د. مخلص الصيادي
مؤخرا نقض الباحث الفلسطيني “أحمد الدبش” النظرية التي تبناها ودافع عنها قبل عشرين عاما والتي حاول من خلالها إثبات أن المواقع التي تحدثت عنها التوراة والتي تقرأ باعتبارها مواقع في فلسطين ومصر والعراق ومحيطها، ليست كذاك. وإنما هي في اليمن، مستندا إلى أساسين اثنين.
الأول: أن الدراسات الآثارية، التي قام بها باحثون يهودا ومن غير اليهود لم تكشف في هذه البلدان ( فلسطين، العراق، مصر) أي أثر للوجود اليهودي والإبراهيمي الذي تحدثت عنه التوراة.
الثاني: أن هناك شواهد من أسماء المواقع ومن مفردات لغوية تعزز الاعتقاد أن كل ذلك الحديث يتوافق مع افتراض أن قصص التوراة حدثت في اليمن، أو في الجزيرة العربية.
الرجل في عمله هذا كان أحد ثلاثة باحثين بذلوا جهدهم لإثبات الأمر نفسه على خلاف جزئي بينهم، متفقين في نفي وجود الأثر اليهودي في هذا المثلث ” فلسطين، العراق. مصر”، ومتباينين في إثبات المكان البديل، اليمن أم مناطق معينة في الجزيرة العربية.
والباحثان الآخران هما:
** المؤرخ اللبناني كمال صليبا الذي كتب قبل أربعين عاما كتابه” التوراة جاءت من جزيرة العرب” بطبعته العربية 1985.
** والكاتب العراقي فاضل الربيعي في كتابه ” فلسطين المتخيلة. أرض التوراة في اليمن القديم” ثم كتابه ” القدس ليست أورشليم”.
وكما كتب الأستاذ منير شفيق في عدد يوم 23 سبتمبر الجاري من صحيفة الاخبار اللبنانية، فإن تراجع الدبش عن أطروحته يعطي مزيدا من القيمة لهذا المؤرخ باعتباره مؤرخا موضوعيا صادقا يقف عند حدود الحقائق التي تتبين له، ويلتزمها، ولا شك أن مثل هذا الموقف مما يعلي شأن الباحث، ويزيد من وزنه العلمي، وخصوصا إذا كان ما أعاد النظر فيه وتراجع عنه هو نفسه البحث الذي سبق أن أعلى شأنه ووضعه في مصاف “الباحثين والمؤرخين المرموقين”.
وكنت قد تناولت ما يخص هذه الكتابات في مقالة لي في 22 / 6 نشرتنها بعنوان “الأقصى: الجغرافيا والقداسة …. كتابات تفتقد البراءة” وذلك تعليقا على مقال للشيخ الدكتور محمد شقير، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، نشره قبل ذلك بخمسة أيام في جريدة الأخبار اللبنانية حول “جغرافية المسجد الأقصى والسردية الصهيونية”. وأوردت في ذلك التعليق نقاطا عدة تفند هذا الاتجاه في تناول قضية فلسطين والأقصى، وجزيرة العرب… الخ.
ومراجعة ونقد الدبش للمقولة الرئيسية التي سبق ان تبناها قائمة على أساس أن انعدام وجود آثار أو دلائل مادية على وجود ذكر لليهود في هذه البلدان هي حقيقة أكدها الكثير من علماء التاريخ والآثاريين، لا توصل صاحبها الى اثبات أن الوقائع المشار اليها جرت في جزيرة العرب أو اليمن، فنفي الأول لا يعني ثبوت الثاني، والاعتماد على أسماء لمواقع محددة ليس دليلا تاريخيا يمكن الاستناد إليه.
