مازن أكثم سليمان
لعلَّ أيَّ بَحثٍ عن هوِيّة علمانيّة سوريّة يتطلَّب، بادئَ ذي بدء، تحرير التَّساؤل من صيغة (الحتميات)، وهذا التَّحرير ينبغي أن ينسحبَ، في اعتقادي، على مجمَل القضايا الإشكاليّة التي تواجه الحالة السّوريّة، فتعليق الأجوبة هو نوعٌ من فتح باب التَّفسير والتَّأويل، ثمَّ مراجعة هذا التَّأويل، مرارًا وتكرارًا، ضمن الحركة الدَّوريّة للفَهم، بحسب الفيلسوف الألمانيّ جادامير.
السّؤال الأوَّليّ المطروح هنا هو: هل تحتاج سوريّة الجديدة إلى العلمانيّة؟ أم يمكن الاكتفاء بالديمقراطيّة والحريات والحقوق والمواطنة المتساوية؟ أقترح، في هذا الموضع، أنْ نقلبَ السّؤال؛ فنقول: ألا تقود الديمقراطيّة والحريّات والحقوق والمواطنة المتساوية إلى أنماط ممكنة من العلمانيّة؟
ربَّما نعم، وربَّما لا. فلنبقَ، هنا، في حيّز النِّسبيّة، لكنْ: لنعمِّق الطَّرح أكثر، ونذهب إلى ما أراه أسّ سؤال العلمانيّة عندنا، وهو: هل ينفصل هذا السّؤال في سوريّة، بحالٍ من الأحوال، عن سؤال الهوِيّة؟
من جهتي، أدَّعي أنَّ الخطوة الرَّئيسة في تعريف علمانيتنا السّوريّة المفترَضة أو المتوقَّعة تُستمَدّ، أساسًا، من تخليق عقد سياسيّ/ اجتماعيّ وطنيّ يرتبط عميقًا بتعيين مفهوم الهوِيّة السّوريّة الموزَّعة حاليًا بينَ بعض النّخب الدائرة (على الأقلّ ظاهريًّا) في مدار (هوية فوق وطنية: قوميّة/ إسلاميّة/ أمميّة)، والوعي الجمعيّ النكوصي (شعوريًّا ولا شعوريًّا) الدّائر في مدار هوِيّات متشظِّية وقبل وطنيّة (طائفيّة/ عرقيّة/ مناطقيّة).
عند هذهِ النّقطة، أحاول إجراء الرَّبط الدَّلاليّ/ التَّحليليّ الآتي بينَ إشكاليّة العلمانيّة وإشكاليّة الهوِيّة؛ بمعنى أنَّ أولى العقبات التي تواجه اجتراح علمانيّة سوريّة موائِمة تتصل بالتَّمزّق الهوِيّاتيّ، منبسِطًا في ما أدعوه (البؤرة العصبيّة) بينَ المتحجِّب وغير المتحجِّب، أو بقول أبسط: بينَ المبطَّن والظّاهر، هذا من جانب أوَّل، ومن جانب ثانٍ، تطفو هذهِ البؤرة العصبيّة عبرَ ردَّتي فعل غير عقلانيتين في الأغلب، هما:
أوَّلًا: محاوَلة الانفكاك من الانتماء الهوياتيّ الموروث بالولادة انفكاكًا شموليًّا حدِّيًّا (أي محاولة التَّماهي بالآخَر أو ادّعاء الاختلاف في أقلّ تقدير) عبرَ موقف رغبويّ انفعاليّ وغير واقعيّ، وينهض على إحساس كيديّ وعدائيّ متطرِّف ضدّ الذات الفرديّة والجمعيّة؛ أي ضدّ الهوية الأوَّليّة، وهذا الموقف ينطوي، في رأيي، على هلع أو ربَّما على جرح نرجسيّ عنيف.
ثانيًا: محاولة مطابَقة الانتماء الهوياتيّ الموروث بالولادة مطابَقةً شموليّة تامّة (أي محاوَلة ممانعة الانزياح الهوياتيّ النِّسبيّ) عبرَ موقف رغبويّ انفعاليّ وغير واقعيّ، أيضًا، وينهض على إحساس كيديّ وعدائيّ متطرِّف ضدّ الآخَر من زاوية أولى، وضدّ تحوّلات الوجود من زاوية ثانية؛ أي ضدّ الهوية المفتوحة والمتحوِّلة زمانيًّا، وهو، كذلكَ، موقف ينطوي على هلع نرجسيّ هوياتيّ عنيف.
