فيونا هيل
أراد دونالد ترمب من لقائه نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في يوليو (تموز) 2018 بهلسنكي، أن يستثير ذكرى اللقاءات التاريخية التي حصلت في ثمانينيات القرن الـ 20 بين الرئيس الأميركي رونالد ريغان والزعيم السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، إذ أسفرت اجتماعات القمة تلك، تحت عنوان الحد من التسلح، عن ولادة نوع “أيقوني” من المشاهد والصور التي يحبها ترمب، إذ تظهر رجلان قويان وجديان يجتمعان في أمكنة بعيدة بغية بحث مسائل كبرى يواجهها العالم في لحظته الراهنة، ويمثل ذلك، وفق رأي ترمب، أفضل فرصة ممكنة لاستعراض براعته في فن عقد الصفقات.
لقد شكل ذلك نمط الاستعراض الذي أراد ترمب تحقيقه في هلسنكي. وبدلاً من ذلك فإن ما نتج من لقائه ببوتين جاء مشهداً في غاية الاختلاف عما أراده [ترمب]. وحينما عقد ذلك اللقاء كنت قد أنهيت ما يزيد قليلاً على سنة من خدمتي في إدارة ترمب كنائبة لمساعد الرئيس ومديرة للشؤون الأوروبية والروسية في مجلس الأمن القومي. وعلى غرار حال كل من عمل في البيت الأبيض، تعلمت آنذاك الكثير عن خواص ترمب وطبيعته. ومثلاً، لقد علمنا جميعاً أن ترمب نادراً ما يقرأ مواد التقارير المفصلة التي يعدها له مساعدوه، وخلال الاجتماعات والاتصالات مع قادة دول آخرين لا يمكنه أبداً الالتزام بالسيناريو المتفق عليه أو اتباع توصيات أعضاء حكومته، وقد ثبت أن الأمر كان مشكلة أساسية خلال تلك المحادثات [بين ترمب وقادة آخرين]. وفي معظم الأحيان، بدا الأمر بالنسبة إلى نظراء الرئيس الأميركي الأجانب كأن الأخير [ترمب] يسمع للمرة الأولى عن المسائل والقضايا الواردة في أجندات الاجتماعات. وحين ينخرط ترمب في الاجتماعات المذكورة، يمكن إقناعه [من قبل القادة الآخرين] بأمور مختلفة، وإذا كان الزائر أو المتصل الأجنبي أحد الرجال الأقوياء الذين يفضلهم، فإن ترمب قد ينحاز دائماً إلى وجهات نظره ورؤاه تجاه الحوادث، فيما يشكك في وجهات النظر والرؤى التي يطرحها مستشاروه.
ومثلاً، خلال اجتماع وزاري مع وفد مجري زائر في مايو (أيار) 2019، قاطع ترمب وزير الدفاع الأميركي بالنيابة، باتريك شاناهان، الذي حاول طرح فكرة في مسألة خطيرة متعلقة بالأمن الأوروبي. وأمام الجميع، نقل ترمب إلى شاناهان أن رئيس الوزراء المجري الاستبدادي، فكتور أوربان، شرح له قبلاً المسألة برمتها حينما اجتمعا قبل دقائق في المكتب البيضوي، موضحاً أن أوربان، في كل الأحوال، يفهم المسألة أفضل من شاناهان، إذ إن الزعيم المجري القوي، وفق ترمب، لديه ببساطة سلطة أكبر في هذا الموضوع من سلطة المسؤولين الأميركيين الذين يعملون في إدارته. ويمثل الزعيم الضيف قريناً له، أما أعضاء إدارته، فلا. وبحسب ترمب، تأتي المعلومات ذات الصلة منه، ولا تملى عليه، وذاك الميل في التعاطي الذي أظهره ترمب كان مؤسفاً حين أبداه خلف الأبواب المغلقة، لكنه أضحى غير مبرر (وطبعاً غير قابل للتفسير أو التسويغ)، حينما تنشر أخباره على الملأ. وقد حصل ذلك تماماً خلال المؤتمر الصحافي الكارثي الذي عقده إثر اجتماعه مع بوتين في هلسنكي.
قبل المؤتمر الصحافي كان ترمب مسروراً بوجهة الأمور خلال اجتماعه وجهاً لوجه مع بوتين، إذ إن الأجواء في القصر الرئاسي الفنلندي تلاءمت مع مزاج ترمب. وقد توافق الرجلان على إعادة إطلاق المفاوضات المتعلقة بضبط التسلح الأميركي– الروسي وإبقائه تحت السيطرة، إضافة إلى عقد اجتماعات بين مجلسي الأمن القومي في البلدين كليهما. وحرص ترمب على إظهار إمكان أن تجمعه مع بوتين علاقة إيجابية وطبيعية، وقد جاء ذلك في جزء منه كي يبدد الفكرة التي تحدثت عن أمر ملتبس في صلاته مع الرئيس الروسي. وبدا ترمب تائقاً إلى محو المزاعم عن تآمره مع الكرملين عبر تدخل الأخير في الانتخابات الرئاسية (الأميركية) 2016، أو تلك التي تحدثت عن توصله إلى اتفاق بشكل أو بأخر مع الروس. وآنذاك، عمل المحقق الخاص روبرت مولر على تحري تلك الأمور بدقة، في وقت انعقاد اجتماع هلسنكي.في المقابل، تفاقمت الأمور بمجرد بدء المؤتمر الصحافي لترمب، إذ توقع الأخير ترحيب الرأي العام باجتماعه مع بوتين ومعالجته التهديدات النووية، إلا أن الصحافيين الأميركيين الذين حضروا المؤتمر لم يكونوا مهتمين بمسألة ضبط التسلح، إذ أراد أولئك الصحافيون معرفة أجواء الاجتماع المباشر مع بوتين، وما يمكن أن يكون الأخير قد قاله، أو لم يقله، بصدد مسألة الـ 2016 والتدخل [الروسي] في الانتخابات الأميركية.
