مصعب عيسى
ثمة مدن تتجذر في ذاكرة المرء أينما ولى وجهه في هذا الفضاء الطيني.
ثمة مدن تصر على الحياة في وجه الموت الذي يداهمها.
ثمة اصرار على العطاء في زمن الشح الإنساني..ثمة مدن كأنها حزام أخضر في وجه التصحر الفكري والخلفي .
ثمة تاريخ يقود العجلة بديمومة البقاء ..ثمة انسان لايقوى على نسيان هذه الخواصر الوطنية ..لأنها التاريخ الذي يتواصل جيلا بعد جيل .
ثمة مدن تتشابه في الفرح وفي الحزن وفي العاصفة التي اودت بقاطنيها على مر العصور.
بين درعا عروس الجنوب السوري وجنين سيدة الوطن الفلسطيني حكاية واحدة تلخصها سواعد من تشبثوا بالرفض ،من تسلحوا باللاءات وكان رفضهم صخرا من تلك الجغرافية الممتدة على سهل حوران ويعبد القسام .
قصة مدينتين ستغدو رواية يرويها جيل العرب بالتقادم .
قصة غدت واقعا للأمل المتغيب قسرا في اعمدة السلطنة هنا وهناك.
كم يبدو هذا المشهد ذو وقع عظيم في الأنفس حين ترى تنهيدة الرصاص واحدة في كلا الخاصرتين ، هذا المشهد الأحمر الطاهر تجلى في حادثتين جعلها تبدو واحدة
بين درعا خاصرة الجنوب السوري التي وقّعت بالدم عهدة الثورة السورية ،درعا التي انجبت كرامة الوطن وحريته والتي دفعت خلال العقد الماضي ما تيسر من دم وطين وورد ورصاص بغية البقاء على قيد الحرية ،مافعلته درعا في الأسابيع الماضية كان أسطورة تاريخية في مقاومة الطغيان العربي رغم كل التسويات الممكنة واللاممكنة، رغم كل الصفقات المحتملة وغير المحتملة ،كانت تعيد تدوير التاريخ إلى بدايته كانت تحاول أن تجعل خريفنا ربيعا جديدا ..درعا التي حولت أيلول الأصفر إلى آذار الاقحواني. على سهلها اليوم كما في الأمس توحد الدم الفلسطيني والسوري ..فكانت مدينة الحب والحرب ومدينة الذاكرة الحية إلى أن يحين يوم الخلاص ..فتغزل من سنابلها ظفيرة للعرائس..وتصنع من ركام الموت وطنا للانسان.
وهناك خلف السياج قريبا من القبة المقدسة ونهر المسيح ثمة مدينة مصابة بالتهاب مزمن بالذاكرة ثمة سهلا وجبلا واوديه تروي حكاية ثورة مستمرة ..
جنين التي نزفت شلالات دم لم تنضب .
ثمة ركاما ومقبرة لغرباء أتوا من وراء البحار ليحفروا قبرهم بايديهم ..ثمة شيخ جليل عاش رغم النكبة .
ثمة أحياء وشوارع تنبض بالعزة. ثمة مخيما لاتتجاوز مساحته واحد كيلو متر مربع ولكنه زاخم بالوصية المقدسة ..ممتلئ باحفاد كنعان ..ثمة انكيدو وجلجامش ..ثمة أسطورة للمقاومة ..ثمة عنوان عريض للصحافة الإسرائيلية..(دولة هزمها المخيم )..ثمة وطن باكمله يعيش ويلجأ في هذه الخاصرة الغربية من وطن مستباح.
ثمة معادلة عكسية ..وخوارزمية جديدة في الحياة ..ثمة مفهوم معاكس للحفر الباطنية ،كل الحفر تنتهي إلى قاع الأرض الا في فلسطين فالحفرة تؤدي إلى سماء عالية تسير بحافريها إلى فضاء الحرية.
ثمة ملاعق للأكل او لتحريك السكر في جلسة على طاولة مقهى لكن جنين وابطالها غيروا اتيكيت الملعقة فحركوا باطن الأرض تحت الغرباء عنها واكلوا التراب ..حفروا حريتهم بايديهم ..وهربوا بعيدا إلى يعبد القسام ..فصاروا أيقونة للأمل المسجون ..صاروا ملحمة ..صاروا تاريخا جديدا ..
منذ اليوم سيرتبك قادة الاحتلال اذا أكلوا..لأنهم سيتذكرون الملعقة ..لقد اصيبوا بانهيار هيكلي حين تناولوا ادويتهم.
بملعقة فيتساءل أحدهم؟ ملعقة قبل النفق ام بعده ..يا شماتتنا بكم.
بين هذه وتلك….تذكرت هتافا كنا نردده في المظاهرات الداعمة للانتفاضة الفلسطينية الثانية ..تلك المظاهرات التي كانت تحوب شوارع درعا وساحاتها..والشعار يدوي هادا في سماءها بنبرة واحدة ( من درعا لجنين شعب واحد لا يلين ).