أعادت النهاية المأساوية للصراع حول الغوطة وتهجير أهلها نحو الشمال السوري تسليط الضوء مجددا على جريمة (التهجير القسري) التي تشكل معلما بارزا من معالم الكارثة الشاملة في سورية، منذ أن اختار نظام التسلط الحرب على شعبه، ردا على ثورته السلمية ومطالبته بالحرية والاصلاح. ولا شك أن هذه الجريمة تحديدا ستشكل أبرز جوانب الكارثة التي ستخلف آثارا عميقة ودائمة على تركيبة المجتمع السوري وتوازناته السكانية والطائفية والعرقية في المستقبل. لقد كررت العصابة الحاكمة في (الغوطة الشرقية) المخطط الذي اقترفته في المعضمية وداريا ووادي بردى، في محافظة ريف دمشق، وما سبق أن اقترفته في محافظات حمص وحلب ودير الزور، أي إرغام السكان وإكراههم على ترك بيوتهم ومدنهم والانتقال الى مناطق بعيدة بديلة للإقامة الطويلة، أو الدائمة فيها، بدون ضمانة للعودة أو حماية لممتلكاتهم التي خلفوها، خصوصا أن التهجير في حالات كثيرة لم يكن الى مناطق محددة، بل الى التيه الواسع عبر العالم، أو المجهول. وهو مخطط تكشفت أبعاده بوضوح منذ بداية الاحداث، ثم تصاعد وتضخم، بدون توقف، حتى بلغ عدد المهجرين واللاجئين السوريين الى خارج بلادهم نحو (4,7) مليونا، ونحو ( 7,6) مليونا داخل سورية .
مخطط مرسوم لا نتيجة عرضية:
لقد أظهرت المعطيات المتعلقة بهذا الملف بالذات أن (التهجير الجماعي) بعامة، ومن مناطق معينة، بخاصة، كالقصير وحمص وريف دمشق، لم يكن نتيجة عرضية أو جانبية للصراع، كما يزعم النظام، ولا عقابا جماعيا للحاضنة الاجتماعية للثورة، بل ولا هو مخطط لأسباب أمنية ترمي – مثلا – لحماية العاصمة، ولكنه كان (هدفا) استراتيجيا منشودا ومقصودا بذاته للنظام ولحلفائه، وعلى رأسهم إيران الضالعة بقوة في المخطط الذي أطلقت عليه رسميا (الهندسة الديمغرافية)، أي إعادة تركيب سورية وهيكلتها سكانيا. وما لبثت التطورات أن اوضحت أبعادا أخطر لهذا المخطط، وفي مقدمها أن العملية تتم بمعايير مذهبية لم يعرفها السوريون في تاريخهم. فقد سعت ايران بفضل نفوذها المتعاظم في أجهزة النظام، وتحكمها المباشر بالفصائل الشيعية القادمة من لبنان والعراق وافغانستان وباكستان، الى تهجير سكان القصير عن بكرة أبيهم منذ مجزرة 2013 ، وفرض واقع ديمغرافي جديد فيها ما زال مكرسا حتى الساعة . ثم تكرر في احياء حمص الداخلية، والقلمون الغربي، والغوطة، وخاصة وادي بردى والزبداني، بسبب قرب المنطقتين من الحدود مع لبنان (مثلها مثل القصير) ومن المناطق ذات الكثافة الشيعية فيه . وطلبت ايران التي تولت التفاوض على تنفيذ اتفاق الحل في الزبداني أن يخليها سكانها، ويستبدلوا بسكان القريتين الشيعيتين (الفوعة وكفريا) ليحلوا محلهم . وهو ما يشير الى خطة خلق مناطق شيعية حول دمشق متصلة بمناطق الشيعة في لبنان، بدليل أن حزب الله هو الذي اقترف مجزرة القصير، وتولى الحرب على الزبداني لأنه صاحب المصلحة الاول، تنفيذا لمخطط ايراني اكبر لخلق جسور تواصل بين أراضيها ومناطق الشيعة في العراق ثم سورية، وصولا الى لبنان والبحر المتوسط، وهو المخطط الذي اطلق عليه المراقبون (الكوريدور الشيعي الايراني) العابر للدول الاربع، بهدف تثبيت نفوذها وسيطرتها وتوفير الضمانات الدائمة له . وفي ضوء هذه الحقائق والمعطيات سارت العمليات العسكرية في كثير من المناطق، وخاصة دمشق ومحيطها ثم حمص وريفها، ثم دير الزور والمدن القريبة منها، وخاصة الميادين والبوكمال اللتين يمر منهما الكوريدور من العراق الى سورية . وتعادلان من حيث الاهمية القصير والزبداني، فهي كلها ” رؤوس جسور” للمخطط . وما زال القتال والعمل بكل الوسائل يجري لتثبيت هذا المخطط الذي يمكن تحديد معالمه واهدافه على النحو التالي : أولا – السيطرة التامة على دمشق مدينة وريفا ، نظرا لأهميتها السياسية والاقتصادية ورمزيتها التاريخية والقومية والحضارية . ثانيا – السيطرة التامة على حمص لأنها تمثل عنق سورية، وصلة الوصل بين جنوبها وشمالها، وبين شرقها وغربها . كما تمثل أيضا نقطة التواصل بين العراق وسورية ولبنان . ثالثا – العمل على تثبيت ركائز ( سورية المفيدة ) أي الدولة العلوية التي يعمل النظام على الاستفراد بها إذا فشل في استعادة السيطرة على سورية كاملة ، أو فرضت القوى العظمى تقسيمها . تجدر الاشارة الى أن مخطط ايران لإعادة هيكلة سورية ديمغرافيا ركز على تحويل ادلب الى مجمع للسكان المهجرين من المحافظات الجنوبية والوسطى ، وتعهيدها للسلطات التركية لإدارتها والاشراف عليها بصورة تخدم المخطط التقسيمي والفرز السكاني بالمعايير المذهبية ، ووفق مصالح الدول المشاركة في محور آستانة ( روسيا وايران وتركيا) وتمكننا الاشارة الى شهادة المبعوث الاممي ستيفان ديمستورا الذي أبلغ مجلس الامن مرتين في احاطاته الشهرية : إن خطة مناطق خفض التصعيد الاربع تخدم تقسيم سورية وتتعارض مع توجه مجلس الامن بالحفاظ على وحدة سورية .
أبعاد أخرى:
في ضوء هذا (المخطط) ينبغي النظر الى عملية تهجير سكان دوما ومقاتلي جيش الاسلام الى منطقة جرابلس في ريف حلب الشمالي التي تشرف على ادارتها تركيا ايضا . ومن الطبيعي أن تثير هذه العمليات والتطورات الميدانية قلق السوريين الذين يتمسكون بوحدة بلادهم وشعبهم ،لا سيما أن ثمة جملة إجراءات وتدابير قانونية وتشريعية ، يقدم عليها نظام الاسد حاليا بسرعة وبصمت ، لإضفاء الشرعية على هذه التغييرات ، إذ لم يكتف بحرق سجلات الملكية العقارية في حمص مثلا ، واستجلاب 700 أسرة شيعية الى داريا في الفترة الاخيرة ، ونهب البيوت والمساكن في عربين وزملكا وحرستا بعد تهجير أصحابها حتى أصدر المرسوم 66 أخيرا الذي يهدف الى نزع الملكية عن ممتلكات وعقارات السوريين اللاجئين أو النازحين أو الفارين بسبب الملاحقات الامنية لمئات ألوف السوريين . وهي طريقة أخرى من طرق تدمير الغالبية السورية التي خرجت الثورة من بيئاتها وشكلت حاضنتها المجتمعية، واضعافها