وقد سأل جوناثان ليماير من وكالة “أسوشيتد برس” ترمب إن كان يصدق بوتين الذي نفى مراراً أن يكون بلده فعل أي شيء للتدخل في تلك الانتخابات، أم يصدق وكالات الاستخبارات الأميركية التي استنتجت العكس. وأحرج ليماير ترمب حينما طرح السؤال التالي، “هل تقول الآن للرئيس بوتين، أمام مرأى العالم كله الذي يشاهدنا، إنك تدين ما حصل سنة 2016، وتحذره بوجوب عدم تكرار ذلك؟” تلعثم ترمب إذ إنه في الحقيقة لم يشأ الإجابة. إن الطريقة الوحيدة التي يمكن لترمب أن يرى فيها هجوم روسيا الواسع على النظام الديموقراطي الأميركي تكون عبر منظار “أناه” وصورته الذاتية. وخلال احتكاكي وتفاعلي مع ترمب وأفراد دائرته الأقرب في البيت الأبيض، بات جلياً بالنسبة إلي أن الأخذ باستنتاجات وكالات الاستخبارات الأميركية سيكون مرادفاً للإقرار بأن ترمب لم يفز بانتخابات 2016، وقد أصابت الأسئلة عمق هشاشته، فإذا قال ترمب “أجل الروس تدخلوا لمصلحتي”، سيبدو كأنه يورد من دون مواربة، “أنا غير شرعي”.
وبالتالي، على غرار ما يفعل في معظم الأوقات في مواقف من ذلك النوع، حاول حرف الانتباه إلى أمر آخر، إذ باشر بحديث عن توهمات تتعلق بنظرية مؤامرة مدبرة تتورط فيها أوكرانيا، ورسائل إلكترونية لمنافسته في انتخابات 2016 هيلاري كلينتون، وبعدها نطق جواباً مشوشاً وهذيانياً على سؤال ليماير جاءت فحواه عبر الكلمات التالية:
“جماعتي جاؤوا إلي وقالوا إنهم يعتقدون بأنها روسيا. ولدي هنا الرئيس بوتين. لقد ذكر للتو إنها ليست روسيا [الطرف الذي تدخل في تلك الانتخابات]. وأنا سأقول هذا. لا أرى أي سبب يجعلهم [الروس] يفعلون ذلك الأمر. في المقابل، لدي ثقة بالطرفين. لدي ثقة عظيمة بجماعتي المسؤولين عن الاستخبارات، لكن سأقول لك بأن الرئيس بوتين كان اليوم شديد القوة والصلابة في نفيه [التدخل الروسي]”.
وجاءت نتائج المؤتمر الصحافي في هلسنكي متوقعة تماماً، وقد أعطت تبريراً للنصيحة التي قدمتها مع آخرين بعدم عقده أساساً، لكن مشاهدته ظلت مؤلمة، وحين تحدث ترمب كنت جالسة أمام المنصة مباشرة خلف مستشار الأمن القومي الأميركي ووزير الخارجية، وقد رأيتهما يتيبسان في مقعدهما بهدوء، ورحت أتخيل أنني سأنفجر بالبكاء، أو أصطنع إصابتي بنوبة صرع فأرمي نفسي على صف الصحافيين خلفي. لم أرد سوى إنهاء كل ذلك. وربما على عكس توقعات كثير من الأميركيين، حتى بوتين بدا مستاء بعض الشيء، إذ إنه شهد الإذلال القومي والشخصي الذي اقترفه ترمب، لكنه أدرك أيضاً أن كلمات ترمب العشوائية قد تثير ردود فعل عنيفة في الولايات المتحدة، الأمر الذي قد يضيق هامش المناورة المحدودة أصلاً أمام الرئيس الأميركي في سياسته تجاه روسيا، وتبددت أبسط التوافقات بشأن عقد مزيد من الاجتماعات العالية المستوى، ورميت من النافذة فعلياً، وفيما عاد الرئيس الروسي إلى إثارة الأجواء في قاعة المؤتمر، أخبر مساعده الصحافي على مرمى من سمع مترجمنا بأن المؤتمر كان “هراء”.
وفي الحال، انقض منتقدو ترمب عليه إثر أدائه الغريب في هلسنكي، إذ شكل الأمر دليلاً إضافياً على تحالفه مع بوتين وممارسة الكرملين تأثيراً على رئيس أميركي.
وفي السنة التالية أورد التقرير النهائي الذي وضعه المحقق مولر أنه خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016 كانت حملة ترمب في الحقيقة مستعدة لاستغلال أي معلومات دنيئة تصل إليها تتعلق بهيلاري كلينتون مهما كان مصدرها، ويشمل ذلك روسيا. وفي إطار المسعى إلى إفشال محاولة كلينتون كي تكون أول امرأة رئيسة للولايات المتحدة، تصرفت حملة ترمب بالتوازي مع الكرملين، إذ تواءمت أهداف الطرفين. وخلص مولر إلى أنه على الرغم من عدم بلوغ ذلك التوافق في الأهداف مستوى مؤامرة إجرامية، إلا أن أدلة كثيرة تشير إلى وجود عملية روسية دقيقة وواسعة النطاق ضد الولايات المتحدة من خلال التأثير السياسي.
على نحو مماثل رسم تقرير مولر ملامح “الصلة الروسية” التي يمكن وصفها بأنها مختلفة وأكثر خبثاً، ففي بعض المناحي الأساسية، لم تكن الولايات المتحدة وروسيا مختلفتين كثيراً عن بعضهما البعض، وقد أدرك بوتين ذلك.
وخلال السنوات الأولى التي تلت حقبة “الحرب الباردة” أمل محللون ومراقبون كثر بأن تعمل روسيا ببطء لكن من دون تردد، على التقارب مع الولايات المتحدة بطرق عدة، وقد تكهنوا أيضاً بأنه ما إن يسقط الاتحاد السوفياتي والشيوعية ستتحرك روسيا قدماً نحو نمط من الديموقراطية الليبرالية. في المقابل، مع الوصول إلى أواخر التسعينيات من القرن الـ 20 لم يظهر ذلك التوقع في الأفق، وفي السنوات الماضية حدث نقيض ذلك، إذ راحت الولايات المتحدة تقترب أكثر من النموذج الروسي، فيما عملت مظاهر الشعبوية والمحسوبية والفساد على استنزاف قوة الديموقراطية الأميركية، وقبل 20 سنة لم يتوقع ذلك التطور سوى قلة من الناس، بيد أنه تطور ينبغي على القادة الأميركيين بذل كل ما في وسعهم لوقفه وعكسه.
وبالفعل خضعت الولايات المتحدة وروسيا مع مرور الوقت للنوع نفسه من القوى الاقتصادية والاجتماعية، وأثبت شعبا البلدين على نحو متعادل أنهما سريعا التأثر بمظاهر التلاعب السياسي، وقبل الانتخابات الرئاسية الأميركية سنة 2016 لاحظ بوتين أن الولايات المتحدة تسلك طريقاً شبيهاً بالذي سلكته روسيا في تسعينيات القرن الـ 20، حين أدى الاضطراب الاقتصادي والسياسي إثر انهيار الاتحاد السوفياتي إلى جعل الدولة الروسية ضعيفة ومفلسة. وفي الولايات المتحدة أدت عقود متسارعة من التحولات الاجتماعية والديموغرافية معطوفة على “الكساد العظيم” عامي 2008-2009 إلى إضعاف البلاد وزيادة هشاشتها تجاه الأفعال الهدامة، وكذلك لاحظ بوتين أنه على الرغم من الدعاوى المثالية الصادرة من واشنطن والمتحدثة عن قيم الديموقراطية والأصول الليبرالية إلا أن الولايات المتحدة، خلف واجهة الشعارات تلك، آخذة في التماثل مع بلده، ويعني ذلك أن أميركا وروسيا صارتا بلدان فيهما أفراد نفعيين من النخبة تعمل على تفريغ مؤسسات أساسية من معناها، فيما يغدو الشعب المتروك والمحبط أكثر تقبلاً للنماذج الشعبوية والاستبدادية. لقد اشتعلت النار سلفاً، وكل ما توجب على بوتين فعله هو سكب بعض الوقود.
علاقة خاصة
حينما انتخب ترمب رئيساً لم يبدر من بوتين والكرملين أي محاولة لإخفاء سرورهم، إذ سبق لهم أن اعتقدوا بأن كلينتون قد تصبح رئيسة، وأنها سوف تركز خلال رئاستها على انتقاد أسلوب بوتين في الحكم وتسعى إلى كبح روسيا وإعاقة حركتها، وحضروا أنفسهم لذلك الأمر واستعدوا للأسوأ، لكن بدلاً من ذلك شكل ما حصلوا عليه أفضل حصيلة ممكنة من وجهة نظرهم، إذ جاء رئيس شعبوي ومعاد للمهاجرين والهجرة، وليس لديه أي خبرة سابقة في السياسة الخارجية، وصاحب “أنا” متورمة هشة، وفهم بوتين تماماً شخصية ترمب وأدرك ميوله السياسية على الفور، ففي كل الأحوال تلاءم ترمب مع قالب أسهم بوتين شخصياً في خلقه، باعتباره [بوتين] أول زعيم شعبوي في القرن الـ 21 تبوأ السلطة في بلد أساس في العالم، وبالتالي مهد بوتين الطريق الذي سيسلكه ترمب في ما بعد خلال سنوات رئاسته الأربع.
وفي التفاصيل يبرز أن جوهر الشعبوية يتمثل في خلق صلة مباشرة مع “الشعب” أو مع فئات معينة منه، ثم تقديم معالجات سريعة لمشكلات معقدة، وتجاوز أو إلغاء الجهات الوسيطة كالأحزاب السياسية والبرلمانات التمثيلية والمؤسسات الرسمية، وتمثل الاستفتاءات واستطلاعات الرأي الشعبية الأدوات الفضلى بالنسبة إلى الزعيم الشعبوي، وقد استخدمها بوتين على مدى السنوات الـ 20 الماضية، وحينما تبوأ بوتين سدة الحكم في 31 ديسمبر (كانون الأول) 1999، في ختام عقد من الأزمات والنزاعات في روسيا، وعد بمعالجة وتصحيح كل شيء. وعلى عكس سلفه [الرئيس الروسي السابق] بوريس يلتسين لم ينتم بوتين إلى حزب سياسي منظم، بل اتخذ هيئة بطل حركة سياسية أكثر مرونة [من الحزب] وشخصانية، وبعد سنة 2000 حول بوتين الانتخابات الرئاسية الروسية إلى استفتاءات وطنية حول شخصه، من خلال ضمانة أن يكون منافسوه مجرد مرشحين معارضين مغمورين (أو “فبركة” مرشحين من هذا النوع).
وعند كل منعطف حساس خلال فترة حكمه يعدل بوتين النظام السياسي الروسي بما يضمن له رسوخ زعامته في الكرملين، وأخيراً سنة 2020 أجرى تعديلاً رسمياً للدستور يخوله من حيث المبدأ (في حال لم يكن هناك موانع صحية) معاودة الترشح للرئاسة والبقاء في السلطة حتى سنة 2036.
واستطراداً، نالت مناورات بوتين ومكائده إعجاب ترمب على نحو عظيم، وقد أراد “الانسجام” مع روسيا ومع بوتين شخصياً، وفي الواقع فإن الشيء الوحيد الذي قاله لي خلال فترة عملي في إدارته، هو سؤالي “هل سأحبه؟” قاصداً بوتين. وقبل أن أتمكن من الإجابة نهض الرسميون الآخرون الموجودون في الغرفة كي يغادروا، فانتقل انتباه الرئيس إليهم، وعلى ذلك النحو جرت الحياة بالنسبة لي كامرأة مستشارة في البيت الأبيض خلال حقبة ترمب.
وقد تلقف ترمب الإشاعات المهمة بأن بوتين الرجل الأغنى في العالم، وأخبر مساعديه المقربين أنه يحترم بوتين بسبب ثروته المفترضة تلك، وطريقة إدارته لروسيا كما لو أنها واحدة من شركاته الخاصة، ولقد أراد ترمب، وفق ما أقر من تلقائه، فعل الأمر ذاته، إذ اعتبر الولايات المتحدة امتداداً لاستثماراته ومشاريعه الخاصة الأخرى في “مؤسسة ترمب”، لكن مع وضع أكبر جيش في العالم تحت تصرفها، وشكّل ذلك الأمر رؤية مثيرة للقلق لأنها تصدر من رئيس أميركي، وبالتأكيد راح ترمب على مدى أيامه في البيت الأبيض يغدو في ممارساته السياسية أكثر شبهاً ببوتين، وأقل شبهاً بالرؤساء الأميركيين الذين سبقوه.
وفي بعض الأحيان بدت تلك التشابهات بين ترمب وبوتين واضحة على نحو صارخ، ويندرج في ذلك الإطار تلاعبهما بالإعلام المحلي واستغلاله، وإعجابهما بما يعتبره كل منهما “الحقبة الذهبية” في بلده، ولائحة كل منهما الشخصية عن “الأبطال الوطنيين” بغية مداعبة مشاعر الحنين والمحافظة عند ناخبيهم، إضافة إلى لائحة الأعداء التي وضعها كل منهما على الدوام بغية مداعبة “الجوانب المظلمة” عند الناخبين.
في روسيا استرجع بوتين تماثيل الحقبة السوفياتية وأعاد تثبيتها على قواعدها ورمم النصب السوفياتية التي أسقطت أثناء حقبتي غورباتشوف ويلتسين، وحاول ترمب تلافي إزالة تماثيل قادة الكونفدرالية [القادة الذين قادوا أثناء الحرب الأهلية الأميركية، الجانب الانفصالي الراغب في تفكيك أميركا وتحويلها مجموعة ولايات ضمن كونفدرالية]، وتغيير تسميات قواعد الجيش الأميركي التي تحمل أسماء أولئك القادة، وكذلك تشارك الرجلان بعض الأعداء على غرار أفراد النخبة الكوزموبوليتية والليبرالية من أمثال جورج سوروس المتمول والمحسن الأميركي وداعية المجتمع المفتوح، وكل شخص يحاول توسيع حقوق التصويت وإصلاح قوانين الانتخاب، أو تسليط الضوء على الفساد المستشري داخل مؤسسات السلطة التنفيذية في كل من روسيا والولايات المتحدة.
وفي السياق نفسه، نسخ ترمب أيضاً ميول بوتين في إساءة استخدام سلطته التنفيذية عبر ملاحقة خصومه السياسيين، وفي هذا الإطار جاءت عملية إقالة ترمب الأولى [أمام مجلس الشيوخ] التي تحركت جزئياً بسبب محاولته الضغط على الحكومة الأوكرانية وإجبارها على تلطيخ سمعة منافسه الأقوى جو بايدن قبيل انتخابات 2020 الرئاسية. وكذلك استورد ترمب أيضاً أسلوب بوتين في ممارسة الحكم بنزعة شخصانية، متجاوزاً فريق موظفي الخدمة المدنية في الحكومة الفيدرالية الذين شكلوا بنظره “دولة عميقة” شائنة، معتمداً بدلاً منهم على استشارة المقربين منه وإتاحة المجال أمام تدخلاتهم.
وفي السياق نفسه، جرى الاتصال بالسياسيين الأجانب وجمعهم مع مشاهير ممن تربطهم علاقات شخصية بالرئيس وعائلته، مع تجنب إشراك سفارات دول أولئك السياسيين الأجانب في عمليات التواصل المذكورة، ولذا رفع أفراد جماعات الضغط شكاواهم لكل شخص في “الجناح الغربي” [للبيت الأبيض، مقر المكتب الرئاسي] أو من عائلة ترمب ممن تمكنوا من التواصل معه، وكذلك بادروا إلى التحرك بسرعة وإطلاق “الكلاب الهجومية” ضد كل من اعتبروه عثرة أمام ذلك [التواصل]، وحرضوا أنصار ترمب على الإنترنت لأن ذلك بدا فاعلاً على الدوام، وكذلك تودد باعة النفوذ، على الساحتين المحلية والدولية، إلى الرئيس لحمله على تنفيذ أولوياتهم، فغدت العملية السياسية في الجوهر مخصخصة.
وتمثل الحدث الذي بدا أنه أكبر إشارة إلى تقارب سياسات الولايات المتحدة وروسيا خلال ولاية ترمب في محاولة الأخير العشوائية، لكن الخطيرة بدرجة قاتلة، في تنفيذ انقلاب لمصلحته وتعطيل الانتقال السلمي للسلطة التنفيذية إثر خسارته انتخابات 2020 الرئاسية أمام بايدن، وفي النهاية تملك روسيا تاريخاً طويلاً من الانقلابات وأزمات انتقال السلطة يعود إلى الحقبة القيصرية، ويتضمن أيضاً ثلاثة انقلابات خلال السنوات الـ 30 الفائتة، ففي أغسطس (آب) 1991 نفذ متشددون معارضون لإصلاحات غورباتشوف انقلاباً سريعاً معلنين حال طوارئ وواضعين غورباتشوف في إقامة جبرية في منزله الصيفي، وأخفقت تلك الجهود وسقط الانقلاب، إلا أنه أسهم في إسقاط الاتحاد السوفياتي، وبعد سنتين اندلع العنف بفعل صراع مرير بين البرلمان الروسي ويلتسين حول حجم سلطات البرلمان والرئيس الواردة في صيغ متنافسة من الدستور الجديد، وتحرك يلتسين لحل البرلمان إثر رفض الأخير المصادقة على من اختاره (يلتسين) لرئاسة الحكومة.
في مقابل ذلك سعى كل من نائبه ورئيس مجلس النواب إلى محاكمته، وفي النهاية استند يلتسين إلى “سلطات استثنائية” ودعا الجيش الروسي إلى قصف مبنى البرلمان وحل النزاع بالقوة المفرطة.
وفي 2020 حدث الانقلاب الثاني متخذاً هيئة قانونية، حينما أراد بوتين تعديل صيغة يلتسين من الدستور بهدف تعزيز سلطاته الرئاسية، والأهم إلغاء الحدود الزمنية للولاية الرئاسية كي يكون بوسعه، وفق ما يتوقع، البقاء رئيساً حتى سنة 2036، وكبديل من اقتراح التعديلات الدستورية المطلوبة في هذا المسعى استغل بوتين فالنتينا تريشكوفا، البرلمانية الموالية له، والشخصية الأيقونية في المجتمع الروسي كونها رائدة فضاء والمرأة الأولى التي وصلت إلى الفضاء الخارجي، لذا جاء أسلوب بوتين أكثر براعة وهدوءاً من أسلوب يلتسين سنة 1993، بيد أن وسائله لم تقل فاعلية.
سيبدو مستحيلاً على أي مراقب يتابع عن كثب التاريخ الروسي في الحقبة القريبة المنصرمة ألا يستعيد تلك الوقائع [انقلابات روسيا] في 6 يناير (كانون الثاني) 2021، حين عمدت جماهير غوغائية دُفعت من قبل ترمب وحلفائه الذين قضوا أسابيع يزعمون بأن انتخابات 2020 سرقت من ترمب، إلى اقتحام مبنى الكونغرس الأميركي محاولين منع الإقرار الرسمي بنتائج الانتخابات الرئاسية، وقد جاء هذا الهجوم على الكونغرس تتويجاً لأربع سنوات من المؤامرات والأكاذيب التي بثها ترمب وحلفاؤه إلى مناصريهم عبر منصات وسائط التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية، إضافة إلى خطبه، وقد بُنيت “الكذبة الكبيرة” التي زعمت أن ترمب فاز بالانتخابات، على آلاف الأكاذيب الصغيرة التي تفوه بها ترمب كلما تحدث تقريباً، ثم جرى زرعها وبثها ضمن البيئة المحتقنة في نشرات ووسائل ترمب الإعلامية، وقد مثل ذلك ناحية إضافية جديدة في رئاسة ترمب، جعلت الولايات المتحدة تحاكي ما حدث في روسيا قبل زمن، حين عزز بوتين موقعه في السلطة عبر التلاعب بالإعلام الروسي وتغذية التظلمات القومية والمتاجرة بنظريات المؤامرة.
أنا بمفردي
وضع ترمب الولايات المتحدة على سكة الحكم الفردي الأوتوقراطي، فيما لم ينفك عن إطلاق وعده في أن “يجعل الولايات المتحدة عظيمة من جديد”، وعلى النحو ذاته أخذ بوتين روسيا وأعادها إلى استبدادية الاتحاد السوفياتي وشموليته تحت ذريعة تقوية الدولة واستعادة موقع روسيا الدولي، ويلقي ذلك التقارب المدهش ضوءاً جديداً على العلاقات الأميركية – الروسية، وعلى مقتضيات التقارب بين واشنطن وموسكو.
وتاريخياً، استندت سياسات الولايات المتحدة تجاه روسيا إلى فكرة أن سكتي البلدين وتوقعاتهما افترقتا وتباعدتا مع نهاية “الحرب الباردة”، وعقب انهيار الاتحاد السوفياتي مباشرة اعتقد المحللون الغربيون أن روسيا قد تتبنى بعض ترتيبات المؤسسات الدولية التي طالما دعمتها وآزرتها واشنطن وحلفاؤها، وبالطبع لم يحصل ذلك، فخلال رئاسة بوتين غدت العلاقات الروسية -الأميركية أكثر ارتباكاً وتوتراً مما كانته في أي مرحلة من حقبة التسعينيات في القرن الـ 20.
وثمة أمر محير بشأن المواجهة المستمرة بين أميركا وروسيا، إذ تبدو كأنها أثر باق من حقبة ماضية، وخلال “الحرب الباردة” كانت مواضيع النزاع ماثلة للعيان ولا يمكن إنكارها، وقد شكل الاتحاد السوفياتي خطراً وجودياً للولايات المتحدة وحلفائها، والعكس صحيح، وتواجهت القوتان العظيمتان في صراع عقائدي بين الرأسمالية والشيوعية، ونزاع جيوسياسي على مناطق نفوذ في أوروبا، واليوم تحتفظ روسيا بقدرتها في مقارعة الولايات المتحدة، بيد أن الاتحاد السوفياتي والنظام الشيوعي اختفيا من الوجود، وحتى لو استمرت دوائر السياسة الخارجية في واشنطن وموسكو في النظر إلى العلاقات الأميركية – الروسية من منظار التنافس بين قوتين عظميين، فلم يعد الصراع في أوروبا موجوداً، وبالنسبة إلى الولايات المتحدة تطرح الصين لا روسيا التحدي الأكبر في السياسية الخارجية أثناء القرن الـ 21، بالترافق مع الأخطار الوجودية الداهمة المتأتية من تغير المناخ والجوائح العالمية.
في المقابل، يستمر مشهد المواجهة والتنافس [بين الولايات المتحدة وروسيا]، وفي ذلك الصدد يشير الأميركيون إلى نسق من العدائية والاستفزاز تنتهجه روسيا مثل الاجتياح الروسي لجورجيا في 2008، وضم روسيا شبه جزيرة القرم في 2014، واعتداءاتها اللاحقة على أراضي أوكرانيا وسيادتها، والتدخل الروسي في سوريا سنة 2015، وتدخل الكرملين في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016، وهجمات “فيروسات الفدية” المتكررة وقرصنة البريد الإلكتروني التي تنسب إلى قراصنة روس. في المقابل، يشير الروس إلى تمدد حلف الـ “ناتو” نحو أوروبا الشرقية ودول البلطيق، والقصف الأميركي على بلغراد خلال حرب كوسوفو سنة 1999، وقرار واشنطن اجتياح العراق في 2003، ودعم واشنطن “ثورات الألوان” التي اندلعت في الدول السوفياتية السابقة مثل جورجيا وأوكرانيا أثناء العقد الأول من القرن الحالي، إضافة إلى دعمها انتفاضات الشرق الأوسط إبان “الربيع العربي”.
في موسكو تبدو كل تلك الأمور بمثابة دليل على أن واشنطن تبقى عاقدة العزم على تنفيذ اجتياحات وتغيير أنظمة، وتبقي روسيا وبوتين في مرمى أهدافها.
وفي الحقيقة لا يتمنى معظم صناع السياسة الأميركيين سوى أن تمضي روسيا في حال سبيلها، كي يتسنى لهم معاودة تركيز انتباههم على الأمور الحقيقية المهمة، أما بالنسبة إلى نظرائهم الروس فإن الولايات المتحدة هي المنافس الأساس، وذلك يعود إلى أن بوتين، كونه زعيماً شعبوياً، لا يكتفي باعتبار الولايات المتحدة خطراً جيوسياسياً على روسيا وحدها، بل أيضاً خطراً يتهدده شخصياً. وبالنسبة إلى بوتين تختلط السياستين الخارجية والداخلية، وكذلك لا تنفصل جهوده في ترسيخ سلطته وتوسيعها في الداخل عن محاولاته استبقاء سطوة روسيا على الدول التي شكلت سابقاً جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وإعادة توكيد تأثير موسكو وحضورها في الساحة الدولية.
ضمن إطار واسع يتربع بوتين حاضراً على قمة نظام شخصاني وشبه مخصخص وفاسد، يتمدد داخل الدولة الروسية ومؤسساتها وشعبها، ولقد أدخل محازبيه في كل مؤسسة روسية مهمة وكل مجال استثماري وصناعي، وكذلك يبرز أنه إذا أراد بوتين الاحتفاظ بمنصب الرئاسة حتى سنة 2036، حين يكون قد بلغ الـ 84 من عمره وغدا الرئيس الروسي الحديث الذي حكم البلاد أطول فترة زمنية، فسيتوجب عليه التمتع بهذا المستوى من السيطرة أو ربما زيادته، لأن كل انزلاق أو قصور في هذا الإطار قد يعتبر وهناً [في سلطته]، وكي يحقق ذلك ينبغي عليه أن يكبح أو يهزم كل منافس خارجي أو داخلي لديه القدرة على تقويض نظامه، وفي ذلك السياق يتمثل أمله بأن يبقى قادة الولايات المتحدة متعثرين حيال مشكلات بلدهم وأزماته، الأمر الذي يثنيهم عن اعتماد سياسات تنتقد شخصنته [بوتين] للسلطة، ويستبعد دعمهم جهود التغيير في روسيا، مع ملاحظة أن تلك الأشياء شكلت سياسات انتهجتها حكومات الولايات المتحدة في حقبة التسعينيات من القرن الـ 20.
وعلى خط مواز يعمل بوتين على طمس الخط الفاصل بين السياسة الخارجية والسياسة الداخلية، من أجل حرف انتباه الروس عن اختلالات وعيوب سلطة حكمه، فمن جهة يشدد بوتين الإشارة إلى الترهل والاستهتار اللذين بلغتهما الولايات المتحدة، ومدى عدم أهلية رؤسائها في إلقاء الدروس على الآخرين بشأن كيفية الحكم وإدارة البلاد، ومن جهة أخرى يشدد بوتين أيضاً على استمرار الولايات المتحدة في تمثيل خطر عسكري يهدف إلى تركيع روسيا، وتبقى لازمة بوتين الدائمة في هذا الإطار متمثلة في اعتباره المنافسة بين روسيا والولايات المتحدة بمثابة صراع “دارويني” دائم [بمعنى أن يكون البقاء فيه للأقوى وحده]، مع التأكيد على أن روسيا من دون قيادته لن تتمكن من تحمل ذلك الصراع.
لا روسيا من دون بوتين، وكذلك لا يريد من الأمور أن تخرج تماماً من قبضة سيطرته وتؤدي إلى الحرب، وفي المقابل لا يريد أيضاً ألا تخفت المواجهة أو تلقى حلولاً لها.
واستطراداً، باعتباره النصير الوحيد لبلده وشعبه، لا يمكن أن يتراجع أو يساوم حين يتعلق الأمر بالمواجهة مع الأميركيين.
وعلى المنوال ذاته ينبغي على بوتين إخضاع وتهميش وكبح وهزيمة كل معارضة لحكمه، وينبغي دهس كل من قد يقف في طريقه، واستناداً إلى ذلك يقع قائد المعارضة الروسية السجين ألكسي نافالني وهيلاري كلينتون في الخانة نفسها، ووفق رأي بوتين فلو انتخبت كلينتون رئيسة للولايات المتحدة لكانت سوف تستمر ربما في متابعته (متابعة نافالني) وإبقائه في مهمته، تماماً على غرار ما فعلته حينما شغلت منصب وزيرة الخارجية في إدارة أوباما، وذلك عبر دعواتها إلى الديموقراطية ونداءاتها الموجهة إلى المجتمع المدني كي يجتث الفساد في روسيا.
في المقابل، فمما لا شك فيه أن نافالني يشكل خطراً على بوتين أكبر بكثير من ذلك الذي تجسده هيلاري كلينتون لو انتخبت رئيسة لأميركا، إذ إن نافالني روسي وليس أجنبياً، وكذلك يشكل بديلاً لبوتين ينتمي إلى جيل مستقبلي، مع كونه شاباً ووسيماً وكاريزماتياً ووطنياً وجريئاً.
واستطراداً لا ينبع خطره على بوتين من مجرد تمايزهما كشخصيتين، بل أيضاً من بعض التشابهات الأساسية بينهما، فعلى غرار بوتين فإن نافالني شعبوي يقود حركة سياسية وليس حزباً، ولم يتهاون في اللعب على الوتر القومي نفسه في مخاطبة الناخبين الروس أنفسهم ممن يشكلون قاعدة بوتين (الشعبية والانتخابية)، وقد نجا نافالتي من محاولة اغتيال وقحة، وتوصل إلى إذلال بوتين في مناسبات كثيرة، إذ إنه عبر الاستخدام الذكي للإعلام الرقمي ومهارات الفيديو الحاذقة لتسليط الضوء على تجاوزات نظام الفساد الذي يترأسه الزعيم الروسي تمكن من النفاذ تحت جلد بوتين، وقد أجبر الكرملين على الانتباه إليه، ولتلك الأسباب يقبع اليوم في السجن، وقد سارع بوتين إلى تجييش حركته (أي شارعه السياسي ومناصريه)، محبطاً أي إمكانية في أن يستطيع نافالني أن ينافسه في الانتخابات الرئاسية سنة 2024.
المهمة المطروحة
بصورة عامة لم تعد العلاقات الأميركية – الروسية الراهنة تعبر عن تحديات “الحرب الباردة” وقضاياها، حتى لو استمرت خطوط جيوسياسية وعداوات عدة في استحضار ذلك الأمر، إذ إن المقاربة القديمة في السياسة الخارجية الأميركية المستندة إلى نوع من الموازنة بين عامل الردع من جهة وبين الانخراط المحدود في الوقائع من جهة أخرى لم تعد مقاربة صالحة لأداء المهمة الراهنة المتمثلة في التعامل مع ريبة بوتين، وبعد أداء ترمب الكارثي في هلسنكي بات من الجلي أيضاً أن مؤتمرات القمم الرئاسية بشأن الحد من التسلح، التي خففت من حدة المرحلة الحساسة في الحرب الباردة والمواجهة النووية، لا يمكنها سوى تأمين قليل من الارشادات الصالحة في شأن إرساء أسس العلاقة المستقبلية (بين روسيا والولايات المتحدة)، وتكمن المشكلة الأولى أمام إدارة بايدن في التعامل مع روسيا، في السياسات الداخلية للولايات المتحدة وروسيا، وليس سياساتهما الخارجية، إذ إن البلدين استناداً إلى بعض الأسباب المتطابقة على مدى السنوات الماضية راحا يسلكان الوجهة السياسية ذاتها، فقد عانيا من التأثر بالحساسيات نفسها، وكذلك ليس في وسع الولايات المتحدة أبداً تبديل بوتين ولا تغيير تصوراته عن الأخطار، لأن هذه الأخيرة شخصية على نحو عميق، وبالتالي سيكون على الأميركيين تغيير أنفسهم كي يبددوا تأثير حملات التدخل السياسي الروسية في المستقبل المنظور.
واستكمالاً، يتطلب تحقيق هذا الهدف من بايدن وفريقه العمل على إدماج مقاربتهم تجاه روسيا ضمن جهودهم الرامية إلى انتشال وتدعيم الديموقراطية الأميركية، ومواجهة اللامساواة والعنصرية وقيادة البلاد نحو الخروج من مرحلة الانقسام الحاد.
لقد غدا الاستقطاب في المجتمع الأميركي خطراً يتهدد الأمن القومي، وكذلك يشكل عائقاً أمام الجهد الجماعي المطلوب في مواجهة الكوارث وإحباط الأخطار الخارجية، وأدت المناكفات الحزبية خلال جائحة “كوفيد- 19” العالمية إلى تقويض موقع أميركا الدولي كنموذج للديموقراطية الليبرالية، وكذلك أضعفت موقعها القيادي في مجال الصحة العالمية، وقد تسبب عجز الولايات المتحدة عن توحيد جهودها في إعاقة فاعلية القوة الأميركية الناعمة أو ما سماه بايدن “قوة نموذجنا”، وخلال الفترة التي قضيتها ضمن إدارة ترمب رحت أعاين عن كثب كيف يجري تسييس كل خطر من الأخطار وتحويله إلى مادة للكسب الشخصي والمناكفات الحزبية، وفي ذلك الإطار وقف مستشارو أمن قومي متعاقبون ووزراء في الحكومة وموظفون حكوميون محترفون، وقفوا كلهم عاجزين عن حشد ردود الفعل أو الدفاعات المنسجمة في وجه المسائل الأمنية، وقد تأتى ذلك أساساً مما ساد في قمة القيادة من تصرفات شخصانية وفوضوية وانتهازية.
في هذا الجانب، يقدم بوتين في الحقيقة نقيضاً مفيداً وإرشادياً، وأثناء ولايته الرئاسية جرد ترمب حملة ضد “الدولة العميقة” الأسطورية في الولايات المتحدة في مقلب مغاير، لا يعتبر بوتين الذي قضى عقوداً في الاستخبارات قبل تبوئه قمة السلطة، سوى محض نتاج من “الدولة العميقة” الحقيقية جداً في روسيا، وعلى عكس ترمب الذي رأى في الأجهزة الأمنية الأميركية عدواً له وأراد حكم البلاد كدخيل، يحكم بوتين روسيا كمخترق لأعماق الدولة، وأيضاً على عكس ترمب نادراً ما يخوض بوتين في انقسامات روسيا الاجتماعية والطبقية والعرقية والدينية بغية اكتساب زخم سياسي، وعلى الرغم من استهدافه أفراداً وفئات اجتماعية لا يتمتعون بسوى النزر القليل من الدعم الشعبي، يميل بوتين إلى ترويج ثقافة وهوية روسية واحدة مصطنعة، بغية تجاوز نزاعات الماضي الداخلية التي زعزعت استقرار الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي، بل أسهمت في إسقاطهما.
واستناداً إلى تلك المعطيات يبرز ملمح مفاده أن بوتين يسعى إلى روسيا واحدة، فيما أراد ترمب خلال فترة رئاسته “أميركات” متعددة، ويشكل ذلك الملمح أكثر من مجرد فارق في الأساليب السياسية، بل إنه “نقطة بيانية” [أو “نقطة قياس”] جوهرية، إذ يسلط ذلك الملمح الضوء على حقيقة أن المقاربة الناجحة تجاه روسيا في السياسة الأميركية سوف تستند في جزء منها إلى حرمان بوتين والعملاء الروس من فرصة استغلال الانقسامات في المجتمع الأميركي.
