فارس الذهبي
تعود جذور الخلاف الإيراني الأذربيجاني إلى بدايات القرن العشرين، حينما تراجع النفوذ الروسي عن إقليم أذربيجان نتيجة للفوضى التي حققتها ثورة 1917، واضطراب البلاد الروسية جمعاء متبوعاً بسقوط حكم القياصرة، ما دعا الأذريين إلى إعلان استقلالهم التام في العام 1918، وأعلنوا أن نهر أراس الفاصل بين إقليمي أذربيجان القوقازي وأذربيجان الفارسي سيكون هو الحدود الفاصلة بين الدولتين.
ونمت في صدور الأذربيجانيين غصة كبيرة لذلك الإعلان، فإقليم أذربيجان الجنوبي وعاصمته تبريز، التي تعد حاضرة مهمة جداً للثقافة والتاريخ الأذربيجاني.. يرنو على الدوام لنظيره الشمالي الناجح والمزدهر، رغم معارضة إيران لذلك الاستقلال ودعوة الحكومة الأذربيجانية للانضمام إلى الدولة الفارسية الناشئة وحكومتها الشاهنشاهية الراغبة بالتوسع الإمبراطوري “الفاشل” عبر التاريخ.
اتخذ الأذريون موقفاً حاسماً من رغبات إيران بضمهم، وعملوا على تكوين ثقافة خاصة ومستقلة بهم رغم التشابكات المعقّدة التي تحيط بالمكون الأذربيجاني في المنطقة، فالأذريون يتبعون القومية التركية ولكنهم وبنسبة 70% من التعداد السكاني يتبعون المذهب الإثني عشري الشيعي، ورغم التمزق بين الجارين الكبيرين التركي والإيراني، استطاعوا اتخاذ موقف قومي بعيداً عن الانتماء الديني، حتى اجتاحت جيوش الاتحاد السوفييتي العاصمة باكو وضمت أذربيجان مجدداً إلى الخريطة السوفييتية، معلنة ولادة جمهورية أذربيجان الاشتراكية السوفييتية عام 1920..
حاول السوفييت تحريض الأذربيجانيين على استعادة أراضيهم القومية من إيران بالقوة، إلا أن تدخل الحلفاء وبالخصوص البريطانيين جعل الاتحاد السوفييتي يقبل بحدود نهر أراس كحد نهائي بين الدولتين، ليستمر الوضع على ما هو عليه حتى سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1990، وانفجار الحدود الجيوسياسية من آسيا الوسطى وحتى أوروبا الوسطى، حينذاك أُعلنت ولادة جمهورية أذربيجان التي تولى السلطة فيها الرئيس حيدر علييف، بعد فترة من الاضطرابات السياسية استمرت لثلاث سنوات، واستمر حتى عام 2003.
حيدر علييف هذا كان أحد أعضاء ومؤسسي حزب “تودة” الشيوعي الإيراني، ولذلك فإن الإيرانيين يعتبرونه فارسياً منشقاً، ولكن حيدر علييف الذي استطاع فرض الاستقرار في البلاد، فاجأ الإيرانيين بإعلان علمانية البلاد، وبعدم استناد مشروعه القومي على أسس دينية كما فعلت ثورة الخميني في طهران.
وبدأ حينذاك النزاع القومي الديني الحدودي بالتجذر بين البلدين، حيث اختارت إيران وكعادتها في اللعب على التناقضات مساندة خصم أذربيجان التاريخي، وهي جمهورية أرمينيا التي تتنازع حدودياً مع باكو، والتي خاضت كذلك حرباً مدمرة مع الأذريين، كانت نتيجتها احتلال أرمينيا أجزاء واسعة من الأراضي الأذربيجانية، ومنها إقليم ناغورنو كاراباخ وإقليم ناخشيفان الذي حررته باكو، مطلع عام 2020.
