راغدة درغام
لعل هناك عجلة في الافتراض أن إبرام صفقة نووية بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية الإيرانية يعني تلقائياً تخلّي أميركا عن حلفاءٍ لها في منطقة الشرق الأوسط، بالذات الدول العربية في الخليج. سيناريو تكرار إدارة بايدن سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما الاسترضائية والوديعة نحو إيران وارد بلا شك، لا سيّما في ضوء العزم على إحياء الصفقة النووية JCPOA. الاختلاف في السياستين قد يكمن في العلاقات الأميركية مع الدول الخليجية العربية والتي كانت متوتّرة بسبب ازدراء باراك أوباما بالتحالفات التقليدية مع دول عربية رائدة في الخليج وكذلك مع مصر.
اليوم، ومع نمو المحور الصيني – الروسي – الإيراني في تنسيق غير مسبوق في منطقة استراتيجية وعلى ضفاف بحار حيوية، ليس منطقيّاً أن تغلق إدارة بايدن أمام نفسها الباب الخليجي حتى إذا كان بودِّها الانصراف الى الشرق لمواجهة خطر الصين عليها هناك. ثم أن كارثة أفغانستان أيقظت الأميركيين الى فوائد الشراكة الاستراتيجية مع دول كالسعودية والإمارات وقطر والكويت وعمان والبحرين- الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي. معظم هذه الدول ساهم باندفاع ومهنيّة في عمليات إجلاء الأميركيين من مطار كابول- فكانوا هناك عند الحاجة. القاسم المشترك بين محور الصين – إيران – روسيا وبين منظمات إرهابية مثل “القاعدة” و”داعش” هو العداء العميق لأميركا. جميع هؤلاء اللاعبين يتموضع، كل على طريقته، في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج، لملء الفراغ بعد الانسحابات الأميركية بموجب قرار الانكماش المتبعثر للرئيس جو بايدن وأقطاب إدارته. فمهما كانت عواطف وتوجّهات هذه الإدارة، إن مسؤوليتها نحو الأمن القومي الأميركي كما تجاه هذه المنطقة يجب أن تحملها الى إجراء مراجعة صادقة للسياسات التي تأبّطها كثير من رجالها ونسائها من إدارة أوباما انتقاماً من إدارة ترامب. فهذا ليس وقت الخطوات المتهالكة والرِكَب الركيكة والمشاعر الساذجة في أهم مرحلة انتقالية للولايات المتحدة بعدما انحسرت هيبة العظمة الأميركية وباتت ضعيفة وفاشلة وخائفة في نظر الأعداء والمنافسين، بسبب فضائح وعيوب كيفية الانسحاب من أفغانستان. انه وقت الحِكمَة الشاملة بدل الاستعجال لإصلاح هذا وترقيع ذاك والهرولة من هنا وهناك. العراق وسوريا ولبنان يجب ألاّ تكون الدول الفالتة من أيادي الولايات المتحدة لا سيّما أن الشهيّة الروسية – الإيرانية – الصينية منصبَّة على الدول الثلاث بالذات.
واضح أن إدارة بايدن متحمّسة لإحياء الاتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي سبق وأبرمته إدارة أوباما ثم مزّقته إدارة ترامب. المحور الصيني – الروسي – الإيراني الذي تدعمه بريطانيا وفرنسا وألمانيا في محادثات فيينا يرى أن لا خطر على هذه المحادثات بالرغم من التشدّد الإيراني والتردّد الأميركي ازاء تفاصيل مهمّة في المفاوضات من الناحية النووية والصاروخية، الى مسألة رفع العقوبات. وفي رأي هؤلاء، أن النظام في طهران هو الرابح من مفاوضات فيينا اعتقاداً منه ومن محوره وداعمه الأوروبي ان لا مناص أمام الرئيس بايدن سوى الإذعان للشروط الإيرانية لأنه في حاجة ماسة الى قصة نجاح.
حتى إذا تبنّى الكونغرس قراراً يقيّد أيادي بايدن في مفاوضات فيينا ويفرض حزاماً آمناً يلتزم الرئيس الأميركي بموجبه أن يتّخذ الخطوات الملائمة بعد توقيع الاتفاق في حال استأنفت إيران مغامراتها النووية أو الصاروخية أو الإقليمية، تبقى إيران الرابحة. لماذا؟ لأن كل ما تريده طهران هو المال والنفط الذي سيدرّه عليها إحياء الاتفاق النووي ليس فقط بموجب رفع العقوبات وإنما أيضاً نتيجة تحرير روسيا والصين من تداعيات العقوبات الأميركية على قطاعيّ النفط والسلاح مع إيران.