في سياق متصل، لقد عملت الوسائط الرقمية في التواصل الاجتماعي على تضخيم هشاشة الولايات المتحدة تجاه المناورات والأعمال التخريبية التي ينهض الكرملين بها، وكذلك اشتغلت التكنولوجيا التي صنعتها الولايات المتحدة على تضخيم تأثير ما نُظر إليه في أوقات سابقة بوصفه أفكاراً هامشية متطرفة، إضافة إلى أنها قوت حضور أفراد هدامين من جميع أنحاء العالم، وبالتالي غدت تلك التكنولوجيا أداة بأيدي دول عدائية وجماعات إجرامية، إذ بات بوسع المتطرفين بناء الشبكات والوصول إلى الجمهور، وبشكل لم يحصل في السابق أبداً، عبر استعمال منصات رقمية على الإنترنت مثل “فيسبوك” و”تويتر”، مصممة في الأصل بهدف جذب انتباه الناس وتصنيفهم في مجموعات متجانسة.
وفي المقابل، عمد بوتين إلى استخدام هذه التكنولوجيا كسلاح ضد الولايات المتحدة، مستفيداً من السبل التي عملت من خلالها وسائط التواصل الاجتماعي على تقويض التماسك الاجتماعي وتبديد حس الأميركيين بالتضامن من أجل هدف مشترك. واستناداً إلى تلك المعطيات يتوجب على صناع السياسات في الولايات المتحدة تكثيف تعاونهم مع القطاع الأميركي الخاص بغية تسليط الضوء على العمليات الاستخباراتية الروسية وغيرها من محاولات استغلال منصات التواصل الاجتماعي، توخياً لإحباط تلك العمليات، وكذلك ينبغي على صناع السياسات التوصل إلى طرق في تثقيف الجمهور الأميركي وتنويره تجاه أخطار نشر المعلومات الشخصية والسياسية على الإنترنت.
ضمن تلك السياقات، يبرز أن جعل الولايات المتحدة ومجتمعها أكثر مرونة وأقل هشاشة تجاه التلاعب [بالرأي العام] عبر إثارة مسائل اللامساواة والفساد والاستقطاب سوف يتطلب سياسات إبداعية في مجال واسع من القضايا، وفي ذلك الإطار ربما ينبغي إعطاء الأولوية للاستثمار في الناس ضمن أماكن سكنهم، خصوصاً من طريق التثقيف، وفي ذلك الصدد تستطيع الثقافة أكثر من أي أمر آخر خفض العوائق المنتصبة في وجه الفرص والمعلومات الدقيقة، وكذلك تقدر الثقافة على مساعدة الناس في ملاحظة الفارق بين الحقيقي والخيالي، وكذلك تقدم أيضاً إلى الناس جميعهم فرصاً لا تقتصر على تطوير معارفهم ومهاراتهم وحسب، بل تشمل أيضاً الاستمرارية في تغيير أنفسهم ومجتمعاتهم.
في ملمح متصل، ثمة أمر واحد يتوجب على القادة الأميركيين تلافيه في سياق سعيهم إلى تعزيز الوحدة الداخلية، يتمثل في محاولة تحشيد الأميركيين حول فكرة عدو مشترك، على غرار الصين مثلاً، إذ يحمل اللجوء إلى ذلك الأمر أخطار إطلاق النار على الذات عبر استثارة مشاعر غاضبة مستندة إلى نزعة معاداة الأجانب [زينوفوبيا]، وتصب ضد الأميركيين والمهاجرين من أصول وثقافات آسيوية، وبالتالي فإنه سيتسبب بمزيد من الانقسامات في الداخل الأميركي، وبدلاً من محاولة تحشيد الأميركيين ضد الصين، يتوجب على بايدن أن يحشد الأميركيين لنصرة حلفاء الولايات المتحدة الديموقراطيين الذين ازدراهم ترمب وسخر منهم، وحاضراً يجد عدد من تلك الدول، خصوصاً في أوروبا، نفسه في المأزق السياسي ذاته الذي تقبع الولايات المتحدة فيه، مقابل سعي قادة سلطويين ودول سلطوية إلى استغلال الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والنزعات الشعبوية في أوساط مواطني تلك الدول، وبالتالي ينبغي على بايدن أن يعد أجندة جديدة تشمل ضفتي الأطلسي تكون مستندة إلى مكافحة متبادلة ومشتركة للشعبوية في الداخل الأميركي وللسلطوية الاستبدادية في الخارج، عبر إعادة بناء الاقتصاد والتجديد الديموقراطي.
وكخلاصة، يبقى الأمر الأهم متمثلاً في وجوب استخدام بايدن كل سلطته كي يعيد الثقة في الحكومة وتعزيز النزاهة والمساواة والعدالة، ووفق ما تعلم كثير من الأميركيين خلال رئاسة ترمب، ليس ثمة من بلد حصين في وجه قيادة فاسدة واضمحلال نظام الضوابط والتوازن السياسي وانحلال المؤسسات مهما كان ذاك البلد متقدماً، فالديموقراطية لا تصلح نفسها، وهي تحتاج إلى يقظة دائمة.
* فيونا هيل من كبار باحثي “كرسي روبرت بوش” في “مركز دراسات الولايات المتحدة وأوروبا” ضمن برنامج السياسة الخارجية في “معهد بروكينغز”، وألفت هيل كتاب “لا شيء لك هنا: العثور على فرصة في القرن الـ 21”
There Is Nothing for You Here: Finding Opportunity in the Twenty-first Century (Mariner Books, 2021) الذي استلت منه هذه المقالة.
مترجم من فورين آفيرز نوفمبر (تشرين الثاني)/ ديسمبر (كانون الأول) 2021
المصدر: اندبندنت عربية