أماني الطويل
لن يتراجع البرهان عن الانقلاب إلا بشروط مؤثرة وأثمان باهظة يدفعها تحالف الحرية والتغيير. إذ تدور في الكواليس السياسية الدولية والإقليمية حالياً جهود كبيرة لمحاولة الخروج من مأزق الانقلاب العسكري في السودان وتداعياته السلبية، هذه الجهود تقودها الولايات المتحدة بشكل أساسي والاتحاد الأوروبي ودول الترويكا السويد والنرويج وفنلندا بشكل فرعي.
فما ملامح هذه المجهودات، وما أدواتها، وهل يمكن بالفعل أن تبلور منصة مناسبة لحوار سياسي سوداني داخلي، يجعل المدنيين، وعلى رأسهم حمدوك، في صدارة المشهد السياسي في المرحلة المقبلة، أم ينجح البرهان في فرض شروطه في تكوين حكومة جديدة يتربع على قمتها اسم موال للمكون العسكري وسهل القياد؟
لقاء فيلتمان: هل باركت أميركا الانقلاب؟
وبطبيعة الحال يُسهم في نجاح دور الولايات المتحدة من عدمه، طبيعة دور المبعوث الخاص للولايات المتحدة في تهدئة الأوضاع قبيل الانقلاب وهل قدم ضوءاً أخضر غير مباشر للبرهان كي يقوم بانقلابه أم أن واشنطن بالفعل كانت مخلصة في دعم التحول الديمقراطي في السودان بشكل مبدئي؟
في تقديري، أن فيلتمان أسهم بشكل ما في فتح الطريق أمام الفريق عبد الفتاح البرهان للسيطرة الكاملة على السلطة، وربما يكون قد أعطى ضوءاً أخضر بشكل ما للقيام بالانقلاب، وهو أمر سوف يُسهم في صلابة ما، من جانب الفريق البرهان إزاء الجانب الأميركي، ويعتمد هذا التقدير على، أولاً:
أن الولايات المتحدة بالضرورة لم تكن مرتاحة لاتساع مساحة ووزن اليسار السوداني، خصوصاً أنها قد امتلكت الإشارات المطلوبة لبلورة هذا الموقف، حيث إن تصريحات ياسر عرمان مستشار رئيس الوزراء في المؤتمر الصحافي الأخير للحرية والتغيير في مسألة توسيع المشاركة السياسية، كانت تشير إلى أن هذه التوسعة لن تكون مقبولة إلا من ماعون الحزب الشيوعي كشريك إضافي.
ويعتمد هذا التقدير ثانياً على وجود اتهامات لحكومة حمدوك في سياقات الحرية والتغيير أنها تعتمد منهجياً على المقاربات الرأسمالية، التي تزيد من فقر السودانيين ولا تأخذ في الاعتبار تجارب التنمية المستقلة حول العالم، وذلك عبر اتخاذها أجندة البنك وصندوق النقد الدوليين في تحرير سعر الصرف وإلغاء الدعم، خريطة طريق للقرار السوداني الداخلي على الصعيد الاقتصادي.
وربما تذهب تقديرات المواقف الأميركية إلى أن المكون المدني السوداني باتجاهاته الحالية عنصر تهديد للمخططات الأميركية إزاء السودان في أن تكون منصة انطلاق أميركية لمقاومة الوجود والنفوذين الصيني والروسي في أفريقيا، خصوصاً في ضوء مساحة الإلهام التي توفرها مقاربة الحزب الشيوعي الصيني حالياً لدول العالم الثالث والقائمة على نجاحه الاقتصادي لدرجة منافسته الجادة للولايات المتحدة وصورة الحلم الأميركي التي تآكلت كثيراً، ويضاف إلى ذلك التعاطف التاريخي بين الشيوعيين حول العالم وروسيا.
في هذا السياق يكون تنفيذ انقلاب ولو مرحلي على السلطة المدنية، يتيح خلط الأوراق، وبلورة صياغات جديدة للمشهد السياسي السوداني يضمن إزاحة عناصر ووجوه بعينها، خصوصاً أن تكوين المجلس التشريعي للمرحلة الانتقالية تشكل فيه الحرية والتغيير 67 في المئة من عضوية المجلس طبقاً لمنطوق الوثيقة الدستورية، وهو ما يجعل اتجاهات الدولة السودانية في المستقبل خطراً على المصالح الأميركية والغربية بشكل عام .
الأدوات الأميركية لهندسة منصة جديدة لتشكيل المعادلة السياسية السودانية تكون موالية تعتمد على الضغوط الاقتصادية بشكل أساسي من وقف للمساعدات، وتلويح بعقوبات اقتصادية، وهي أدوات تملكها الإدارة الأميركية، والمؤسسات الدولية التابعة لها مثل صندوق النقد والبنك الدوليين، كما تدعمها أوروبا على المستويين السياسي والدبلوماسي في جهود تقودها بريطانيا، نجحت في أن تصدر عن مجلس الأمن بياناً يعرب عن قلقه فقط بشأن الانقلاب السوداني، وذلك بعد مقاومة روسية فعالة لإدانة الانقلاب.
