رسمت تطورات الأحداث التي شهدتها الأيام القليلة الماضية لوحتين متناقضتين بألوانهما وخطوطهما، متطابقتين بموضوعهما. أما الأولى فتبرز هستيريا الفرح التي أصابت أتباع الأسد والموالين له، نتيجة الانتصار بالوكالة الذي حققته لهم طائرات روسيا، وجحافل مرتزقة إيران في الغوطة. وأما الثانية، فتحتضن ألوان الانتكاسة الجديدة القاتمة على اللوحة المرسومة لمستقبل ودور فريق المعارضة، وكأنهم يدركون أن أوان رحيلهم قد آن.
وقد مهد لهذا النصر الوهم عوامل عدة، منها المكشوف كاللامبالاة الدولية وارتزاقية بعض الفصائل على الأرض، ومنها المكتشف مثل المقايضة الإقليمية وصفقاتها المشهودة، والمتكشف أيضاً كانقلاب الداعم الخليجي. ليتضافر كل هذا مع غارات جوية غير مسبوقة من قبل الروس سواء أكان من جهة عددها، أو كم القنابل والصواريخ المستخدمة، أو حتى نوعية هذه القنابل، مع الدعس على لافتة “محرم دولياُ”.
وللّوحتين ما يبرر ألوانهما وخطوطهما. ففوبيا الخسارات تملكت النظام وأتباعه لسنوات. إذ كلفهم صمود المكان والإنسان الفوق بشري هناك آلاف القتلى، وعشرات الأليات، وفقدان كبار الضباط. فيما المعارضة تعول على ضربة أميركية تدعم صمود الثوار، لكن الذي حدث أكد أضغاث أحلام الفكر المعارض، بل غباءه، فكانت الانتكاسة المريرة بضياع الحلم المستحيل. ستستمر هاتان الصورتان المتعاكستان لفترة قد تطول أو تقصر بحسب تطورات الأحداث، وتفاهمات الكبار في المناطق الثانية المتبقية، مثل ريف حمص الشمالي وإدلب وريف حماة الشرقي.
لكن، حين سيهدأ كل هذا، نتيجة لفرض أمر واقع أو تنفيذاً لتفاهمات بين الكبار، وتبدأ مواجهة الواقع الجديد، ستتغير الصور ويثبت الموضوع. وسيجد الموالون أنفسهم أمام أسئلة وجودية مستعصية عليهم وعلى قيادتهم، كونها أسئلة سيادية لا يملكون البت فيها، بعد أن باتت السيادة ملكاً للروسي والإيراني وزبانيتهما، بينما هم باتوا مجرد أجراء. فمن كيفية التعامل مع واقع المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والتي تتحكم بها تركيا شمالاً والولايات المتحدة شرقاً وجنوباً؛ إلى الوضع الفوضوي في مناطق انتشار وسيطرة الميليشيات والمرتزقة، والانتقامات المتوقعة على إيقاع تنفيذ مشروع التغيير الديمغرافي المنشود؛ إلى مدى تمكن النظام من المناطق الموجودة في قبضته؛ وأخيراً وليس آخراً، مكان هذا النظام في المخططات المستقبلية لكلا المحتلين على الأرض السورية. وأين سيكون تموضعه عندما تنتفي المصلحة بين روسيا وإيران وتبرز إمكانية الصدام بينهما. ناهيك عن الاقتصاد وإعادة الإعمار.
أسئلة كثيرة ستفرزها وقائع التطورات الأخيرة، قد تجبر النظام على تمييع المواقف والوعود والتصريحات تجاهها. وستصدم أنصاره الخسائر التي أخفيت عنهم، وحقيقة تحولهم إلى مطايا لأحلام معلميهم الجدد، والأهم كمية الوهم الذي اشتروه بالدماء، والاستغباء الذي احتفوا به.