طهران في حاجة للوثيقة التي تشرّع استيرادها الأسلحة من روسيا وتصديرها النفط الى الصين علماً أن عمليات خرق العقوبات مستمرّة إنما ليس لدرجة تنفيذ الصفقات الضخمة لروسيا والصين مع إيران. حكام طهران يريدون توقيع إدارة بايدن على وثيقة إحياء الصفقة النووية ولا يأبهون بقيود الكونغرس على بايدن في أعقاب التوقيع الذي قيمته ليست فقط صينية وروسية وإنما أيضاً أوروبية لأن إحياء الاتفاق النووي يعيد فتح الأبواب الأوروبية أمام إيران.
فبين الأولويات الإيرانية البعيدة المدى توسيع القاعدة الاقتصادية اللازمة للمشاريع الإيرانية الداخلية والإقليمية كجزء من توطيد سيطرة إيران على سوريا والعراق ولبنان بمساهمة روسية مباشرة وتعزيز تواجدها ونفوذها في منطقة ومياه الخليج بمشاركة صينية.
لنتحدّث عن سوريا والعراق ولبنان أوّلاً ثم عن الدول الخليجية.
في سوريا، لن تتخلّى روسيا لا عن تملّكها القواعد والقرار السياسي ولا عن التحالف ميدانياً مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. لكن روسيا حريصة على لعب أوراقها بحذر ودقّة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل في المعادلة السورية واللبنانية.
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بدا كأنه يسير على حبلٍ مشدود أثناء مؤتمره الصحافي مع نظيره الإسرائيلي يائير لابيد. فهو حليف لإيران وللنظام في دمشق ولـ”حزب الله” – وجميعهم يزعم العداء لإسرائيل والحق بمقاومة احتلالها للجولان والرد على عملياتها العسكرية داخل الأراضي السورية – وهو يريد أن يكون حليفاً لإسرائيل في آن.
كلام لافروف كاد يكون أميركياً عندما أعرب عن تمسّك موسكو بضمان أمن إسرائيل وقال: “لا نريد أن تُستَخدَم الأراضي السورية لمهاجمة إسرائيل أو أي بلد آخر”. قال أيضاً، “هناك مصالح مشروعة، مثل مصالح أمن إسرائيل، ونحن نؤكد أنها من أهم الأولويات بالنسبة إلينا في القضية السورية وغيرها من النزاعات”. تحدّث وزير الخارجية الروسي وكأنّه رئيس حكومة سوريا وبدا واثقاً من أن كلامه لن يزعج الرئيس السوري بشار الأسد، ولا قادة “الحرس الثوري” الإيراني أو “حزب الله”.
نظيره الإسرائيلي كان جازماً فقط في رفض إسرائيل الآن أو مستقبلاً بحث الجولان الذي ضمّته اليها رسمياً بمباركة روسية – أميركية. عدا ذلك تسرّبت من كلامه رائحة طبخة الصفقات السريّة والتفاهمات. فإسرائيل أيضاً باتت تخشى ركاكة تحالفها مع الولايات المتحدة في زمن إدارة بايدن بالرغم من علاقة التحالف النوعية استراتيجياً بما يتعدى الإدارات. وهي، كغيرها من الحلفاء لأميركا، متمسّكة بتحالفها مع واشنطن إنما بعينٍ على حماية أمنها ومصالحها بنفسها أمام ضعف أميركا وقوة إيران و”حزب الله” في سوريا والعراق ولبنان.
التحالف الروسي – الإيراني في سوريا يريد إنهاء ما سمّاه لافروف “احتلال الولايات المتحدة غير القانوني لأجزاء ملموسة من الأراضي السورية واستغلالها للموارد الطبيعية والزراعية والمائية والبتروكيماويات”، معتبراً أن العقوبات الغربية ضد سوريا غير قانونية وتعيق إعادة الإعمار. كلام لافروف صحيح لِجهَة أهمية المناطق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة بالذات لأنها تمنع بذلك استفراد روسيا وبشار الأسد وإيران و”حزب الله” بالقرار السوري وبالمال.
رغبة الرباعي هذا هي أن يؤدي الانسحاب الأميركي من العراق الى فوضى وبعثرة وتكرار لتجربة الانسحاب الأميركي من أفغانستان – فيؤدي كل ذلك الى اتخاذ إدارة بايدن إجراءات الهرولة من سوريا، إما بقرار مسبق أو نتيجة التطورات في الساحة العراقية.
في العراق، ليست إيران وحدها مالكة المفاتيح هناك حتى وهي تنسّق مع روسيا العائدة الى العراق عبر تحالفها مع طهران. تطوّرات أفغانستان قلبت مقاييس عدّة وأعادت أمثال “القاعدة” و”داعش” الى طاولة رسم السياسات والاستراتيجيات. الصفقات التي عقدتها روسيا مع “طالبان” أثّرت في توجّهات “القاعدة”، وكذلك المناخ، فتغيّرت بوصلة الاتجاه الى آسيا الوسطى كمحطة أساسية لنشاطات “القاعدة” تلبية للصفقة والرغبة الروسية، وعادت إبرة البوصلة الى الشرق الأوسط، بالذات العراق حيث الشمس شارقة عكس الطقس القاسي في أفغانستان ودول آسيا الوسطى.
الانسحاب الأميركي من العراق أو البقاء فيه سيعرّض الولايات المتحدة لامتحانات جديدة بعد ما فعلته في أفغانستان. فالانسحاب سيكون لصالح إيران في العراق. والبقاء سيكون لصالح حرب “القاعدة” على الولايات المتحدة. لذلك على إدارة بايدن التأنّي والتفكير عميقاً في استراتيجية الخروج كما في استراتيجية البقاء. وهنا، إنها تحتاج الى الدول العربية الخليجية الحليفة والصديقة كشريك لها في الاستراتيجيتين.
بالرغم من تصريحات غير مسؤولة وسطحية بعض الأحيان في الكونغرس والإعلام وإدارة بايدن تجاه السعودية والإمارات وقطر وعمان والكويت والبحرين، فإن هذه الدول ستبقى أساسية في المعادلة الجغرافية – السياسية للولايات المتحدة الأميركية. وما يزيد من محورية هذه الدول لدى الولايات المتحدة الأميركية هو وضوح خطورة تداعيات تخلّي إدارة بايدن عن هذه المنطقة بالذات في إطار استراتيجية الأولوية للصين التي تتبناها. فالصين في حاجة الى هذه المنطقة في إطار منافستها للولايات المتحدة، وقد يكون ضرباً مكلفاً من الغباء إذا اتخذت واشنطن قرار تمكين وتعزيز وتمويل محورٍ صيني – روسي – إيراني أولى أولوياته تهشيل الولايات المتحدة من المنطقة.
كلمة أخيرة عن لبنان كذلك في اطار تركيز المحور الثلاثي، وتلكؤ الخطوات الأميركية، وتبعثر المبادرة الفرنسية وصولاً الى طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من نظيره الإيراني إبراهيم رئيسي تسهيل تشكيل حكومة في لبنان وكأن الانتداب الفرنسي عاد فجأة ومعتمراً العمامة الإيرانية. فأتت كلمة السر، وتشكّلت الحكومة.
“المطمئن”، أن لا أحد من هؤلاء اللاعبين يريد انفجار لبنان بما يؤدي الى تغيير جغرافي – سياسي يقضم من نفوذه وحساباته. الانهيار الداخلي شيء، والانفجار بما يؤثر في جيرة لبنان شيء آخر. هكذا ينظر اللاعبون الدوليون الى لبنان ولذلك يتساهلون مع زمرة قياداته المحلية الفاسدة منها وتلك المستبدّة بالقرار مثل “حزب الله”.
بحسب التقويم الروسي، إيران هي اللاعب الأول في لبنان، وخسارة إيران للبنان هي بمثابة “ضياع مفتاح الباب” لمشاريعها الإقليمية أجمع. رأي موسكو هو أنه من الأسهل إيكال المهمة برمتها الى إيران في لبنان مع ضمان عدم انفلات المعادلة الدقيقة بين إيران وإسرائيل والتي تحرص موسكو على رعايتها. عدا ذلك إن المحور الثلاثي يقرأ عدم اكتراث إدارة بايدن بلبنان وسوريا على أنه فرصة ذهبية جاهزة لخدمة المصالح الروسية والصينية، بقيادة إيرانية، وباستهتار تام لسيادة لبنان.
المصدر: النهار العربي