خيري الذهبي
في مدينة حلب الشهيدة، التي لها معزة في قلبي تساوي محبتي وعشقي لمدينة دمشق، هنالك خان لفت نظري باسمه المُتَّقِد بالأسئلة، “خان البنادقة” وحينما سألت عن ماهية الاسم أجابني مضيفي، وكنا في ندوة فكرية في حلب مطلع التسعينيات، أن الاسم اتخذه أبناء حلب في القرن السادس عشر؛ لأن تجار مدينة البندقية كانوا ينزلون فيه، وكانت تجارتهم تتخذ منه منطلقاً في عموم حلب ومدن الشمال السوري، لقد تواصل أهالي حلب مع مدينة البندقية التي كانت عامرة وذات ازدهار كبير، فافتتحوا القنصليات ودُور رعاية التجارة بين المدينتين، لم تكن البندقية وحيدة في هذا بل كانت عموم مدائن إيطاليا ودوقياتها على صلة كبيرة بحلب ومينائها العظيم التاريخي ميناء مدينة أنطاكيا ميناء شمال سورية طوال الأعوام الألف السابقة، حيث كانت البضائع تنزل فيه وتتوجه إلى حلب والعكس صحيح، فقد كانت حلب نقطة تجمُّع وانطلاق لعموم قوافل تجارة التوابل والأغذية والأقمشة، الحريري منها والقطني، وكانت إيطاليا تزود مدائن الشرق عَبْر حلب، بكافة مستلزمات الحضارة وقتها، من زيوت واختراعات وتحف.
كانت حلب مدينة عالمية ذات شهرة كبيرة، وكانت العلاقة بين التجار الحلبيين وتجار البندقية وجنوى وبيزا، ذائعة الصيت، حتى أن الكاتب الشهير وليم شكسبير قد ذكرها في مسرحيته (عطيل) مستشهداً بخلاف حصل بين تجار، من المفترض أن الخلاف حصل في خان البنادقة:
“دموعاً سراعاً كما تدرّ أشجار العرب
صمغها الشافي هذا دونوه
وقولوا أيضاً إنني ذات مرة في حلب
.. حيث هوى تركي شرير مُعمَّم على بندقيّ
بالضرب وأهان الدولة
أمسكتُ بالكلب من عنقه وضربتُهُ هكذا “يطعن نفسه “
لقد أطلق العرب على مدينة فينيسيا اسماً مختلفاً عمَّا يسميه أبناء المدينة ذاتهم، فالمدينة وفي جميع لغات العالم تتسمى بـ “فينيسيا” نسبة إلى فينوس، أو نجم الزهرة ..لكن العرب أسموها كذلك لعدم تمييزهم الفروق في اللغة الإيطالية التي كانت تسبق اسم فينيسيا بلقب الدوقية الجميلة، والتي هي بالإيطالية “Buena douchia ” والتي رددها التجار العرب على أنها البندقية وتناسوا الاسم الحقيقي للمدينة، فبقيت في أذهانهم حتى اليوم “الدوقية الجميلة لمدينة فينيسيا..”
وعَوْداً إلى حلب، كان خان البنادقة بؤرة علمية بقدر ما كان مركزاً تجارياً، فكما نقل التجار المسلمون رسالتهم إلى عموم آسيا وإفريقيا وبنوا المساجد والمدارس هناك، وكما فعل التجار الفينيقيون قبلهم من نقل لحضارتهم إلى عموم إفريقيا وأوروبا وجزائرها، تحت غطاء التجارة، كان يتسلل مع التجار الطليان العديد من الطلاب والثوار الهاربين من أحكام سجن، يتسللون خفية نحو الشرق البعيد، ليجالسوا شبان حلب وتُجارها ويحدثوهم عن الثورة والأفكار المتقدة في أذهانهم.. استمر هذا الحال تقريباً من القرن الثالث عشر حين عُقدت أول اتفاقية تجارية بين مبعوث البندقية بيترو مارينياني وملك حلب الظاهر غازي عام 1207م. وحتى سقوط الإمبراطورية العثمانية..
في مَقْلبٍ آخرَ كان السؤال الذي يُحيِّرني ولا شك أنه قد حيَّر الكثيرين من قبلي هو: كيف استطاع عبد الرحمن الكواكبي -وهو العبقري ابن الثقافة العثمانية والشيخ المتنور المشبَع بالثقافة الإسلامية والعربية التقليدية، ولم يطَّلع حسب ما يُصِرّ كاتبو سيرته والمتحمسون له على ما جرى في الغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من هيجان فكري وفلسفي وسياسي كيف استطاع- صُنعَ كتابٍ في غاية الأهمية مثل “طبائع الاستبداد”، وهو أيضاً الذي لم يطلع على الثورة البرجوازية الفرنسية التي هدمت البِنى الفيودالية (النبيلة) في أوروبا الفيودالية الكنسية (وليعذرني القُرّاء على استخدامي مصطلح الفيودالية بديلاً عن مصطلح الإقطاع والإقطاعية الذي دأب الكُتّاب السياسيون على استخدامه لما فيه من تضليل في مقارنة المصطلحيْنِ الغربي الفيودالية والشرقي المَقاطِعْجيَّة المملوكي والعثماني).
والثورة الفرنسية التي ما تزال أصداؤها تؤثر حتى في عالمنا المعاصر مع شعارها الرائع :حرية- إخاء- مساواة، إلى الديمقراطية التي طالبت بها والتعددية.
