استوقفني منذ أيام خبر عن فضيحة جنسية من العيار الثقيل لما يقارب 700 كاهن في ولاية الينوي الامريكية وجهت لهم المدعية العامة اتهامات بالتحرش الجنسي والاغتصاب للأطفال الذين يدرسون على أيديهم.. ولدى بحثي عن القضية تبين لي أن المسألة ليست مجرد حدث عابر أو سقطة أخلاقية – والعدد وحده كاف للدلالة على ذلك – وإنما تشكل ظاهرة عميقة في تاريخ الكنيسة الحديث تنتشر في العديد من الدول ، وقد كُتب عنها الكثير ورفعت العديد من القضايا على المرتكبين في العقود الأخيرة وتم انتاج العديد من الأفلام حولها لعل أشهرها فيلم ” سبوت لايت ” الذي تناول إصرار مجموعة صحفية على متابعة القضية ونشرها أمام الرأي العام رغم محاولات الكنيسة وبعض الجهات الحكومية والقانونية التكتم على القضية ومنع تداولها في وسائل الاعلام .. كما تبين لي وجود الكثير من القصص حول علاقات جنسية محرمة بين الكهنة ” الممنوعين من الزواج تبتلا ” وعشيقات أو زوجات أقاموا معهن علاقات في السر بعيدا عن أعين الكنيسة..
ذكرتني هذه الفضيحة بحوار جرى بيني وبين شاب مسيحي متدين على وسائل التواصل منذ سنوات كان يفتخر بأن رجال الدين المسيحي يُعرضون عن متع الدنيا ويرفضون الانغماس بلذاتها كي يتفرغوا للعبادة ونشر المحبة بين الناس.. وحاولت حينها أن أبين له أن هذا السلوك ربما ينجح في بعض الحالات الفردية الاستثنائية وضمن ظروف خاصة ولأفراد محدودين، لكن من غير الممكن أن يشكل منهجا وتلتزم به شريحة كبيرة دون أن يخلف لدى أفرادها عقدا نفسية وأمراضا داخلية تنتج شخصيات غير سوية، أو يدفعهم نحو علاقات جنسية في السر بعيدا عن عيون الناس والاعلام كونه يخالف الحاجات البيولوجية والنفسية للإنسان السوي.. وكثيرا ما حاورت رجال دين مسلمين حول ضرورة الابتعاد عن التشدد والتنطع في الاحكام المتعلقة بالحاجات الفطرية للبشر وأهمية الأخذ بالرأي الأكثر مرونة في مثل هذه المسائل خوفا من ردات الفعل العكسية والتي قد تأخذ صاحبها إلى الضفة الأخرى البعيدة وأحيانا المناقضة للضفة التي يقف عندها الآن..
إن من بديهيات العقل والمنطق أن اغلاق القنوات السليمة لتمرير الاحتياجات الضرورية وتلبية الرغبات الفطرية للإنسان سيدفعه للبحث عن قنوات أخرى ومنافذ جانبية للوصول إلى تحقيق تلك الاحتياجات استجابة لنداء الرغبة المحموم في داخله.. والمنع في مثل هذه الحالات هو بشكل أو بآخر دفع للوصول إلى ذات الهدف بطرق سرية بعيدا عن أعين الرقابة الاجتماعية الأمر الذي يجعل إمكانية الخطأ فيه أكبر والسقوط أكثر احتمالا.. إن إغلاق جميع الطرق أمام الوصول إلى حاجة فطرية لا غنى عنها سيدفع صاحبها إلى التفكير الدائم بها لدرجة الاستحواذ فتشغل معظم تفكيره دون أن يمتلك الشجاعة أو القدرة للحديث عنها تحت ضغط القانون الجائر الخاضع له، ويصبح لديه الاستعداد الداخلي للوصول اليها بأي وسيلة عند توفر الظروف المناسبة لذلك.. والحل الأمثل هو فتح قنوات شرعية مقبولة اجتماعيا لإنفاذ تلك الحاجات ووضع حدود لمنع التمادي فيها إلى درجة الاستغراق المرضي..
في السياسة.. فإن العنف المفرط والاستبداد المزمن والقمع المبالغ فيه دون مبررات معقولة والاستئثار الكامل بالقرار دون هامش مناسب لحرية الرأي والتعبير سينتهي دون شك بثورة تقلب الأوضاع رأسا على عقب..
