العقيد عبد الجبار العكيدي
التقي الاربعاء، الرئيسان الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان في منتجع سوتشي، لمواصلة بحث القضايا العالقة بين الجانبين، والتي سيكون الملف السوري على رأس أولوياتهما، وذلك قبل يوم واحد من ذكرى مرور ست سنوات على التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي قلب موازين القوى وغيّر الخارطة العسكرية لمصلحة النظام على حساب فصائل الثورة والمعارضة التي كانت تسيطر على ما يقارب من 70 في المئة من الجغرافية السورية، وكانت على أبواب العاصمة دمشق، وجعلت النظام على وشك السقوط، حسب تصريحات المسؤولين الروس لولا تدخلهم في الوقت الحرج لإنقاذ الأسد، وبضوء اخضر أميركي.
ربما يصح تسمية قمة الرئيسين الروسي والتركي ب”لقاء الضرورة”، ففي ظل الشهية العربية للتطبيع مع النظام، والمتوجة بحراك العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في الإقليم والدول الفاعلة في الشأن السوري، ولقاء بعض وزراء خارجية الدول العربية مع وزير خارجية النظام فيصل المقداد في نيويورك، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في محاولة لإعادة العلاقات مع الأسد والقبول بالواقع الجديد في ظل الإهمال المتعمد من الإدارة الأميركية، وصولاً إلى تسريبات الانسحاب الأميركي من سوريا ، كل ذلك جعل من روسيا تتعجل في فرض واقع سياسي يسمح بتأهيل الأسد وتعويمه دولياً.
يذهب الرئيسان وفي جعبة كل منهما العديد من المطالب لطرحها على الاخر، في محاولة لتحقيق ما أمكن من المكاسب، معززين مواقفهم التفاوضية بأوراق قوة، منطلقين من نظرية القائد الإنكليزي تشرشل “إذا ذهبت للتفاوض حضر نفسك للحرب”.
الاستراتيجية الروسية المتمثلة بتصعيد عسكري على الأرض بموازاة أي استحقاق سياسي، لتكون ورقة الضغط الأقوى أثناء اللقاء، كانت دائما تتركز على مناطق إدلب وجبل الزاوية وجبال الساحل، ولكن خلال الأيام الماضية تجاوزته لتستهدف مواقع لإحدى فصائل الجيش الوطني (فرقة الحمزة) المدعومة تركياً، ولتطال المناطق الواقعة تحت النفوذ التركي في منطقتي عمليات غصن الزيتون، ونبع السلام. هذا التصعيد لم يكن مجرد حدث عابر، بل له دلالاته الخطيرة بأن الضامنين لاتفاقات أستانة وتفاهمات سوتشي، غير متوافقين على ما يبدو، حول مستقبل الترتيبات في شمال وشمال غرب سوريا، وأن الروس يريدون فرض واقع عسكري جديد على غرار ما حصل في محافظة درعا.
هذا التصعيد قبيل لقاء الرئيسين يحمل رسائل روسية دموية مرتبطة بالتفاهمات الأميركية الروسية وهشاشة موقف الرئيس الأميركي جو بايدن من القضية السورية، والليونة في تطبيق قانون عقوبات قيصر، بالإضافة للبرود الحاصل بين الرئيسين الأميركي والتركي، وتعثّر عقد لقاء بينهما في نيويورك أو واشنطن خلال الأيام الأخيرة الماضية، ما أعطى الضوء الأخضر لبوتين، الذي لن يضيع هذه الفرصة بالضغط على الجانب التركي لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية في سوريا، من خلال قضم مزيد من المناطق، وفتح الطرق التجارية إم-4 وإم-5، والمعابر بين مناطق النظام ومناطق سيطرة المعارضة، لتنفيذ استراتيجيته باستعادة سيطرة النظام لكامل الأراضي السورية وإنعاشه اقتصادياً.
روسيا التي تتسلح بالدبلوماسية العالية المعززة بالقوة العسكرية، تقدم نفسها اليوم كبديل لضبط الأمن في المنطقة، في ظل التراجع الأميركي، وفي سوريا تحارب أصالة عن النظام لفرض أمر واقع من خلال تقدم جديد على الأرض يلغي كل التفاهمات السابقة مع تركيا، ويوصل رسائل إليها مفادها بأن نفوذها على مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام لن يحصّن هذه المناطق من الاستهداف، وكأن حال بوتين يقول لأردوغان قبيل اللقاء إن وجودكم على الأراضي السورية غير شرعي، مثله مثل الوجود الأميركي، وعليكم أن تقبلوا بإملاءاتنا وأن تخضعوا لشروطنا.
انطلاقاً من هذه الغطرسة الروسية والظروف الدولية التي ليست في صالح تركيا، يعتقد البعض أن الموقف الروسي في مفاوضات اليوم سيكون هو الأقوى، وربما لن يكون لقاءً متكافئاً بين الرئيسين.