في مقالة سابقة لي معنونة بـِ (بينَ القضية الطائفيّة والعلمانيّة)، أجد أنَّ أخطَر ما يزيِّف دعوى العلمانيّة عندنا هوَ ادِّعاء مفارَقة التَّديّن بوصفِ هذا الطَّلاق مع المعتقد السّائد شهادة حسن سلوك للعلمانيّ السّوريّ/ العربيّ يشهِرها باستمرار ليؤكِّد انتماءَه لجَنّة التَّحضّر، ومغادَرَتَه ظلاميّة الدّين!
لعلَّ المَسألة أعقد من هذا التَّبسيط الذي وقعتْ فيه نسبة كبيرة من العلمانيين؛ فالعلمانيّة، أوَّلًا، وكما نعرف جميعًا، لا تعني الإلحاد، أو عدم التَّديّن في أقلّ تقدير، وفي الوقت نفسِهِ، لا أنفي وجود نسبة غالِبة عربيًّا من العلمانيِّين غير المتدينين أو الملحدين، بطبيعة الحال؛ لكنَّ مَفهوم العلمانيّة الدَّقيق يكمن في تلكَ الآليّات الوضعيّة والتَّكوينيّة المتمثِّلةً بفصل الدّينيّ المطلَق عن الزَّمنيّ المتحوِّل في الدّوَل وأنظمتها ومؤسَّساتها، والمرء يستطيع أنْ يكونَ متديِّنًا مثلًا تبعًا لعقيدة أو مذهب معيَّن، وعلمانيًّا في توجهاتِهِ السِّياسيّة/ المؤسَّساتيّة في الوقت نفسِهِ.
والأمر الثاني المتهافِت، أيضًا، في هذا السِّياق، يكمن في أنَّ دعوى عدم التَّديّن لدى معظَم العلمانيِّين العرب، وادّعائهِم أنَّهم قد خرجوا عن رؤى طوائفِهِم في النَّظرة الدّينيّة إلى العالم، لا تنفي مَسألة (العصبيّة) في معناها الخلدونيّ لديهِم، فخروج معظَم علمانيِّي الأقلِّيّات، على سبيل المثال، عن عقائد طوائفِهِم، وعدم الالتزام بالتَّديّن على طرقِها، لا يعني أنَّهم تخلَّصوا من عصبيّة الانتماء إلى هذه الطَّوائِف بوصفِه انتماءً إلى (أيديولوجيا طائفيّة) مَسكوت عنها أو مموَّهة، في أعماقهِم وفي خطاباتِهِم المتدثِّرة بغطاء العلمانيّة، وفي شعورهم بخطر الآخَر (الأكثريّ)، عندما يحدث أيّ صِدام حقيقيّ كبير، كما حدثَ في بلدنا بعد العام 2011.
هذا التَّمحيص هو مقدِّمة ضروريّة، في اعتقادي، للتَّمييز بينَ الفهم الأصيل والفَهم الزّائف للعلمانيّة، فعلى نحوٍ ما، تقزَّمَ دور معظَم علمانيِّي الأقلِّيّات ليكتفيَ بصراع أقرَب إلى الحالة الدّونكيشوتيّة الشَّعبويّة الكيديّة مع المركزيّة البطريركيّة الإسلاميّة الأكثريّة، ومن موقِع العداء الأيديولوجيّ الطّائفيّ، ومن دون مقارَبة شامِلة ومسؤولة تنطلِق من العمق السِّياسيّ/ الوطنيّ الجامِع، وتفكِّك، في الوقت نفسه، إشكاليّات الأقلِّيّات ذاتها التي ينتمونَ إليها بالنَّسَب الموروث، بدءًا بالسِّرِّيّة الدّينيّة، وانتهاءً بالانعزاليّة، اللّتين يفترَض مواجَهَتهما من قِبَل هؤلاء العلمانيِّين بضراوة في سبيل التَّلاقي مع علمانيِّي الأكثريّة، ومع الإسلاميِّين حتّى، ضمن مشروع وطنيّ جامِع، بدَلًا من تأبيد هاتين الإشكاليتيْن (السِّرِّيّة والانعزاليّة) انطلاقًا من مسوِّغات أقلَّويّة تنتمي إلى سياقات تاريخيّة ماضية قد انتهَتْ فعالياتها، وينبغي مجاوَزتها، بطبيعة الحال، ولا سيما فكرة (المَظلوميّة) التي باتت في هذِهِ الحقبة أشبه بفكاهة سَمِجة.
