محمود الوهب
لأشير في الحلقتين السابقتين من الدراسة إلى أجواء تلك المرحلة وإلى مواقف حافظ الأسد قبل تسلمه السلطة وبعدها وأتيت بشواهد كتاب ”النهضة المعاقة“ حول قضايا الفردية والتميز وهزيمة 1967 ومسألة التنمية. وقضايا تتعلق بالموقف من منظمة التحرير ومحاولات الاستئثار بالسلطة، وبمسألة القرار 242، وبالمؤتمر الذي فصل الأسد ومجموعته بأغلبية تقترب من الإجماع والانقلاب الذي تلاه..
حول القرار 242
أما المسألة الأكثر وضوحاً وهي أن مجيء حافظ الأسد وقبوله دولياً كان من أهم أسبابه قبوله بالقرار 242 القاضي بالحل السلمي وعودة إسرائيل إلى حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967 وهذا ما قاله السوفييت لصلاح جديد مباشرة: إما القبول بالقرار 242 أو مجيء حافظ الأسد مُوافَقاً عليه، فقد كان يرفضه بل يرفض التنسيق مع مصر؛ لأنها قبلت به.. يقول الدكتور حبيب حول هذا الموضوع:
“والمفارقة هنا أن وزير الدفاع كان يعارض استمرار التنسيق السياسي والعسكري مع الشقيقة مصر بحجة أن عبد الناصر قد قبل بقرار مجلس الأمن رقم 242 كما قبل بعده بمشروع ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكي في إدارة ريتشارد نيكسون عام 1969 الذي يتضمن وقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر والمباشرة بعدها بالعمل على تطبيق القرار 242 عَبْر مهمة مبعوث الأمم المتحدة غونار يارنغ”. ص 63
(بالمناسبة فإن ريتشارد نيكسون هو الرئيس الأمريكي الوحيد الذي زار سورية بصحبة وزير خارجيته هنري كيسنجر في 15/6/1974 أي بعد اتفاقية فصل القوات بين حافظ الأسد وإسرائيل).
تاسعاً- الأسد والجبهة الوطنية غطاء للانقلاب
لم يكن حافظ الأسد قبل قيامه بانقلابه مع تحالُف ندي بين الأحزاب القائمة في سورية في إطار جبهة وطنية وكان يفضل تعاوُن حزب البعث الحاكم مع عناصر وطنية وتقدمية لا مع أحزاب وتيارات، وهذا ما كان يُظهره على الأقل، لكن الأمر انقلب مئة وثمانين درجةً بعد تسلُّمه السلطة.. بل إنه كان ينسق مع الأحزاب الموجودة وكانت تطرح مع البعث قيام جبهة وطنية تقود البلاد.. يشير الدكتور حبيب إلى هذا الحدث بقوله:
“كان موقف حافظ الأسد على الدوام ضد صيغة الجبهة الوطنية سواء عندما كانت تُطرح في اجتماعات القيادة أم في مؤتمرات الحزب؛ لأنها كما كان يعبر عن ذلك تنهي قيادة الحزب للثورة، وكان يؤيد دائماً التمسك بالصيغة القائمة، والمعمول بها، أي تعاون الحزب مع عناصر وطنية وتقدمية، لا مع أحزاب وقوى. أذكر هنا أنه عندما كان المؤتمر يناقش الاقتراح الذي تقدمنا به حول هذا الموضوع.. خرجت من قاعة المؤتمر، وسرت في أحد الممرات المؤدية إليه فوجدت حافظ الأسد والعقيد ناجي جميل والعقيد أحمد المير محمود يتبادلون الحديث فيما بينهم، فلما اقتربت منهم بادرني حافظ الأسد قائلاً: أراكم تولون اهتماماً جدياً لموضوع إقامة الجبهة الوطنية التقدمية، أنا كنت البارحة أفكر مطولاً واقتنعت أن قيام الجبهة هو الصيغة المناسبة التي ينبغي أن نطبقها عندنا في سورية. رددت عليه مازحاً أقول: موقف يسجل لك، ولكن أخشى أن تكون قناعتك الطارئة يوم أمس مؤقتة، وأن تتبدل غداً فأنا أسمع من الكثيرين بأنكم تنوون القيام بانقلاب عسكري، فرد ناجي جميل هائجاً: نعم سنقوم بانقلاب، ونحكم البلد سنتين زمان و”اللي بدو يصير بعد ذلك يصير”. ص96
لكن الذي جرى على أرض الواقع أن الأحزاب كلها وُضعت في قمقم.. فهناك طبعاً مَن والى حافظ الأسد أكثر من البعثيين أنفسهم (صفوان القدسي أولاً ثم فايز إسماعيل) حتى إن البعثيين أخذتهم الغيرة وصاروا يكنون له الكراهية دون تصريح.. أما الآخرون الذين أرادوها جبهة بحق فقد خضعوا على نحو أو آخر، وأصابهم بلاء السلطة وأمراضها، ثم آلت تلك الأحزاب إلى التقسيم والتشرذم، وقلَّ تمثيلها في السلطة، فمن وزيرين وثمانية أعضاء في مجلس الشعب إلى وزير واحد وغالباً بدون وعضوين في المجلس وغدا قادة الأحزاب أزلاماً للسلطة مقابل مراكز تافهة.
والحقيقة ليست الأحزاب وحدها التي تدمرت بل المجتمع بكامله، فالأحزاب في الدولة الحديثة إلى جانب منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً رئيساً في قيادة الدولة التي ترعاها القوانين وسلطة قضائية مستقلة إلى جانب السلطات الأخرى بما فيها السلطة الرابعة؛ الإعلام بأشكاله وألوانه كافة.. يرى مؤلف الكتاب أن عملية تدمير المجتمع بدأت: “اعتباراً من مرحلة الطفولة أي من المدرسة الابتدائية حيث يجري التركيز على دور القائد الفرد والحاكم الفرد بتصويره كائناً فوق البشر بترديد التلاميذ صباح كل يوم ذلك الشعار الذي يطعن كل القيم الوطنية برفعه شعار: “قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد..” و”هكذا استمر النظام طوال خمسين عاماً مضت، يواصل تدمير المجتمع السوري في مناحي حياته كافة، مغتصباً إرادة الشعب، تاركاً البلاد في حالة تخلُّفٍ وإعاقةٍ عن اللحاق بركب الحضارة والتقدم”. ص97
موقف السوفيت
تغير موقف السوفييت مئة وثمانين درجةً وهم الذين دعموا حركة 23 شباط بمشاريع كثيرة حتى إنهم لما وضع حافظ الأسد رفاقه في السجن لم يأبهوا لذلك، كما لم يستجيبوا لأصدقاء الأمس القريب.. يشير إلى ذلك مؤلف الكتاب بقوله:
“أما بالنسبة للقيادة السوفيتية التي كانت تربطنا بها أوثق العلاقات المبدئية والرسمية وفي المجالات كافة، ونحن في السلطة، فلم نلمس منها أي موقف جدي للإفراج عن رفاقنا، بل إنَّ سفارتها في الجزائر رفضت محاولتين لنا، أنا والرفيق مالك الأمين، للحصول على فيزا لزيارة الاتحاد السوفيتي لمقابلة المسؤولين هناك من أجل هذا الموضوع علماً أنني شخصياً حاصل على ميدالية لينين! ص108
والحقيقة لم يكتف السوفيت بذلك بل أشاعوا على لسان عميلهم المزدوج “كيم فيلبي” أن بعضاً من جماعة صلاح جديد كانت تتردد على أوساط مخابراتية بريطانية في بيروت (وهذه القصة كانت لإقناع الشيوعيين الذين كانوا مع التوجه السياسي للجناح المدني اليساري الذي كان يقوده صلاح جديد)
وواضح أن أمرين رئيسين لعبا دوراً في موقف السوفيت هما الأول القرار 242 أما الأمر الثاني فوعود حافظ الأسد باستمرار علاقات “الصداقة” معهم، وموافقته على قيام جبهة وطنية تضم الحزب الشيوعي. وكانت مجموعة صلاح جديد قد تلكأت في هذا الأمر. وخصوصاً أن السوفيت قد طلبوا ذلك من وفد زار موسكو مطلع عام 1967. “وهكذا سهرنا طوال تلك الليلة أنا والدكتور ماخوس نناقش مشروع ذلك البيان مع عضوين من الوفد السوفيتي، لنتفق على صيغة نهائية، ومع ذلك ظلت نقطة واحدة أصر الجانب السوفيتي على تضمينها، وهي المتعلقة بضرورة أن يقود حزب البعث جبهة من الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية. وكان ردنا أن هذه الصيغة لا تتفق مع مقررات مؤتمرات حزبنا التي تنص على صيغة تعاون الحزب مع العناصر الوطنية والتقدمية، ونحن لا نملك الصلاحية لتجاوز مقررات المؤتمر”. الكتاب ص41
يذكر كاتب هذه المادة أن خالد بكداش ويوسف الفيصل ذهبا لمقابلة حافظ الأسد بُعَيْد انقلابه لوضع ترتيبات التمثيل في سلطات الدولة وبعض مؤسساتها، وفي الطريق قال بكداش للفيصل: سنطلب وزيرين، فتساءل الفيصل أتُراه يوافق؟ قال بكداش سيوافق، وعلى كلٍّ نحاول.. (كان يدرك أن الأسد سيوافق في نوع من المزايدة على رفاقه الذين أودعهم السجن، ثم مما بعد تجربته مع رفاقه المدنيين؟!) وبالفعل تلكأ الأسد أولاً زاعماً أن الأمر محرج أمام الأطراف الأخرى، لكنه وافق على وزيرين أحدهما بحقيبة والآخر بدون، ولكل أطراف الجبهة الأربعة (حالياً نحو عشرة أحزاب وأكثر نتيجة الانشطار الذاتي لكل منها وبالتالي تقليص عدد الممثلين).
بالطبع كانت مفاجأة للدكتور حداد انعطاف الحزب الشيوعي في موقفه، وقد كان يلتقي مع بعض قادته لدى اشتداد أزمة البعث في منزل صديقه المحامي الشيوعي مصطفى أمين، وخاصة أن الشيوعيين كانوا قد أرسلوا رسالة إلى مؤتمر البعث أملوا منه التخلص من الزمرة العسكرية اليمينية.. وتحاور معهم في آخِر لقاء، وكان أن قال له دانيال نعمة: ضع نفسك مكاننا، فماذا أنت فاعل؟! فكان جوابه على الأقل خُذوا موقفاً مستقلاً لكن صديقه مصطفى أسرَّ له أن محيي الدينوف أبلغهم بضرورة الموافقة..
ويبقى أن أشير إلى أن حركة “23 شباط” كانت -بمعايير ستينيات القرن الماضي- نقطةً مضيئة في تاريخ سورية، وحزب البعث نفسه، لكن تفكير قيادتها كان محكوماً بحلم رومانسي، مهما قيل عن نقائه، فإنه ابتعد كثيراً عن الواقع المحلي والعربي والدولي الذي استغله حافظ الأسد بعقليته البراغماتية المتربصة بالسلطة وتبقى فكرة الانفراد بالحكم التي امتاز بها الجميع هي التي أوصلت سورية إلى ما هي عليه الآن
المصدر: نداء بوست