أما الدور المصري، فسوف يجري بلورته في السياق العربي العام الذي قد يتخذ من الجامعة العربية، أو يتم بلورة منصة جديدة متعددة الأطراف كآلية دول جوار ليبيا على سبيل المثال، ولعل التفضيلات المصرية ألا تكون منفردة مرتبطة بمصالحها الاستراتيجية مع السودان، باعتباره دولة جوار مباشر وهي مرتبطة أيضاً بحساسيات سودانية تاريخية إزاء مصر لعب فيها الدور الاستعماري والمخابراتي الغربي والإثيوبي دوراً مركزياً.
ملامح الصفقة: هل يقبل حمدوك؟
في المقابل، فإن التراجع عن الانقلاب خطوة كبيرة لن يوافق الفريق البرهان عليها إلا بشروط مؤثرة وأثمان باهظة على تحالف الحرية والتغيير، وذلك بعد أن تحولت المعركة السياسية معه إلى تراشق لفظي، وتمت شخصنة الصراع السياسي لدرجة مطالبة المكون العسكري بتنحية أسماء بعينها من المجلس السيادي.
ملامح الصفقة الأساسية التي يتم بلورتها حالياً قد تتضمن عودة حمدوك إلى مقعده كرئيس لوزراء السودان، لكن ليس بالضرورة مع نفس الحكومة، وهو مطلب سوف يصر عليه المكون العسكري حتى يجري القيام بالترضية اللازمة لوزن المؤسسة العسكرية، في وقت يكون تحقق للمجتمع الدولي قيمة رمزية في عودة رئيس الوزراء، وبطبيعة الحال سيحسم ذلك قرار حمدوك نفسه.
وفي تقديرنا أن حمدوك لن يمانع في هذا الحل، في ضوء أمرين أن تحالف الحرية والتغيير قد كبل رئيس الوزراء فعلاً أثناء عمله التنفيذي، وهو أمر قد شهدت عليه شخصياً، الأمر الثاني أن عودة الوثيقة الدستورية كمحدد حاكم بين المكونين المدني والعسكري سيكون أهم مطالب حمدوك، بالتالي يحقق مصداقية موقفه بشأن التمسك بآليات الانتقال.
هذا السيناريو قد يكون ضعيفاً لو رفض حمدوك المنصب، تأسيساً على تجربته المرهقة، وطبيعة انقسامات تحالف الحرية والتغيير التي عرقلت عمله، وأيضاً قد يتمسك البرهان بطرح اسم جديد تأكيداً لسطوته، خصوصاً أن وجود حمدوك غير مريح للمكون العسكري رغم ثناء البرهان عليه، وذلك لأسباب مرتبطة بمدى الإسناد الدولي والدعم له، وأيضاً قدرة الرجل على توظيف هذا الدعم لصالح التحول الديمقراطي.
المسألة الثانية التي سوف تشهد تضاغطاً في إطار الصفقة المأمولة، هي موعد تسليم رئاسة المكون العسكري لرئاسة المجلس السيادي للمكون المدني، إذ أسهمت اتفاقية جوبا في حدوث بلبلة حول موعد هذا التسليم بعد أن امتد أمد الفترة الانتقالية.
لا استغناء عن المكون العسكري
وفي ظني، أنه سيتم إما الانصياع للمكون العسكري في تقديره للموعد أو سيتم اختيار تاريخ بين الاثنين أي بين نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل أو يونيو (حزيران) 2022، خصوصاً أن محمد ناجي الأصم القيادي في الحرية والتغيير والمعتقل حالياً قد لوح بأن هذه المسألة تقبل فتاوى قانونية فيها، وذلك في آخر مؤتمر صحافي انعقد للحرية والتغيير قبل الانقلاب بيومين.
بطبيعة الحال سوف يلعب العصيان المدني والمظاهرات والمواكب الجماهيرية السودانية دوراً كبيراً في بلورة رتوش الصفقة ومدى قدرة أي من المكونين العسكري والمدني على اكتساب أوزان إزاء بعضهما البعض، وذلك طبقاً لمدى قوتها وتأثيرها، وذلك تحت مظلة دعم دولي لشخص حمدوك ودعم إقليمي للبرهان.
سيكون من أهم شروط صناعة الصفقة الأميركية تلبية المكون العسكري لطلب الرئيس بايدن بالإفراج عن المعتقلين السياسيين من وزراء الحكومة ومستشاري رئيس الوزراء.
وفي تقديرنا من غير المتوقع أن يُستغنى عن المكون العسكري بالكلية، بحيث يتم تسلم المدنيين كامل السلطة السياسية في المرحلة الراهنة، وذلك نظراً لطبيعة وجود الحركات المسلحة بكامل عتادها العسكري في الخرطوم، وهي الحركات التي لديها أجندة إثنية عرقية، قائمة على مظالم تاريخية، تم التعبير عنها أكثر من مرة، ويثير وجودها بهذا الشكل مخاوف السودانيين من أصول عربية، ويجعل دعمها لمؤسسة القوات المسلحة السودانية كبيراً.
إجمالاً تخوض السودان أوقاتاً صعبة وتوازنات حرجة، تجعل مستقبل مؤسسة الدولة السودانية شبه غامض.
المصدر: اندبندنت عربية