لكن الرئيس حيدر علييف لم ينس ذلك التاريخ المرير بين البلدين، ولم ينس الجرح القومي الذي سببته سياسات طهران بدعم الأرمن على حسابهم.. فعزز علاقاته بشكل استراتيجي مع تركيا التي منحته بدورها تفوقاً عسكرياً كبيراً وعزز علاقاته كذلك مع إسرائيل زاعماً أن “أذربيجان دولة علمانية حديثة لا علاقة لها بأي صراعات تاريخية أو دينية أو إثنية”.
إلهام علييف رئيس أذربيجان الحالي هو الابن الأكبر للرئيس الأذربيجاني حيدر علييف، والأخير كان مؤسساً وعرّاباً للعلاقات الإسرائيلية الأذربيجانية التي انطلقت عام 1992، والتي عززها في عهده بشكل كبير، بحجة أن أذربيجان لا تريد سوى الخير لشعبها بكامل طوائفه وأقلياته، مذكراً ببلدة القصبة القرمزية التي تتكون بمجمل سكانها من الطائفة اليهودية، وحين زارها الرئيس حيدر علييف في العام 1993، أعلن ولادة مشروع مشترك بين البلدين استمر حتى اليوم، بالرغم من أن العلاقات بينهما كانت عبارة عن (سلام بارد).
ولكنّ ابنه إلهام علييف صعّد من حدة التعاون بين البلدين حتى ظهر في الأيام الأولى من شهر تشرين الأول 2021 وهو يضع يده فوق طائرة مسيرة إسرائيلية الصنع في استعراض عسكري كبير في باكو، مما أثار حفيظة الإيرانيين الذين كانوا يقومون في الوقت ذاته بمناورات عسكرية كبيرة في شمال البلاد قرب الحدود الأذرية وقد أطلقوا عليها اسماً تحريضياً تاريخياً مثل عادتهم أيضاً (فاتحو خيبر) وكأن المناورات الأخيرة هي رسالة إلى إسرائيل وتهديد لكل من يتحالف معهم.
قبل ذلك بسنوات وفي البرلمان الأذربيجاني طلب النائب الأذربيجاني قاسم غولييف بتغيير اسم البلاد من جمهورية أذربيجان إلى جمهورية أذربيجان الشمالية، التي توحي بشكل من الأشكال بوجود جمهورية جنوبية تحتاج إلى التحرير، مثلها مثل كوريا الشمالية والجنوبية وقبرص الشمالية والجنوبية، الأمر الذي تلقفته إيران بحذر شديد، وهي التي تحرص على قمع أي فكرة تحرّض على وحدة الأراضي التي احتلتها قبل مئة عام مثل كردستان إيران وأذربيجان والأحواز العربية.
في العام 2001 حصل نزاع حدودي بين أذربيجان وتركمانستان حول حقل نفطي في منطقة بحر قزوين، ساندت إيران فيه تركمانستان، استفزت أيضاً تلك السياسات الإيرانية الشعور القومي الأذربيجاني، الذي كان يغلي من موقف إيران تجاه قضية ناغورنو كراباخ، حيث بقيت فكرة تحرير الأرض تنمو في الوعي العميق للشعب الأذربيجاني حتى انطلقت عمليات استعادة الإقليم عام 2020، وبالفعل تمت استعادته بدعم تركي كبير وصمت روسي.
ذلك الإقليم الذي تعتبره الأمم المتحدة ذاتها إقليماً محتلاً حسب المعاهدات والمواثيق الدولية، اعتبرته إيران أرضاً أرمينية، مما جعل الغضب الشعبي من سياسات طهران يتنامى في المدن الأذربيجانية جنوب وشمال الحدود بشكل كبير.
إن أي حرب بين أذربيجان وإيران ستعتبر بشكل من الأشكال امتحاناً لصلابة المجتمع الإيراني، أو لنقل أنها ستكون حرباً أهلية في إيران، دون أن ننسى أن المرشد الأعلى علي خامنئي من أصول أذربيجانية، بل إنه يعتبر بين أذر إيران، من اختاره الخميني ليكون ممثلاً عن الأذر في مجلس الثورة الإسلامية بدلاً عن العلامة آية الله شريعتمداري، الذي همّشه الخميني وأعدم مناصريه، مستشرفاً الخطر منه.. مما أثار أذر إيران وقتها وأدى إلى أعمال عنف.
ورغماً عن أن الدعاية الإيرانية التاريخية لنظام الملالي، كانت تتجسد في تكريس الصراع السني الشيعي واعتباره خطراً على نظام طهران، مما دعا إيران إلى تبني فكرة تصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار العربي، ونشوب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران 1980-1988.
وتفجر الصراعات في الشرق الأوسط في كل من سوريا والعراق ولبنان واليمن والخليج العربي، لكن خطر نشوب حرب بين بلدين جارين شيعيين يبدد تلك الفكرة السخيفة التي رسختها طهران وغذتها على مدار أربعين عاماً، لأن حكام طهران يعلمون علم اليقين بأن نموذج أذربيجان هو النقيض الكامل لنموذج إيران، دولة علمانية شيعية مدعومة من الغرب في مواجهة دولة دينية جهادية شيعية موالية للصين، لذلك تعالت أصوات الحرب والانتقام من أذربيجان في طهران بحجة وجود إسرائيل في أراضيها، على الرغم من أن ذلك الوجود مستمر منذ ثلاثين عاماً، وكان بالإمكان إسقاطه في تلك الأيام بسهولة أكبر من اليوم.
وبالرغم من وجود إسرائيل في دول عُمان والبحرين والإمارات وحتى في إقليم كردستان، لم تنبس إيران ببنت شفة أو تصعد أي تصعيد في مواجهة ذلك الوجود، لأنها تعلم أن شعار مواجهة إسرائيل هو للتصدير فقط وليس للاستهلاك الفعلي، ومن جهة أخرى لأنها تدرك أن نجاح تجربة أذربيجان العسكرية تعني زوال إيران جيواستراتيجياً.
لكن المسألة تبدو أكبر من نزاع قومي ديني بين بلدين، فإيران التي تمثل ذراعاً عسكرياً للصين في الشرق الأوسط، تسعى إلى تقويض الانتصار الأذري الأخير في ناغورنو كاراباخ، ذلك الانتصار الذي فتح الباب والطريق بين تركيا وبلدان وسط آسيا التركمانية، جارات الصين التي يشكل إقليم (تركستان) أو حسبما يعرف في الصين بإقليم الأويغور أو مقاطعة سنجان الصينية حالياً، عمقها الكبير، وهاجساً صينياً يرتجف خوفاً من التدخل الأميركي فيه، لذلك تسعى إيران لقطع هذا الطريق المهم لـ تركيا والولايات المتحدة، مما يعقد المشهد في القوقاز الجنوبي، وعلى طرفي حدود نهر أراس.
ومن خلال معرفتنا بتكتيكات الحرب الإيرانية بعد حربها مع عراق صدام حسين حينذاك، أن إيران استنكفت عن الزج بجيشها في حروب مباشرة، واستعاضت عن ذلك بالزج بعشرات آلاف المقاتلين الطائفيين في تلك الحروب، وعلى رأسهم لاجئو أفغانستان الهزارة في إيران.
لذلك من المتوقع أن تقوم إيران بحرب بالوكالة مع أذربيجان، وذلك عن طريق دعم الأرمن، وتسليح ميليشيات أرمنية في أذربيجان، لإنهاك حكومة إلهام علييف، في صراعها التاريخي مع أرمينيا، لأنها تعرف أن نهايتها كمنظومة إقليمية لن يكون على يد العرب، بل سيكون عبر القوميات الأخرى التي تعي جيداً خطر السياسات الإيرانية على المنطقة، وعلى رأس تلك الشعوب: الكرد والأذر، الذين تتفادى إيران المواجهة معهم بشكل مباشر حتى اليوم، لكن الجميع ينتظر ما ستفعله إيران على الحدود الشمالية، وهل ستوقع الاتفاق النووي بشروط جديدة متضمنة الاستقرار على حد نهر أراس أم لا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا