عبد الحفيظ الحافظ
” الكاتب الروائي : أمين معلوف ” الماضي بالضرورة متشرذم، وبالضرورة مستعاد، وبالضرورة مستبدع من جديد . لا يحصد فيه سوى حقائق اليوم . فلو كان حاضراً ابن الماضي، فماضينا ابن الحاضر . والغد حاصد لتهجيناتنا “. صـ 322 ” ماذا؟ فرنسة؟ بلد الأنوار؟ تمنح المساعدات لمدرسة المتدينين الكاذبين؟ وتحجبها عن تلك التي تنشر مبادئ الثورة الفرنسية؟ ” صـ355 “………لدينا ستون طالباً، أسوة بمدارس فيها دون العشرين، أو ليس فيها من يصح أن يسمى تلميذاً …ولوّح بالمبادئ السامية …بالحرب ضد التعصب الطائفي”. ” لم تُجُده مبادئه الثورية نفعاً، فلن يُحرم من المعونة وحسب، بل سيحارب بصورة أشرس مما سبق، بحيث تحسر على زمن العثمانيين، الحرب الكبرى، والمجاعة، وقطعان الجراد على حقول القمح الأخضر” صـ357 ” لماذا تحمس جدي في تلك السنة لكمال أتاتورك؟ لا يبرر هذا الحماس في كتابته، ولكني أفطن له بسهولة. فهو الذي كان يحلم على الدوام بانقلاب عظيم في الشرق، والذي أمضى حياته يحارب السلفية، وعبء التقاليد الخانق، ويناضل من أجل الحداثة حتى في أزيائه، لم يستطع البقاء بمنأى عنما يحدث في تركيا بعد انتهاء الحرب مع ظهور ضابط عثماني ولد في سالونيكا، وتعلم في مدارسها، متأثر بأفكارها التنويرية، أعلن عزمه على إلغاء النظام القديم، لإدخال ما تبقى من الامبراطورية، عن طيب خاطر أو بالإكراه في القرن الجديد. يبدو لي أن هذا الجانب الفظ في مشروع أتاتورك راق لجدي…لكن المبادئ العلمانية والعصرية لسيد تركيا الجديد قد ترسخت…أنا على يقين بأنه أسف لأن جيله لم يعد أرضاً تركية ” صـ368 ” وماذا حصل إذن. لدينا بنت وما همني؟ سوف أدعوها كمال؟ انه اسم صبي وما الفرق؟ لن أغير رأي بسبب ذلك “صـ371 ” كان جدي بطرس يريد أن يحذو الشرق حذو الغربيين؟، وانتقاداته استهدفت على وجه الخصوص أولئك الذين يقلدون الآخر بدون السعي لفهم أسباب تقدمه، أما أتاتورك فكان يعرف مجابهة الغربيين من إعجابه بهم….أراد جدي تكريم محرر الأرض والعقول، بإطلاق اسمه على ابنه، بلفظه العربي ” كمال” صـ370 أهديها هذا الكتاب بالدرجة الأول ىصـ371 ” سألت البنت كمال، والدتها لماذا لا تقبلها أبداً مثلما تقبل كل الأمهات أولادهن في القرية، فأجابت تلك الأم، بإحراج، أنها تقبلها وهي نائمة . وهذه البنت الصغيرة هي كمال تحديداً ” صـ373 ” في ما يتعلق نشاط جدك في بيروت خلال السنوات الأخيرة من حياته….فقد قرر إنشاء هيكلية في بيروت أطلق عليها اسم إنشاء ” مكتب المعرفة والعمل ” ….حرصت كمال التي كانت تعلم كيف تفطن إلى إضافة ما يلي في بقية رسائلها ” 375 فهمت الإشارة: فجدي لم يفارق بيته ليعيش حياة مزدوجة، ولكنه من الواضح أنه كان يرغب بالابتعاد، لا عن بيته أو مدرسته ….بل عن القرية والأهالي….لا ريب بطرس كان مرهقاً ومشمئزاً يحتاج لشيء آخر في مكان آخر فطغت عليه غرائز العزوبية ” 376 “. كان جدي بطرس متمرداً، وفي أطلال تمرده أبحث عن أصولي، وفي تمرده، أجد نفسي، ومنه أتحدّد” ص378 ” فحين يؤكد جدي أن لا يجب الفرض على الأطفال في المهد ديانة لم يختارونه بملء إرادتهم، وأنه يجب الانتظار ريثما يبلغون سناً يختارونهم بأنفسهم ما يؤمن به بالضبط …. لم يكن بطرس ليحلم بإلغاء الدين أو الكنائس، بل يحلم بالعيش يوماً في بلد حر محاطاً بنساء ورجال أحرار، حكام مستنيرون وغير فاسدين يوفرون للمواطنين التعليم، والرخاء، وحرية المعتقد وتكافؤ الفرص، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية لئلا يفكر الناس بالهجرة، كان حلماً مشروعاً، لكنه غير قابل للتحقيق، سوف يحلم به بعناد حتى مماته؟