وفي المَنحى نفسِهِ، لا تقلّ مسؤوليّة علمانيِّي الأكثريّة عن علمانيِّي الأقلِّيّات في خَلْق هذا الصِّراع الدّونكيشوتي الشَّعبويّ الكيديّ المنتزَع من سياقِهِ الكلِّيّ سياسيًّا، ولا سيّما حينما نكتشِف أنَّ هؤلاء العلمانيِّين لا يوفِّرون فرصة لتزييف مَفهوم العلمانيّة عربيًّا، عبرَ تقديم براءات ذمّة مستمرّة بانفصالِهِم عن الإسلام الأكثريّ وعدائِهِم لكلّ شيء إسلاميّ، وأقصد، هنا، المَعنى الثَّقافيّ والحضاريّ للعداء -على الأقلّ- لا العقائديّ، وهوَ ما يفتَح الباب واسِعًا لتحليل نفْسي ضروريّ قبلَ التَّحليل السِّياسيّ للطَّريقة السَّطحيّة والمبتسرة وغير المسؤولة التي يفهَمونَ بها العلمانيّة.
في مقابِل إسلاموفوبيا العلمانيّة العربيّة، نجد ما أصطلح عليه بِـ (علمانوفوبيا) الإسلام السِّياسيّ، والمعمَّم لدى الشّارع المسلِم بوجهٍ عام، والذي التقى عضويًّا مع (إسلاموفوبيا) العلمانيِّين بترسيخ الفكرة المشوَّهة والسّاذجة شعبويًّا، أيضًا، عن العلمانيّة بوصفِها كفرًا وإلحادًا وعداءً يهدِّد الدِّين، وهو أمرٌ ينطوي لديَّ، أصلًا، بشعوري بعدم الثِّقة -حتّى هذهِ اللَّحظة- بصدق تبنِّي تيّارات الإسلام السِّياسيّ للفكر التَّعدّديّ الدّيمقراطيّ الحقيقيّ الذي يتجاوز غايات الانقضاض على السّلطة بدعوى منطق الغلبة الأكثريّة.
إنَّ صراعات كثيرة تخاض بينَ الطَّرفيْن منذ عقود، تحت دعوى الخِلاف بينَ (العلمانيّة) و(الإسلام)، هيَ ليسَتْ سوى صراعات زائِفة ومفتعَلة وناجِمة عن العقم المَعرفيّ والمَخاوِف المرَضيّة لذوات هشّة فاقِدة الثِّقة بهوِيَّتِها، إلى جانب نضوب المخيِّلة السِّياسيّة لدى أغلب الأطراف، حتّى أكاد أشكّ أحيانًا أنَّ معظم السوريين (علمانيّين وإسلاميّين) قد فهِموا ماركس مثلًا وتحليلِهِ للدّين، أو فهِموا كبار السوسيولوجيِّين الغربيِّين الذين نفوا إمكانيّة محو الدِّين، بوصفِهِ حاجة طبيعيّة وحقًّا ديمقراطيًّا للإنسان في طرح سؤال الوجود والغيْب والمصير وحرِّيّة تّفسير العالَم واختلاف الاعتقاد وتعدّديتِهِ من جانبٍ أوَّل، وأشكّ، من جانبٍ ثانٍ، أنَّهم قد اطَّلعوا وتمثَّلوا بتمعّن العارِف والواعي أدبيّات بعض المفكِّرين السّوريِّين والعرب الذين استطاعوا أنْ يفهَموا العلمانيّة بوصفِها مدخلًا محوريًّا إلى الدّيمقراطيّة والتَّعدّديّة والمواطَنة، لا يتعارَض مع التَّديّن أو ينفيه.