ولا يبدو الوضع عند وجوه المعارضة أفضل من وضع النظام. إنما هو فارق انقلاب زمني لا أكثر. فالواقع يقول إن هؤلاء يواجهون أيضاً كماً من الأسئلة الوجودية لا يقل قسوة واستغلاقاً عن تلك التي ستواجه الموالين. كما يواجهون اتهامات حول تأثير صراعاتهم على مسار الثورة برمته. وإن كان داعمو النظام لم يتخلوا عنه حتى الآن، فإن أصدقاء المعارضين أعلنوا تخليهم عنهم منذ زمن ليس بالقليل.
لعلّ السؤال الأهم سيكون: ثم ماذا. وهنا سيكون الخطاب المعارض بكتّابه الحاليين خطاب الوداع القدري لأصحابه. فمهما طرح هؤلاء من مبررات تدخل في تبرئة الذمة، لن يغفر لهم أحد تقاعسهم وتبعيتهم وتمسكهم بمواقع جهلوا تبعات احتلالها تماماً. وبالتالي مشاركتهم في المرحلة الجديدة سيكون موضع شكوك كبيرة.
بعيداً عن حالة الاستلاب عند الفريقين، هناك إشارات إيجابية ترسلها هذه اللحظة المفصلية في مسيرة العمل الوطني. لو أحسن استغلالها فإن أثرها لن يخفى في المواقف المستقبلية.
النقطة الأولى إصلاحية، وهي وصول وجوه المعارضة التي هيمنت على القرار السياسي والعسكري، وعطلته خلال الفترة المنصرمة إلى مرحلة تجاوز تاريخ الصلاحية بسنوات سبع. وبالتالي صار بالإمكان تحييدها والتخلص من علائقها. فالحالة المصيرية تتطلب ظهور وجوه جديدة أنضجتها التجربة، متحررة من أي تبعية، ويمكنها التعامل مع الظروف الناشئة برؤية أكثر وضوحاً ووعياً.
النقطة الثانية سيادية، وهي تحرير القرار الذي ارتهن بموجب سياسة التوكيل التي اتبعتها المعارضة طوال السنوات السبع الماضية. فاللحظة باتت مؤاتيه للانعتاق من تحكم الداعمين المتلاعبين، والمبتزين، والموجهين للقرار حسب مصالحهم.
النقطة الثالثة استراتيجية. فبموجب النقطتين السابقتين، يمكن إطلاق عملية إنشاء بنية وهيكلية لهيئة المقاومة الوطنية، لها رؤيتها وخطابها ومنبرها. والتأسيس لشراكات متوازنة على أسس جديدة. يمكن الحصول على اعتراف دولي بمشروعيتها، بناء على معطيات الأزمات الدائمة النشوء مع قطبي الاحتلال، ناهيك عن صدام المصالح الذي قد ينشأ بينهما.
النقطة الرابعة تحديثية، أي تطوير الأدوات المتاحة من خبرات ومهارات، لنقل الخطاب والعلاقات إلى مرحلة مختلفة، وتحسين توظيفها في خدمة القضية.
النقطة الخامسة بنيوية، أي ترميم الثقة مع الحاضنة، وتفعيل السوريين اللاجئين كثقل نوعي وراء قضية التحرير، التي ينبغي تسويقها منذ الآن. شرط إقناعهم بتغيير حقيقي في البنية والخطاب والتوجه.
النقطة السادسة تنظيمية، تتعلق بوضع آليات متابعة ومحاسبة، لقطع الطريق على أي حالة تفرد بالقرار، أو العودة إلى تسول المنصب، ومحاولة الارتزاق لشق الصف.
بقدر ما ستتمتع القوى الوطنية بالجدية والتنظيم، وبتطابق الخطاب الشفاف مع سلوك الالتزام، بقدر ما ستختلف مقاربات التعامل والتواصل معها. المرحلة تتطلب إظهار سياسات جديدة، وفعالة في الدفاع عن القضية السورية أمام واقع الاحتلالات، وتلكؤ العالم، وإلا فاللوحة ستبقى بلون واحد: الأسود، الأسود فقط.