محمود الوهب
عاش العراق سنوات مريرة منذ سقوط بغداد عام 2003 على يد الأمريكان، وبدعوة من أطراف في المعارضة العراقية، آنئذ، وبتشجيع من دول عربية وإقليمية.
وكان العراق قبل ذلك يعيش وضعاً مأساوياً ممعناً في فردية القرار وتطبيقه، رغم عزلته العربية والدولية.. وكان ذلك كان قد أخذ العراقَ إلى حرب مع إيران استنفدت طاقاته، والكثير من شبابه لتقوده، فيما بعد، إلى احتلال الكويت دونما أي مبرر موضوعي، غير الغطرسة، وأوهام العظمة، ما أوقعه في تلك العزلة، وأفسح في المجال، فيما بعد، لجعل العراق لقمة سائغة تتنازعها أمريكا من جهة وإيران التي ردت، من جهة ثانية، للعراق صاع “كأس السم” الذي تجرَّعه الخميني بسُمٍّ أشد فتكاً ليتجرَّعه، هذه المرة، الشعب العراقي فقراً وذلاً ومهانة..
صراع طائفي
وقع العراق في صراع طائفي، كاد أن يبعده عن انتمائه الوطني والقومي، إضافة إلى سعي لا يزال مبيتاً لتقسيمه واحتلاله مجزأً، وقد حَكَمَ العراق خلال العقدين الماضيين مجموعات فاسدة، تقاسمت النفوذ لديها أمريكا وإيران ليعمَّ الفساد، ولتنهب ثروات العراق، وليهجَّر شعبه، وتستعلي فئات على أخرى.. الأمر الذي يذكِّر بقصيدة لـ “بدر شاكر السياب” نشرت في منتصف القرن الماضي:
“مطر.. مطر، وفي العراق جوع/ وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ/ لتشبع الغربان والجَرادْ/ وتطحن الشّوان والحجرْ/ رحىً تدور في الحقول، حولها بشر..”
وقد عبَّرت القصيدة، في ذلك الوقت، عن حال معظم البلاد العربية، لكنها بشرت بنهوض ما، بيد أنَّ العسكر وعموم النزعات الحزبية التفردية الذين انتزعوا الحكم لأنفسهم التفَّوا على بدايات ذلك النهوض، لتغدو البلاد خلال فترات حكمهم في أسوأ حال مما كانت عليه في عهود الحكومات التي أعقبت الانفصال عن الدولة العثمانية، أو تلك التي جاءت بعد الاستقلال عن فرنسا وإنكلترا قطبي “سايكس/ بيكو..”.
تياران واضحان
اليوم يمكن القول، وبعد صدور نتائج الانتخابات: إنَّ تيارين واضحين برزا في العراق، رغم تباين منطلقات كل منهما، أو ومرجعياته… إنهما تياران جمعا الأحزاب والقوى السياسية إضافة إلى عدد غير قليل من المستقلين..
أولهما: تيار وطني يخلص للعراق وشعبه، ولاستقلاله واستعادة دوره، وعراقة حضارته. أما التيار الثاني فهو تيار “شعبوي” لا يزال يمثِّل المرحلة السوداء التي أعقبت سقوط بغداد.. وهو تيار موال لدولة إقليمية ذات أطماع تعود إلى عصور فات زمانها، ويرفضها منطق العلاقات الدولية.. تماماً كما عبر عن ذلك مقتدى الصدر رئيس أكبر كتلة برلمانية ناجحة، في أول تعليق له على نتائج الانتخابات إذ قال: مؤكداً العبارتين التاليتين: “أهلاً بكل السفارات”، و”لكن دون تدخل في شؤون العراق”.
والغريب في الأمر أن ثقل التيار الثاني أو خطره، إنما يتمثل في امتلاكه السلاح خارج إطار الجيش العراقي، وفي خروجه على الدولة، إضافة إلى تورطه في قتل أبناء جلدته من المحتجين الذين هبوا في تشرين الثاني- نوفمبر من العام 2019، لاستعادة العراق الذي خضعت حكوماته السابقة، على نحو أو آخر، إلى الأجنبي.
وقدِّر عدد القتلى بخمسمئة إلى سبعمئة شاب وشابة إضافة إلى عمليات الاغتيال التي طاولت وجوهاً وطنية لها حضورها الفكري والثقافي.. وقد جاءت شعارات الشباب خالصة لوجه العراق بكل أطيافه القومية والدينية والطائفية.. ويلاحظ هنا أن التيار الخاسر أخذ يشكك بنتائج الانتخابات، مدعياً الالتفاف على أصواته، ويهدد بأفعال عنف خبيثة، وإن لم يصرح عنها، وقد يُدْفَع إلى تهور ما، كما حدث في سوريا مثلاً، حين واجهتها نسائم الربيع العربي، لكن الوضع العراقي هنا مختلف كثيراً.. فالتيار الفائز بمجموعه ليس أقل من التيار الخاسر، لا بالسلاح طبعاً بل بوجوده على الأرض، وبقوة انتمائه للشعب العراقي، وبصحوة العراقيين التي ملأت الشارع وعياً ونضجاً.. وكذلك بتنوع أطياف التيار إذ تمثل العراق كله وبخاصة الطائفة الشيعية التي تجري المراهنات عليها.. وأخيراً ما الذي يمكن أن تشير إليه نتائج الانتخابات العراقية، وهل لها أن تفتح أفقاً جديداً في حياة العراق والعراقيين.. وهل هي خروج عما يجري في المنطقة العربية من تحولات يرافقها الدم والخراب أم إنها في السياق ذاته وسوف تؤثر فيه إيجابياً؟!
بداية يمكن القول وبأفق متفائل:
أولاً- إن الانتخابات جرت في جو ديمقراطي آمن، وتقييمها حسب المراقبين الدوليين، وبشهادة الكثيرين من العراقيين أنها متقدمة عن الانتخابات التي سبقتها، ولا تسمح بالتلاعب بالأصوات.
كما لم يجر أي اعتراض على نزاهتها خلال سيرورتها.. وأمر طبيعي في هذه الحالة أن تعكس الانتخابات أجواء البلاد العامة.. وأن يجري تبدل في نسب الفائزين تبعاً للتغيرات التي تطرأ على أحوال البلاد، ولما يعكسه كل فرد أو تيار، من خلال سياسته وسلوكه، في أذهان ناخبيه.. وحال العراق اليوم غير مستقر.. إلخ
ثانياً- لقد جرت الانتخابات بعد ثورة الشباب عام 1919 وطبيعي أن تعكس تلك الشعارات الوطنية البعيدة عن الطائفية في العملية الانتخابية.
كذلك لا بد أن تنعكس حالة الفقر التي عاشها الشعب العراقي، في بلد غني بثرواته الظاهر منها والباطن، إضافة إلى انعدام الخدمات وخاصة الكهرباء، في وقت يجرى الحديث فيه عن طغم الفساد التي حكمت في المرحلة السابقة، وعن نهب عشرات المليارات من الدولارات، وتشير أصابع الشعب إلى أشخاص يترأسون كتلاً نيابية وازنة ممن يعترضون على نتائج الانتخابات.
ثالثاً- إنها خطوة أولى، ونقطة ضوء تتجاوز ذلك العتم الذي مرَّ على العراق سواء ما تعلق منه بحكم البعث الذي خنق إبداع العراقيين على مدى ما يقارب الأربعين سنة، أم خلال مرحلة الحكم الأخير للطوائف والمكونات، القائمة على المحاصصة السياسية، والديمقراطية المزيفة، وخاصة بوجود النفوذين الأمريكي والإيراني.. فالأمريكي دمر العراق وأخرجه من معركة كانت إسرائيل تتحسب لها!
أما الإيرانيون فحاولوا احتواءه كلياً.. بل إنهم تطاولوا أكثر إلى درجة أن بعض قادتهم زعم أن بغداد عاصمتهم.. “وما حدث من خسارة هو موقف عراقي تمثل في التصويت العقابي، أي أن العراقيين عاقبوا هذه الكيانات. وقد كانت هذه الخسارة متوقعة، بسبب فشل هذه الكيانات في المراحل الماضية بكل الملفات التي أوكلت إليها.
كما أن هناك نفوراً شعبياً من الإسلام السياسي خارج إطار الدولة”. (إحسان الشمري، رئيس مركز “التفكير السياسي للأبحاث”، كما أورده موقع العربي الجديد الاثنين 18/ 10)
رابعاً- لا يمكن فصل نتائج الانتخابات العراقية عما جرى ولا يزال يجرى في المنطقة العربية من مخاض، وإن تعسَّر قليلاً، فالتحولات الجارية في العالم تفرضه بقوة التأثير، في وقت لم تعد الحدود حاجزاً يمنع ثقافات العالم من التفاعل والتلاقح.. فالثورة الرقمية اليوم تتجاوز الحدود، وتقفز فوق الحواجز، وبالتالي تحفر عميقاً في أذهان الشباب أكثر مما تفعله تربية الأسرة أو المدرسة، إذ يأتي طوعاً ودونما تلقين ولا يمكن، في النهاية، لأي دولة أو شعب أن يكون في منجاة من تأثير مسيرة العالم الحضارية..
خامساً- سيكون للعراق تأثير في وسطه المجاور وخاصة في سوريا ولبنان، ما قد يغير من موازين القوى ويصب في عمق التحول المعقد باتجاه الديمقراطية التي تشكل خطراً على نمط الحكومات القائمة في المنطقة منذ عقود وهي المسؤولة عن كل ما سال في المنطقة من دماء وما جرى من خراب، فالعراق ابن شرعي لواحدة من أقدم الحضارات في التاريخ البشري، وله امتداده الحضاري المعاصر، وتأثيره في المنطقة كبير، ولذلك هو محط أنظار الطامعين، وعليه تعقد الآمال..
المصدر: القدس العربي