى دولة في العالم، هي الولايات المتحدة الأميركية، بعد عشرين سنة من القتال المرِّ، والتكاليف الباهظة، وفشل حكم “معتدل” عمل في ظلها. يؤكد أصحاب هذه الرؤية إرهاب طالبان بتهافت الفئات التي كانت تحكم أو تلك التي كانت لها علاقات مع الأجنبي على مطار كابول هرباً من خطر الموت الذي لا تعرف طالبان غيره قصاصاً وانتقاماً.
بينما ذهب طرف آخر مناقض؛ إذ هو يؤيد طالبان بقوة، ويرحب بها حكماً إسلامياً أصولياً سوف يكون سنداً لتيارات الإسلام السياسي الناهض في عدد من دول آسيا وإفريقيا منذ عدة عقود وإلى اليوم. وسوف تشكل طالبان هذه الحركة النقية بؤرة إشعاع إسلامي يعيد إنارة العالم من جديد.. ويتجاهل هذا التيار ما كانت قد فعلته طالبان، بل يتجاهل أصولها وتاريخ تأسيسها ورعايتها منذ دخول الاتحاد السوفياتي السابق إلى أفغانستان، (وكان دخوله أحد الأسباب المباشرة لانهياره..) ويرى هذا التيار الخائف: “أن سيطرة طالبان على مناطق عديدة من أفغانستان قد تعيد مرة أخرى تجارة الأفيون، والحشيش إلى ذروتها، وقد تصبح أفغانستان مرة أخرى بؤرة لتجارة المخدرات وتصديرها”. كما يرى هذا التيار “أن سيطرة طالبان مرة ثانية على أفغانستان ستتيح لها دعم قوى التطرف الأخرى في الشرق الأوسط. ولذا وجب التنويه بأنه على دول الشرق الأوسط، ولاسيما الإسلامية أن تعد نفسها لهذا الاحتمال بدعم الفكر التنويري بكل الوسائل من الآن، حتى لا تعطي فرصة أخرى للفكر المتشدد أن ينمو ويترعرع على أراضيها”.
وهناك من تحدث عن عمق أسباب الحرب التي دارت في أفغانستان على مدى أربعين سنة، فرأى أنها تعود إلى ما تمتلكه أفغانستان من مواد خامّ أولية هي الأغلى في العالم، وهذه حقيقة، مثل “الليثيوم” خاصية صناعة سيارات المستقبل الكهربائية و”البرليوم” خاصية الصناعات الإلكترونية والطائرات فائقة السرعة، والسفن الفضائية، إضافة إلى معادن تقليدية أخرى كثيرة مثل الذهب والنحاس واليورانيوم وسواها.. كما أنَّ هناك مَن نظر إلى الأمر من زاوية إستراتيجية لها علاقة بالصراع الدولي الناشئ حديثاً بين أمريكا وأوروبا من جهة وبين محور قيد التشكل قطباه الصين وروسيا.. وأن أمريكا التي غادرت تركت طالبان حجر عثرة.. وهناك من أشار إلى خط أنابيب غاز روسي يصل إلى الهند عبر تركمانستان فأفغانستان.. هذا الخط سوف يلعب دوراً مؤثراً في أسعار النفط العالمية، وتجارته، ويجعل أفغانستان تتحكم به..
ولعل التيارين المتناقضين الأولين قد اعتمدا آراء مسبقة، ولم يأخذا الواقع الملموس بالحسبان، إذ كثيراً ما تفرض مفرداته السياسية والاجتماعية نفسها متجاوزة الجانب الفكري/العقائدي، وخصوصاً إذا ما قرئ قراءة لا تستنير بقضايا الناس الذين هم موضوع الجانب العقائدي وجوهره! على كل حال، وبعيداً عن كل تلك الاجتهادات والتكهنات، فثمة أمور في غاية الأهمية، تفرض نفسها منها: أن الخراب الذي يعشش اليوم في اقتصاد البلاد الأفغانية، وفي بنية النفس البشرية الأفغانية التي مزقتها الحروب طوال أربعين سنة، يجعل ترميمه بإعمار جديد يتقدم على أية مهام أخرى.. فالاهتمام بحياة الناس وتلبية حاجاتهم مقدمة دينياً على غيرها من المهام الإستراتيجية.. ولقد واجه الحكم الإسلامي في بداياته أي بعد وفاة النبي بوقت قريب جداً حالات جديدة دفعت خليفة المسلمين إلى اجتهاد ضروري غير مسبوق.. وهكذا كان اجتهاد عمر بن الخطاب في أكثر من حال (عام الرمادة- فيح سواد العراق) مستمداً من روح الشريعة ووفق مصلحة الجماعة وشؤونها الحياتية..
اليوم يطرح الواقع الأفغاني مسألة إعادة الإعمار الشاملة ضرورة موضوعية لمعافاة المجتمع الأفغاني.. ربما، في إطار هذه الرؤية، جاء المؤتمر الصحافي الذي عقده أحد قادة طالبان، مساء الثلاثاء 17 آب 2021 ليطرح آراء معتدلة حول التعاون مع دول العالم كافة، وحول حقوق المرأة، وأبلغ أن القيادة أصدرت عفواً عامّاً عن المتعاملين مع النظام السابق لبدء حياة جديدة.. بإيجاز يمكن القول إن أمر تنمية البلاد هو الأمر الأهمّ، فهل تحاكي طالبان ما رآه “مهاتير محمد”، قبل عدة عقود، حين كان هاجس تنمية ماليزيا يشغل باله، فوجد أن إعمار ماليزيا يحتاج إلى تكنولوجيا رفيعة وخبرات علمية، قد لا يجدها في تعاليم الدين وحدها، وإنما تستلهم من روحه ومحتواه وغاياته، ولذلك عمل وَفْق مقولته الشهيرة:
“حين أردنا الصلاة توجهنا صوب مكة، وحين أردنا بناء الدولة توجهنا صوب اليابان..” وبذلك أعطى لكل مهمة حقها! ولم يجد حرجاً من التعامل مع دولة ربما عدَّت قِيَمُ الإسلام معتقدَها مغايراً لقيمه وفقهه.. فلم يقف عند ذلك الأمر فهو يدرك أن حضارة اليوم، وتنمية البلاد إنَّما تقوم على الخبرة، والعلوم النفعية، وعلى التكنولوجيا المتقدمة.. فهل تمضي طالبان اليوم في الاتجاه نفسه، مستفيدة من تجاربها السياسية التي رافقت صراعها العسكري الطويل مع العالم وأكسبها خبرات سياسية وقرَّبها من شعبها أرضاً وناساً وثرواتٍ! فتتجاوز، في الوقت نفسه، بعض تجارب الإسلام السياسي الفاشلة التي لم تأخذ بالتنمية الفعلية، وبالتالي، لم تستطع تلبية حاجات المجتمع الحياتية، معتقدة أن مجرد وجودها في الحكم ممثلة لدين الأكثرية كفيل بإرضاء المجتمع! ولم تدرك أن التنمية في عصرنا هي المحكّ الفعلي لكل سلطة سياسية، وأنها لا تأتي أُكُلها طيباً إلا إذا أفسح في المجال لأفراد الشعب المعنيّ للمساهمة فيها من غير إقصاء، ولا تهميش! وربما تكون ماليزيا وتركيا اللتان وجدتا سُبل التوفيق بين أسباب حضارة اليوم وسبلها ومعتقدات شعبيهما رائدتين لتنظيم طالبان إذا كان يبحث جادّاً عن خلاص لأفغانستان من مخلفات الحرب ومعاناة الشعب وبناء مستقبل يليق بهذا الشعب الذي لم يهدأ كفاحه ضد الظلم وطغيان عدوان دول عظمى.. أما إذا اختار التنظيم حرفية نصوص دون الاستنارة بالواقع وحاجات إنسانه، وملامسة حضارة اليوم، فلا شيء غير قتال داخلي جديد، وتصفية أحقاد وثارات، وشهوات حكم وتسلُّط، حتى تستوي الحياة وتستقيم، فحركتها، في النهاية، ومحورها الإنسان، وعيشه، وأفق تقدمه، والبلاد هي الحاكِم والحَكَم، وإن تسببت بمزيد من الدماء والخراب.
المصدر: نداء بوست