تلك الثورة لم تلبث بعد هزيمتها على أيدي الرجعية الأوروبية أن استيقظت ثانية في إيطاليا على أيدي الثوار المسمَّيْنَ في حينها بالكاربوناري أو الفحّامين والذين كان من أعلامهم غاريبالدي وماتزيني، ولكن هذه الثورة نفسها ما لبثت أن اغتِيلت على يدي الملك الذي سلموه إيطاليا بعد توحيدها ظانِّين أنه المُصلِح الذي سينقذ المشروع وربما يستطيع مده إلى أوروبا كما فعل نابليون قبل خمسين سنة، ولكنه ما إن تسلَّم إيطاليا حتى قلب للفحّامين ظهر المِجَنِّ، وأخذ في مطاردتهم وقتل مَن استطاع قتله، وسجن مَن استطاع سجنه.
حلب… وكانت المدينة الأكبر والأهم في بلاد الشام، بل كانت المدينة الثانية في الإمبراطورية العثمانية بعد إستانبول ثراءً وعلماً وتقدُّماً وخاناتٍ . والكل يذكر خانَ البيازنة، أي أهالي مدينة بيزا، وخان البيادقة :أي خان أهل مدينة البندقية.
وعَوْداً إلى الفحّامين المطاردين الهاربين من إيطاليا إلى فرنسا، ومن فرنسا نابليون الثاني لم يكن أمامهم إلا مصر و… حلب… حيث الصلات التاريخية التجارية وحيث خانات التجارة. ونعود إلى السؤال: هؤلاء الفحّامون، هل صمتوا وخرسوا، وتناسوا ماضيهم الثوري بعد أن وصلوا إلى حلب وخان البنادقة، واشتغلوا محاسبين ومديري مكاتب تجارية، أم أنهم والتجارب تعلمنا أنهم على حدّ قول المثل (يموت الزمَّار وإصبعه يلعب).. عادوا إلى عقد اجتماعاتهم والبكاء على الجنة التي فقدوها في إيطاليا فيتوريو إيمانويل، وفي استدعاء الصحف والمنشورات التي كان الفوضويون “الأناركيست” ينشرون فيها أفكارهم وأمنياتهم واحتجاجاتهم على ما وصلت إليه إيطاليا وأوروبا الاستعمارية.
هذه الصحف والمنشورات والكتب، هذه القراءات والاجتماعات السرية، هل كانت مقصورة على الجالية الإيطالية، أم أنها كانت متاحة للمتنورين المحليين من بلاد الشام.
أنا شخصياً وحسب قراءاتي ومشاهداتي المعاصرة، أعتقد أنها لم تكن محصورة على الإيطاليين فقط، بل كانت متاحة للمتنورين الشاميين، وكان من أكثرهم انفتاحاً ورغبةً في تطوير وتحسين الدولة العثمانية، وأعني المفكر عبد الرحمن الكواكبي، وإذا ما قرأنا كتابه “أم القرى”، ودعوته إلى مؤتمر يضم متنوري العالم الإسلامي لمحاولة إصلاحه، قرأنا إلماحة سريعة إلى تلك الندوات التي كان الفحامون وأيتام الثورة في أوروبا يعقدونها ويحلمون باستعادة التجربة في الإمبراطورية العثمانية.
ما دعاني إلى ذكرها هو إصرار كُتّاب الدراما في سورية تحديداً على جعل القرن التاسع عشر قرن عماء وانغلاق، علماً أن القرن التاسع عشر كان القرن الأكثر هيجاناً منذ الفتح الإسلامي، فالثورة البرجوازية الفرنسية وصلت إلى الشام مع إبراهيم باشا وضباطه البونابرتيين الهاربين إلى مصر وعلى رأسهم الكولونيل سيف، الذي سيُسلم ويتكنَّى باسم سليمان باشا الفرنساوي، ووصلت ابنة الثورة الفرنسية أعني الإيطالية على يد الهاربين من إيطاليا إلى حلب يبكون على ما كان ويحلمون بيوم أفضل للإنسانية.
وقد أثمرت هذه الاحتكاكات أعلاماً تفخر بهم بلاد الشام من أمثال أحمد فارس الشدياق وأحمد أبو خليل القباني وعبد الرحمن الكواكبي ونعمان القساطلي وفرنسيس مراش ومارون نقاش وابن أخيه سليم وإسكندر فرح.
فهلا نعيد إلى هذا القرن بعضاً من حقه ولا نستسلم للفكرة الاستشراقية الكولونيالية التي يمنّ فيها الغرب علينا بأننا كنا جهلاءَ فجاء وعلَّمَنا وأنارَ حياتنا.
كان الكواكبي والقباني والأفغاني مشاعل محلية، ولكنهم كانوا أيضاً جزءاً من الثقافة العالمية، وكان هذا لحسن حظنا؟ ربما!.
مع مطلع القرن العشرين شُحن أجدادنا بفكر ثوري فأعلنوا الثورة، وما لبث أن خذلهم الغرب الذي بثَّ في وضعهم ورغبتهم في التقدم الأحلامَ، ومع مطلع القرن الواحد والعشرين، حصل نفس الأمر وعاد الغرب وخذلَنا من جديد بعد أن ساهم في إذكاء الحلم بالحرية والديمقراطية في عقولنا جميعاً، مع العلم أننا لسنا في حاجة إلى مَن يوجِّه ثوراتنا ورغبتنا في التقدم، ولكن العبث الدائم من الآخر ضدّ طموحات شعوبنا كان محبطاً وبائساً، وتذكروا على الدوام حال خان البنادقة في حلب اليوم.
المصدر: نداء بوست