في جميع الأحوال، أنتقل، الآنَ، كي أطرح تساؤلًا آخَر في سياق البَحث عن تعريف أوَّلي لـِ (علمانيتنا السوريّة المشتهاة)؛ وهو: هل العلمانيّة منتَج غربيّ يتمّ استيراده مثلَ أيِّ منتج مادِّيّ مصنَّع، وعبرَ مطابَقة تبسيطيّة مطلَقة، أم إنَّ هذهِ المطابَقة المفترَضة هيَ وهمٌ تسقطه تجربة الواقع السوري وانزياحاته الزَّمكانيّة الطَّبيعيّة، بمعنى أنَّ المخيِّلة الاختباريّة والحوار العقلانيّ سيفضيان إلى بناء عقد سوري جديد قد يبسط مفهومًا للعلمانيّة مفتوحًا على الممكن والمحتمَل المنطويين على خصوصيّة سوريّة، ولا سيّما إذا تذكَّرنا معًا أنَّ علمانيّة الغرب قد نشأتْ، بطبيعة الحال، في سِياق دينيّ مسيحيّ انبثَقَ من داخِلِهِ الصِّراع السِّياسيّ، واحتفَظَ الغرب ببلوغِهِ مرحلة العلمنة بالمحتوى الثَّقافيّ المسيحيّ، نسبيًّا.
هل يعني ذلكَ أنَّني أقول إنَّ الهوية السورية ينبغي أن تتكئ على بعد إسلاميّ مثلًا أو على بعد قوميّ عربيّ؟
أرى، في هذا السِّياق، أنَّ الإجابة التَّفاصليّة الحدِّيّة تتطلب إجماعًا توافقيًّا نابعًا من حركيّة الواقع نفسه؛ إذ إنَّ مواجهة هذهِ الإشكالية، في اعتقادي، طريق إجباريّة ينبغي أنْ تمرَّ بالتَّجربة والتَّجريب الوطنيين، في آنٍ معًا، وهو الأمر الذي قد يفضي إلى تخليق علمانيّة سوريّة ذات خصوصيّة نابعة، أساسًا، من تعيين مبتكَر ومبدع لمفهوم الهوية السورية الجديدة.
لكنْ: يمكن، أيضًا، عرض هذهِ الإشكاليّة الهوياتية اللازمة لتأسيس العلمانية السورية على نحوٍ معكوس، بالتَّساؤل الآتي: هل يمكن فصل الهوية السورية القادمة عن الحامل الهوياتيّ الثقافيّ والحضاريّ العربيّ والإسلاميّ فصلًا نهائيًّا وحدِّيًّا وكلِّيًّا، كما يذهب البعض؟ (طبعًا أشير هنا إلى ضرورة النَّظَر إلى العروبة والإسلام بوصفهما وعاءين مختلفين من ناحية البنية والوظيفة الهوياتيّة الثَّقافيّة والحضاريّة؛ أي ضرورة النَّظَر إليهما عبرَ علاقتِهِما الجدَليّة والتَّفاعليّة المركَّبة والمتراكِّبة وغير المتطابِقة، بطبيعة الحال، بعكس الفَهم المغلوط والشّائع منذ عقود طويلة).
أظنّ، من حيث المبدأ، أنَّ فصل سورية الجديدة عن الهويتين الثقافيتين العربية والإسلامية وهمٌ يسقطه الواقع، لا التَّنظير العاطفيّ أو العقلانيّ.
إذن: ما الحلّ إزاء التيارات السياسية والجماعات الرّافضة لفكرة الانتماء لدائرتي العروبة والإسلام، أو بالأحرى: التي لا ترى هويتها منتمية إلى الدائرتين العربيّة والإسلاميّة؟ (هذا إذا افترضنا، هنا، ومن زاوية الجدل والإجراء العمَلانيّ، فقط، أنَّ هذهِ الجماعات بنى متماسِكة ومغلقة ومتعالية، وليستْ أفرادًا متنوعين ومختلفين ولهم وجهات نظر متعدِّدة).