وبالتالي فإن الخلاصة التي يشير إليها الأستاذ شفيق في مقاله المشار إليه “أحمد الدبش والتاريخ اليهودي”، وهي مما أكده الدبش تتصل ب “نفي أيّة علاقة بين تاريخ اليهود في فلسطين حسب التوراة. والحقائق الأثرية وعلم التاريخ يستند إلى العلم البحت، وليس له من علاقة بالسياسة أو الأيديولوجيا، أو الرغبات”، فالتوراة ليست نصا تاريخيا أو مرجعا للتاريخ من وجهة نظر علم التاريخ ما لم تؤكد ذلك الوثائق التي يعتمدها هذا العلم مرجعا له. فالتوراة نص ديني، وليست نصا تاريخيا للقدس أو لليهود أو لفلسطين،
ويخلص الأستاذ شفيق إلى نتيجة تبدو منطقية جدا، ومثل هذه الخلاصة يسحبها على القرآن الكريم داعيا المفسرين إلى تحرير النص القرآني مما عرف بالإسرائيليات، “فالقصص التي وردت في القرآن إنما هي للعبرة «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ»، «سورة يوسف، آية 111»”.
هذه الخلاصة، وهذه الدعوة التي أطلقها الأستاذ شفيق تستوجب وقفة وتوضيح، فليست الدعوة إلى تحرير تفاسير كتاب الله من الاسرائيليات بالجديدة، شريطة أن تفهم هذه الدعوة على حقيقتها، ومثلها القول بأن القرآن ليس كتاب تاريخ، ولا كتاب علوم طبيعية، ولا كتاب جغرافيا…الخ.
القرآن كتاب هداية، لا شك في ذلك، لكن ما ورد في القرآن من قصص، ووقائع، وسير، وردت على الحقيقة، وبشكل جازم لا شك فيه. وليس القول بأن هذه القصص “عبرة” مناف لكونها جرت على الحقيقة.
في كتاب الله عشرات، بل مئات من الوقائع، والقصص، والأسماء، والسير، منها ماجرى زمن رسول الله، ومنها ما جرى قبل ذلك، وكلها جرت على الحقيقة، سواء عرفنا تفاصيلها أم لا، وسواء وجدت العلوم المختلفة دلائل أو تفسيرات لها أم لا، فوجود مثل هذه التفسيرات أمر متعلق بقدرات الانسان وبدرجة تقدمه، وهذه تتطور وتتقدم، وما اعتبر اليوم حدا لها، تتجاوزه بالعلم والمعرفة غدا.
وكمثال على ما نؤكده هنا، فإن مما لا شك فيه أن إبراهيم عليه السلام أقام القواعد لبيت الله في مكة المكرمة، ومما لا شك فيه أن البحر انشق لموسى ليعبر هو وقومه، ومما لا شك فيه أن فرعون غرق هو وجنوده في اليم، ومما لا شك فيه أن بلقيس ملكة سبأ أسلمت على يد سليمان عليه السلام، ومما لا شك فيه أن يوسف انتقل الى مصر وعاش فيها، وإليها انتقل يعقوب وبنيه.
ومما لا شك فيها أن الله دمر قوم لوط وبلدتهم تدميرا شاملا، فلم يبق منها إلا آثارها، أما أن يكتشف علماء الاثار والحفريات عام 2015 على اثار “سدوم وعمورة “بمنطقة “تل الحمام” في غور الأردن، وأن يفسر العلماء نهايتها بانفجار نيزك جليدي على علو نحو أربعة كيلو مترات منها، فهذا امر آخر، متروك لجهود الانسان وتقدمه العلمي.
ومما لا شك فيه أن الانجيل والتوراة كتب سماوية، أصلها العقدي والتشريعي واحد، لكن أيضا مما لا شك فيه أنه جرى تحريف لهذه الكتب، وأن القرآن الكريم، وهو كتاب خاتم الأنبياء عليهم السلام، هو الكتاب الوحيد الذي لم يمسه أي تحريف، وبقي محافظا على طبيعته ونصه وحرفه الذي نزل فيه، وبالتالي هو المرجع في بسط كل حقائق التوحيد، والغيب، والتشريع والقصص.. الخ.
ما نقوله هنا ونثبته، له أهمية خاصة ليس فقط من جانب العلوم الإنسانية، وإنما من جانب العلوم الإيمانية، فالمسلم لابد له من الإيمان بجميع الأنبياء والرسل، وبجميع كتبهم السماوية، ما عرفنا منها وما لم نعرف، وإذا ظهر تناقض حقيقي بين ما ورد في هذه الكتب، والحقائق العلمية القاطعة فمرده عندنا إلى التحريف الذي وقع على هذه الكتب، وليس إلى عيب أو نقص أو خلل في أصل هذه الكتب.
27 / 9 / 2021
د. مخلص الصيادي