الرئيس التركي الذي يجيد سياسة حافة الهاوية، قلق بالتأكيد من أي تغيير للواقع في إدلب وما قد يترتب عليه من أزمات، سواء جيو-استراتيجية أو إنسانية، حيث قد يؤدي الى موجة نزوح جديدة باتجاه الحدود، وبالتالي هو يسعى ما أمكن للحفاظ على هدن وقف إطلاق النار في مناطق خفض التصعيد، وتطبيق ما تم التفاهم عليه مع الرئيس الروسي في 5 آذار 2020، لكنه ذاهب وفي جعبته الكثير من أوراق القوة التي لا يستهان بها.
أهم أوراق القوة التركية
روسيا التي كان أحد أهم الاسباب الرئيسية لتدخلها العسكري في سوريا بالإضافة لمنع سقوط الأسد، تعطيل حلف الناتو من خلال إحداث انقسام داخله، وهذا يتوقف على نجاح روسيا بتحويل التنافس والعداء مع تركيا إلى تعاون وتحالف وثيق وشراكة، وهذا ما تجسد فعلاً من خلال التعاون المشترك بين الطرفين في أذربيجان وليبيا، وسوريا بشكل خاص في ملف خفض التصعيد، ونجاح الروس بتعطيل مسار المفاوضات في جنيف والاستعاضة عنه بمسار أستانة واللجنة الدستورية.
طورت تركيا من جانبها، شيئاً فشيئاً استراتيجية الردع، وحولت نقاط المراقبة إلى نقاط عسكرية دفاعية وهجومية، ونشرتها على شكل خطوط صد ودفاع على طول خطوط التماس مع النظام، مما قلّل هامش المناورة لقوات النظام، خلافاً للعمليات السابقة، وأصبح النظام مضطراً للاشتباك المباشر مع القوات التركية في حال نيته القيام بأي عمل عسكري، وبالتالي ستتحمل روسيا الأعباء المترتبة على ذلك وستكون علاقتها مع تركيا على المحك.
كما تمتلك تركيا الطائرات المسيرة (بيرقدار) التي أثبتت فاعلية عالية وكبدت النظام خسائر كبيرة في معركة درع الربيع، ربيع 2020، وكان لها تأثير كبير على سمعة الأسلحة الروسية وعدم مقدرة منظومات الدفاع الجوي الروسية على التعامل معها، وكسر احتكار روسيا للمجال الجوي السوري، بالإضافة الى الدور الكبير الذي لعبته تلك الطائرات في حسم المعركة في أذربيجان لصالح حلفاء تركيا.
إلى جانب ذلك، فإن تركيا مازالت تنسق بشكل مشترك مع الولايات المتحدة وبالحدود العليا على مستوى الأمن الاستراتيجي ومكافحة الإرهاب، فيما تنسق مع روسيا بشكل مستقل وبالحدود الدنيا، مما يهدد في حال أي تصعيد ضدها بفشل المخططات الروسية باستقطاب تركيا، التي تعمل على رسم علاقتها مع روسيا بما لا يضر تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن والغرب، فيما تبذل روسيا قصارى جهدها لرسم علاقة مع تركيا بما يؤدي في النهاية لزعزعة العلاقات بين حلفاء الولايات المتحدة، وبالتالي خشية الروس من انعطافها نحو الغرب في حال استفزازها أكثر من اللازم.
ومن نقاط قوتها الأخرى أن تركيا ما تزال الطرف الضامن لفصائل المعارضة التي دربتها وأهّلتها ودعمتها على مدار السنوات الخمس الماضية، بعد توقف الدعم من غرفتي العمليات (الموم، الموك)، هذه الفصائل التي تمتلك قدرة عالية على تهديد المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، تبدي التزاماً كبيراً بسياسات تركيا وأمنها، ولطالما أبدت استعدادها للتصدي لقوات النظام وحلفائه، وطالبت مراراً تحت ضغط الحاضنة الشعبية بالسماح لها بتحرير مدينة تل رفعت والقرى التي حولها، ومدينة منبج، التي يسيطر عليهم النظام وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وربما لو قُدم لهذه الفصائل الدعم الكافي من السلاح والذخيرة لاستعادة مدينة حلب وكل المناطق التي تقع تحت سيطرة النظام بسرعة كبيرة، وبالتالي فإن تركيا قادرة على تهديد كل المكاسب التي حققها النظام السوري بعد التدخل الروسي إذا ما سمحت أو أوعزت للفصائل بالتحرك.
كل ما تقدم يفرض على الجانبين التركي والروسي تفاهمات صعبة حيث لا هوامش للمناورة لدى الطرفين، ولا إمكانية لتخلي طرف عن الطرف الاخر، كل ذلك يجعلنا نتوقع من لقاء الرئيسين حقائق بعدما استنزفت السياسة كل طاقتها، وبات لزاماً مواجهة الحقيقة؟ ومن المرجح أن الرئيسين ذاهبان للاتفاق وليس للاختلاف، والتعامل مع الخلافات على أساس الاتفاقات السابقة، مع إمكانية إدخال تعديلات عليها وفق مقتضيات الأمر الواقع الجديد والتطورات الأخيرة السياسية والعسكرية.
المصدر: المدن