في محاولة اقتراح جواب أوَّليّ يكون بمنزلة مدخل لحلّ إشكاليّة هذا السّؤال المعقَّد، أيَّما تعقيد، أعتقد أنَّ أيَّة علمانيّة سوريّة ينبغي أنْ تتصف بأنَّها علمانيّة (لينة) وتوافقيّة تكفل حرية الاعتقاد وخصوصيّة ممارَسة الجماعات المتنوعة لثقافاتها المختلفة، لكنَّ ذلكَ لا ينفي، في الوقت نفسه، على الأقلّ في رأيي وحدسي، ضرورة الفصل الأيديولوجيّ، لا الثَّقافيّ، بينَ مؤسَّسات الدولة وجميع أنواع العقائد والأيديولوجيّات.
هل يتناقض هذا الرأي مع قولي السّابق أنَّ نفي الحامل الهوياتيّ العربيّ والإسلاميّ في سوريّة مسألة وهميّة وغير قابلة للتَّعيين الواقعيّ؟
قد يبدو هذا تناقضًا للوهلة الأولى، لكنَّني أتطلَّع إلى الاعتماد في سوريّة القادمة على ديناميكيّة خلّاقة تقوم على ما أصطلح عليه بـِ (الازدواجيّة الهوياتية) ذات الحركيّة الجدليّة التَّفاعليّة البراغماتيّة التي تفصم الهوية السورية، إجرائيًّا لا واقعيًّا، إلى مستويين: المستوى الأوَّل الهوية السورية السياسية/ العلمانيّة؛ أي اعتماد، أو بالأحرى تخليق مفهوم الدولة/ الأمّة، بوصف هذهِ الهوية بنية فوقيّة باردة نوعًا ما/ ونسبيًّا؛ والمستوى الثاني الهوية السورية الثَّقافيّة؛ أي الاعتراف بالانتماء إلى دائرتي الهوية السورية العربية والإسلامية، بوصف هاتين الدائرتين الهوياتيتين بنية تحتيّة حيّة ومتحركة ومفتوحة على المستقبل والاختلاف والمجهول.
وهذا الاعتراف النّابع من الواقع، أصلًا، لا ينفي، أوَّلًا، العلاقة التَّفاعليّة بينَ الهويتين السِّياسيّة/ العلمانيّة (الفوقيّة) والثَّقافيّة/ العربيّة والإسلاميّة (التَّحتيّة)، ولا ينفي، ثانيًا، أنَّ هذا التَّفاعل لا يعني إقصاء تعدّدية الهوية الثقافية السورية، والسّقوط إمّا في الأدلجة القوميّة الشموليّة، أو في الأدلجة الدينيّة الأحاديّة، فالتَّفاعل بينَ مؤسَّسات الدولة العلمانيّة ومحتواها الاجتماعيّ/ الثَّقافيّ قابل للتَّعميم على جميع بنى المجتمع الأقلوية المختلفة، طائفيًّا وعرقيًّا، التي يفترَض أنْ تمارِسَ هوياتها الاجتماعيّة والثقافيّة في ضوء تحقيق التَّعدديّة والمواطنة والمساواة. ومن الطبيعيّ أنْ يقود هذا الكلام إلى لزوم مقارَبة مفهوم العلمانيّة عبرَ مستوًى آخَر يرتبط بعلاقتها بمسألتَي مركزيّة الدولة والقضية الفيدراليّة، وهو بحث ضروريّ ينبغي أن يتمّ ضمن نطاق توافقيّ مدروس ومحكَم، لكنْ، مع تأكيد خطورة بناء أيّ طرح لمسألة الخصوصيات الثَّقافيّة والاجتماعيّة على المحاصَصات الطّائفيّة أو العرقيّة غير الوطنيّة، وهو الأمر الذي يستدعي، في الوقت نفسه، ضرورة الحذر والتَّحذير من سياسات الهوية المفخَّخة، كما يطرحها الاستشراق الموجَّه، ومن يدور في فلكه.
في مقالة سابقة لي بعنوان: (تأمّلات حول شكل الدولة القادم في سوريّة) كتبتُ أنه من الضروري الإشارة إلى أنَّ تخليق هوِيّة وطنية متماسِكة يتطلَّب، في اعتقادي، تعليق الهوِيّات ما فوق الوطنية سياسيًّا، على الأقلّ في هذهِ المرحلة التّاريخيّة المعقَّدة، مع المحافظة على تلكَ الهوِيّات ثقافيًّا، وقد دعوت في غير مقالة لي، أيضًا، إلى نقل (القوميّة تحديدًا) من الحقل الأيديولوجيّ الشّموليّ، إلى الحقل الثقافيّ المفتوح، مع الاحتفاظ بإمكانية استفادة مؤسَّسات الدولة والأحزاب والنقابات من الأفكار والرّؤى والصِّيغ المفيدة والحيويّة في الخلفيات الثقافية المتنوعة (ومنها طبعًا القوميّة والدين)، التي يفترَض أنَّها استفادة لا تتناقض مع ممارَسة الديمقراطية والتعددية ومتطلَّبات الرّاهن العصريّ، كما نرى مثلًا في بعض الأحزاب المسيحية في أوروبا، على أنْ تتكامل هذهِ الممارَسات، وتنسجم، أيضًا، مع مسألة الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الحفاظ على دوائر المصالح القومية والدينية وحتّى، بطبيعة الحال، الإنسانيّة/ الكونيّة التي تجمعنا مع محيطنا الإقليمي والدولي، وهوَ الأمر الذي ينطلق، أصلًا، لا من قضية الاعتراف بالآخَر، وقَبول الاختلاف الذي لا غنى عنه، إذا أردنا فعلًا أن نؤسِّس سوريتنا العصرية الجديدة فحسب، لكنْ، أيضًا، ينطلق الأمر -ولا سيما في مسألة تكوين البنية العلمانية لسوريّة الجديدة- من توافقية أصيلة، لا من فرض قسريّ ناهض على منطق القوّة والغلبة. ولعلَّ هذا التَّوجّه يستدعي كلامًا ضروريًّا عن الحاجة الملحّة، في الآن نفسه، وبمسارٍ موازٍ، إلى فصل الشَّريعة عن السِّياسة، وهو الأمر الذي يتمّ عبر التَّنوير وفتح باب الاجتهاد، وتحقيق إزاحة نسبيّة توافقيّة لخطاب الشَّريعة من الوظيفة الشّموليّة إلى الوظيفة الفرديّة، بوصف الاعتقاد مسألة حرِّيّة ذاتيّة شخصيّة، وهيَ قضايا مكمِّلة وداعمة للحلول السياسية، وترتبط، مباشرةً، بهواجسنا المحلِّية، ولا تنفصل، بطبيعة الحال، عن الصراعات والمخاضات القائمة في المحيطين العربيّ والإسلاميّ، أيضًا.
أخيرًا، وليسَ آخِرًا، أقول: إنَّ بناء ما اصطلحت عليه بـِ (الازدواجيّة الهوياتيّة) عبرَ العلاقة التَّفاعليّة بين الهوِيَّتين السياسية والثقافية (أي بين البنيتين الفوقيّة والتَّحتيّة) يحتاج إلى إرادة أصيلة وإلى شعور عال بالمسؤوليّة الوطنيّة وإلى ابتكار جمّ، ذلكَ أنَّ مسألة إيجاد الصيغة العلمانية السورية تتطلَّب مخيِّلات مبدعة بمعنى الكلمة لمفردتَي المخيِّلة والإبداع، وحلولًا مركَّبة ومتراكبة، تنطوي على كثير من التَّنازلات من جميع الأطراف، للتَّلاقي والتَّوافق في فضاء وطنيّ خلّاق.
ولهذا، يبقى ما قلته، هنا، مقارَبة أوَّليّة متواضِعة للتَّأمّل والتَّفكير وتلمّس الطَّريق، وتبقى الأسئلة، في هذا المنحى، مفتوحةً على مصراعيها، والأجوبة معلَّقة، نسبيًّا، بانتظار الانتقال إلى الفعل والتجربة ومحاوَلة التعيين؛ وهيَ مسائل تتعلَّق، أيضًا، ومع الأسف، بضرورة الاستعادة النِّسبيّة للقرار الوطنيّ السّوريّ السِّياديّ المستقلّ.
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة