محمود الوهب
بداية، وبعيداً عن القرارات الأممية الحقوقية التي تنظم العلاقة بين الدولة التي تنشأ فيها ظروف طارئة تفترض أو تتسبب بهجرة أفواج من شعبها، تقلُّ أو تكثر، إلى هذه الدولة المجاورة، أو تلك! أودُّ الإشارة إلى نوعية العلاقة بين الشعبين السوري والتركي، ولن أذهب إلى الماضي البعيد بل إلى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أي إلى الفترة الأخيرة بعد مجيء بشار الأسد إلى السلطة، وتبنيه (إصلاحاً اقتصادياً منفتحاً) بعض الشيء على تجارب ناجحة في دول المنطقة أو العالم.. وهكذا نشأ تقارب سوري تركي في مجال الاستثمار الاقتصادي، تبعه إلغاء الفيزا بين البلدين الأمر الذي عمَّق الروابط الاجتماعية والتجارية بين الشعبين، ونشطت الحركة السياحية بين البلدين.. ومما ساعد في هذا المجال أن “اتفاقية أضنة” كان قد وقعها حافظ الأسد قبل ذلك بعدة أعوام أي في 20 تشرين الأول/أكتوبر من العام 1998، وأبعد “عبد الله أوجلان” عن سورية، وحدَّ من نشاط حزبه “الـ “p.k.k فيها.. الحزب المعادي لتركيا. وقد استمرت العلاقة حتى الأشهر الأولى من الثورة السورية.. ويذكر أن الجانب التركي كان قد بذل جهوداً لتجنيب سورية ما وقعت فيه، لكن الأمور سارت في اتجاه آخر، لسنا في وارد تفصيلها الآن.. لكن الأمر الذي لا يمكن للسوريين أن ينسوه أبداً، هو أن تركيا لم تفتح حدودها للسوريين الهاربين من القتل والباحثين عن النجاة بأرواحهم فحسب، بل فتح الأتراك قلوبهم وبيوتهم للسوريين الأوائل. وهذه حقيقة وأمانة في عنق السوريين وفي ذاكرتهم.
يبلغ عدد السوريين اللاجئين في تركيا نحو أربعة ملايين سوري لم يعيشوا لاجئين بالمفهوم الحقيقي، للاجئ بل لعلهم اندمجوا في البلد المضيف عملاً وبناء على الصعد كافة، تساعدهم على ذلك خبراتهم المتنوعة في ميادين الاقتصاد والخدمات العامة إضافة إلى رؤوس الأموال التي جلبها معهم رجال الأعمال، فتراهم اليوم في مواقع العمل والإنتاج. فهم موجودون في المناطق الصناعية، والتجارية، وحتى في الأراضي الزراعية، وفي مجال تربية الحيوان ومجال الخدمات. ولا شك في أنَّ النشاط الذي بذله السوريون في معظم المدن التركية قد ترك تأثيراً لا في الاقتصاد فحسب، بل في الحياة الاجتماعية، والثقافية بسبب نشوء علاقات بين الجانبين، وبخاصة في المدن التي هم الأكثر حضوراً فيها، مثل إسطنبول وغازي عينتاب وكلس وأورفة وبورصة وأنقرة وأنطاكية ومرسين وغير ذلك من المدن التركية.
وقد شكا في البدايات بعض الأتراك من السوريين بسبب اختلاف نمط حياة كل منهم وفي مضايقة الأتراك في مجال العمل. وهذا أمر طبيعي وعوامل وجوده قائمة. وقد يكون، في هذا المجال، أن بعض السوريين قد لعبوا دوراً في تخفيض أجر العامل اليومي أو الشهري، كما يرى بعضهم، وقد يكونون أيضاً ساهموا في رفع إيجار العقارات، لست اقتصادياً، لكنني أدرك أنَّ ذلك يصب في مصلحة الاقتصاد الوطني التركي، إذ ينشط حركته، وأن المستفيد في الدرجة الأولى هم رجال الأعمال الأتراك دافعو الضرائب لخزينة الدولة بحسب القوانين التركية.
إن حسبة بسيطة تعطي نتائج لا تخطر على بال أحد إذ يبلغ مقدار إيجارات عقارات السكن وعقارات المعامل أو المتاجر وحتى الأراضي الزراعية التي يستثمرها السوريون في الزراعة، وفي تربية الماشية يبلغ عشرات مليارات الليرات التركية. وثمة أمر في غاية الأهمية هو أن الأموال التي يعمل بها السوريون إنما جلبها رجال الأعمال معهم، وكل من هاجر إلى الداخل التركي جلب معه ما تيسر له من مدخراته، إضافة إلى ما قدمته منظمتا “اليونسيف” للمعلمين و”الهلال الأحمر” لعامة السوريين ذوي الأسر الكبيرة والأطفال. ولا توجد إحصائية دقيقة عما أنفقته، وما تزال تنفقه منظمات المجتمع المدني الأوربية التي توالدت مثل الفطر في تركيا، وأخذت تبحث في تفاصيل شؤون السوريين منذ ولدتهم أمهاتهم إلى المصير الذي صاروا إليه. إضافة إلى ذلك نسمع أحياناً عن هذا المستثمر أو ذاك وقد أنشأ مشروعاً بعشرات ملايين الدولارات وأحياناً مئاتها، ولا شك في أن بعض هؤلاء يثير الريبة والتشكك في أمورهم وفي المجالات التي عملوا فيها.
على كل حال ليس موضوع المقالة الدخول في مماحكات بعد ما حدث في أنقرة من ردة فعل وأساء إلى العديد من أسر السوريين. والحقيقة ما حدث لا يسيء إلى السوريين الذين لهم وضع خاص، لكن ما حدث يسيء إلى تركيا عموماً. فتركيا دولة نامية في منطقة الشرق الأوسط، ولعلها مستهدفة أكثر من غيرها إذ هي نموذج للدولة المعاصرة التي يُتطلع إليها، إذ تفتقر عموم دول الشرق الأوسط لنموذجها نمواً وحجماً وتعددية سياسية.
لقد أشار بعض الصحفيين إلى أن ما جرى إثر الجريمة التي ارتكبت في أنقرة مرتب ومدبر وله غايات سياسية وما هو إلا بروفة على أعمال مشابهة قد تحصل، ولا يتعلق الأمر بالسوريين، فالسوريون ليسوا أكثر من دريئة يختبئ خلفها من لا يريد الخير لتركيا، إذ لا أحد حتى الآن يعرف خلفيات الجريمة، فما تزال بيد الأجهزة الأمنية، ولابد من أن يقتص القضاء من الفاعل أو الفاعلين. وبالمناسبة إن الحوادث السورية التركية المشابهة لما حدث في أنقرة لا تكاد تذكر إذا ما قيست بعدد السوريين وبنسب الجريمة في دول العالم أجمع.
إن الالتفاف على مثل هذه الأمور الخطيرة هو واجب وطني بالنسبة للتركي، وهو واجب على السوريين يتعلق بسلامة وأمن أكثر الدول احتضاناً لهم ومعاملتهم المميزة حتى عن بعض البلاد العربية هذه حقيقة يعرفها الجميع وهو مطلوب من السوريين والأتراك على السواء. وسواء أكانوا أفراداً أم أسراً أو منظمات اجتماعية وثقافية وروابط مختلفة فما بين سورية وتركيا تاريخ وحاضر ومستقبل يفرضه الواقع والمصالح المشتركة.
المصدر: اشراق