، وسوف يقوده في أغلب الأحيان إلى المرارة، والغضب، واليأس صـ379 رأيت بلاد الشرق في كل حالة بلاءً وشراً زاد مكياله الوافي فرحتم على القباب و قل إذاً بلاد بلا دالٍ و شرق بلا قاف ويقول معلوف يا ليت لي قلبين قلباً منهما سالٍ وقلباً لا يريم متيما فأسلم القلب الشقي لأهله وأعيش بالقلب الخلي منعما كونه أول من أنشأ مدرسة مختلطة، وكون هذه المدرسة علمانية، علمانية بإصرار، كما لم يكن موجوداً بعد في هذه المنطقة من العالم…لقد فتح جدك أذهاننا على الكون الشاسع” صـ406 ” بعض الكلمات التي دوت في ذلك القرية عند ورفاته في ذلك اليوم التذكاري. عرفتك رجلاً حراً، يأبى التآخي مع المرائين، ويرفض الاعتراف بخالق غي الله” ” يسلك البشر مسالك كثيرة، ظناً منهم أنهم يصلون إلى الخالق، ثم يتناسونه، لعبادة المسلك الذي يسلكونه “صـ407 ” في بيروت انخرط بكر أعمامي انخراطاً كاملاً في النضال السياسي ضد الانتداب الفرنسي ” صـ4 38 ” أنتمي إلى عشيرة ترتحل منذ الأزل في صحراء بحجم الكون. موطننا واحات نفارقها متى جف الينبوع، وبيوتنا خيام من حجارة، وجنسياتنا مسألة تواريخ أوسفن. كل ما يحصل بيننا، وراء الأجيال، ووراء البحار، ووراء بابل اللغات، رنين اسن…ذلك هو مشروع أمين معلوف من خلال الملحمة: الغوص في تاريخ أهله. استحضار ذاكرتهم. وإحياء مصير” عشيرة ” بني معروف صـ469 في الورقة الأخيرة: هل هذا الكتاب قصة حقيقية أم لوحة جدارية نحتت من صخرة التاريخ أم أسرار عائلة؟ هذه “لبدايات ” من الواقع اعتراف مهيب بالجميل، وهي كذلك صلاة مديدة ونبيلة. تشبه حب إلى أسرة تظل الوطن الوحيد بهذا الأدب الذي يعيش في منفى الاغتراب ” صـ470 قراءة نقدية : عبد الحفيظ الحافظ رواية ” بدايات ” دار: الفارابي طبعة أولى 2004 صـ470 جائزة المتوسط. بدايات الرواية الغنية والتي احتوت فكراً وأدباً متميزاً، وبالرغم من توثيقها حالة لبنان وسورية بالعقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين وولادة القرن 21 و الحرب العالمية الأولى 1914-1918 والثانية 1939-1945… لم تذكر ولم تنوه لمحاولة العرب للدعوة الاصلاحية بمواجهة الدولة العثمانية بعد خسارتها في الحرب، وتجاهلت الدعوة إلى اللامركزية، ولم يؤرخ لمؤتمر باريس، القومي العربي الأول الذي ترأسه عبد الحميد الزهراوي ابن حمص1913، ولا ثورة الشريف الحسين، ولا اعدامات جمال باشا السفاح، ومشانق دمشق وعاليه وبيروت. أتذكر حديثاً للمفكر والسياسي ياسين الحافظ / لم يرَ المفكرون ورجال السياسة العرب من مشروع كمال أتاتورك: إلا أنه ألغى الخلافة الاسلامية والأبجدية العربية، وغاب عن أعينهم العلمانية والحداثة ووحدة تركيا /. وأجمل حديثه عن مشروع كمال أتاتورك وعلمانيته ووحدة تركيا وعجز العرب عن تحقيق مشروعهم. الروائي معلوف لم يذكر الانتداب الفرنسي لسورية ولموطنه لبنان ودستور لبنان الطائفي له حتى صـ438 سنة 1939. تحدث بإسهاب عن أبناء وأحفاد جده بطرس وعن هجرتهم إلى الولايات المتحدة وكوبا وأمريكا الجنوبية، وتجاهل الحرب الطائفية القذرة في لبنان عام 1975- 1990، ولا الوجود الفلسطيني فيه حرب 1948 ونشوء دولة إسرائل، ولا مجزرة صبرا وشاتيلا…أدرك أنني قرأت ودرست رواية ” بدايات” وليس كتاب تأريخ وسياسة. لكنني أعترف أن ” بدايات ” من أهم وأجمل رواية قرأتها حتى الآن، وأغنى مشروع تتبناه رواية لوطن يخسًر أبناءه بالموت قهراً وبالهجرة قسراً، وتفتت أبناء شجرة عائلة معيوف على مساحة الكرة الأرضية… وأختم ما أقول: الروائي المبدع أمين معلوف لم يتبرأ، ولم يخن جده بطرس وبطل” بدايات “: كان جدي بطرس متمرداً، وفي أطلال تمرده أبحث عن أصولي، وفي تمرده، أجد نفسي، ومنه أتحدّد”