اقتصاديا . ويأتي هذا المرسوم في سياق سلسلة من التنظيمات الادارية المشابهة، ومنها مراسيم وقرارات تنظيم المناطق القريبة من دمشق، كحي المزة ومنطقة كفر سوسة وغيرهما، بحجة تنظيم واعادة تخطيط هذه المناطق، بينما يعرف السكان أن الغاية هي تغيير هوية هذه الاحياء وتركيبتها السكانية بالشكل الذي يخدم مخطط النظام الطائفي للسيطرة المطلقة على دمشق، ونزع رمزيتها وهويتها القومية والاموية، ويمكننا الاشارة هنا الى نموذج قرية ( السيدة زينب ) كدليل صارخ على المخطط . ففي هذه القرية استطاعت السلطة بأساليب الترغيب والترهيب طرد جميع سكانها الأصليين ( العرب السنّة) عبر عشرات السنين وتمليك حقولها وعقاراتها لجماعات ايرانية وشيعية ، بحيث تم تحويلها بلدة شيعية بالكامل يؤمها ملايين الشيعة من ايران والعراق ولبنان !. كما ينبغي الاشارة الى أن الايرانيين اشتروا بطرق عديدة عشرات ألوف المباني والعقارات الهامة في دمشق وحمص ومدن الساحل وحلب، وذلك بطرق مكشوفة احيانا وبطرق ملتوية احتيالية أحيانا اخرى، تتطابق مع اساليب الحركة الصهيونية لنزع ملكية الشعب الفلسطيني عن مدنه وبلاده وتهويدها تدريجيا . إضافة لإجبار ايران للنظام العميل على رهن الاف العقارات التابعة للأوقاف وملكية الدولة لها ، مقابل القروض والأموال التي تقدمها ايران له لتمويل حربه ، ولإبقائه على رأس السلطة ..! كل هذه العناصر العسكرية، السياسية، التشريعية والادارية تنتهي في مرمى المخطط المرسوم لتغيير الخريطة الديمغرافية الذي تنفذه ايران بالشراكة مع الأسرة العلوية الحاكمة، وعصاباتها العسكرية، والمافيات المالية التي يديرها أركان الاسرة وأجهزة الاستخبارات، كرامي مخلوف، وهلال الاسد، وأبناء جميل ورفعت الاسد والتي بدأت نشاطها الاسود منذ خمسين سنة تقريبا . بموجب المخطط يصبح السوريون جميعا، وبلادهم كافة، ضحية لأهداف موحدة ومشتركة، تنفذ بأساليب ووسائل متعددة، من الابادة والتدمير، ونزع الملكية، وانتهاء بالتهجير القسري . وللأسف ليس هناك في مقابل هذا المخطط الخطير أي مشروع مضاد، لحماية سورية وحماية السوريين، من أي جهة، لا من مؤسسات المعارضة ومنظماتها، ولا من الدول العربية أو الصديقة أو المنظمات الدولية مثلا. بل إن غالبية هذه الدول والمنظمات بما فيها الامم المتحدة، ضالعة أو متورطة أو شاهدة صماء على ما يجري .. وهو مسلسل ومخطط يستعيد على نحو شديد الشبه والصلة العضوية، بما جرى في فلسطين بين وعد بلفور 1917واعلان قيام الدولة اليهودية على أرض فلسطين 1948 . والأكثر إيلاما أن العرب شعوبا ودولا لم يستوعبوا بعد دروس التاريخ القريب والبعيد، في فلسطين والعراق وسورية، إذ ما زال بعضهم يرى حتى اللحظة في ايران دولة ممانعة ودولة جارة، ودولة حليفة، ولا يرى ما ارتكبته في العراق واليمن ولبنان وسورية .. حتى لا نعود الى الاحواز منذ عام 1925 .. أفلا يرون كل هذه الأمثلة الحية، أم على قلوب أقفالها ..؟!