في التربية.. عندما تحرم ولدك اليافع تماما من استخدام الانترنت أو مشاهدة التلفاز أو استخدام الهاتف الجوال تحت نظرك وبتوجيه لطيف منك – في هذا العصر المفتوح – فأنت تدفعه قسرا إلى استخدامها في الخفاء بشكل سلبي ولأهداف تافهة أو ضارة قد تنتهي بنتائج كارثية..
في علم النفس.. فإن الكبت المستمر وسجن الرغبات وتقييد المشاعر وحبس الغرائز داخل صناديق حديدية دون أن تترك لها منافذ تتنفس منها وتسرح من خلالها تحت الضوء سينتهي حتما إما الى الانحراف والوصول إليها في جنح الظلام بطرق محفوفة بالمخاطر، وإما إلى العقد النفسية والأمراض السلوكية المستعصية..
إن من الشروط المهمة لنجاح أي منهج يراد له أن يشكل النواة الثقافية لمجتمع ما والمرجعية الفكرية لأفراده هو إمكانية تطبيقه واسقاطه على أرض الواقع.. ولن يكتب له النجاح – مهما كانت بنيته متماسكة ومفرداته قوية ونصوصه مقدسة – ما لم يكن مرناً إلى الحد اللازم لتحويل نصوصه إلى ممارسات وتعاليمه إلى سلوكيات ومبادئه إلى تجارب واقعية ناجحة، وهذا يتطلب في الدرجة الأولى انسجامه مع حاجات الناس وفطرتهم وتطلعاتهم وقدراتهم …
إن واحدا من أهم مكامن القوة وأسباب الاستمرار والانتشار السريع للدين الإسلامي وصعوبة القضاء عليه رغم الإمكانات الهائلة المبذولة من أجل ذلك ورغم حالة الضعف الشديدة والمزمنة للمدافعين عنه، هو قدرته على المزاوجة بين النظرية والتطبيق.. بين العقل والقلب.. بين متطلبات الجسد والروح.. بين الحب والعفاف.. بين الرغبة وطرق انفاذها.. بين قيام الليل تبتلا وسعي النهار تكسبا.. بين الدنيا كدار بناء والاخرة كدار بقاء..
هناك ميزتين بنيويتين تجعلا من الإسلام رقما صعبا وتحديا كبيرا معجزا لأعدائه ومبهرا للمؤمنين به.. الأولى أن الأخلاق والقيم الإنسانية – والتي تشكل حاجة لا غنى عنها لكل المجتمعات البشرية وسياجا لحمايتها من التوحش – هي جوهر هذا الدين والقاعدة التي يستند اليها بناؤه والهيكل الذي ترتكز عليه باقي مكوناته، فلا دين بلا أخلاق ومبادئ تجري في عروق معتنقيه.. الأمر الذي يجعل فصله عن المجتمع المؤمن به شبه مستحيل.. لأن المجتمع الذي تنزع منه قيم التراحم والعدالة والتكافل والتعاون وغيرها من القيم الإنسانية يتحول تدريجيا إلى غابة مرعبة وموحشة لا يمكن العيش فيها.. الثانية أنه نجح منذ البداية – بسبب خصائصه الذاتية – في بناء جسر حقيقي بين النص والواقع جعلته جزء لا يتجزأ منه وحاجة لا غنى عنها لاستمراره وتطوره.. ففيه من المرونة والشمول ما يجعله قادرا على التماهي مع مفردات الواقع والتمازج مع مكوناته والتغلغل في بنية المجتمع البشري كجزء من نسيجه وعنصر من عناصره في حالة تجانس وانسجام دون فرض أو اقحام .. الإسلام – الأخلاقي كما نفهمه – هو حاجة إنسانية واجتماعية وفطرية في المجتمع الذي يعتنقه قبل أن يكون قانونا يقيد حركة المجتمع ويفرض نفسه على مكوناته.. إنه نور يتسلل من أعماق المجتمع وليس ظلاما يخيم عليه.. ومن هنا يصعب عل أي قوة انتزاعه من القلوب والنفوس والعقول حتى لو نجحت مرحليا في انتزاع مؤسساته ومحاصرتها والتضييق عليها..
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تعرض مسلمو البانيا إلى اضطهاد شديد تمثل بإغلاق مساجدهم وحظر أي ممارسة دينية وتجريم العبادات حتى داخل المنازل في جو من الإرهاب الجماعي الممارس من قبل الدولة.. وكانت حملات التفتيش المرعب تباغت البيوت بحثا عن أي مظاهر إسلامية تحت طائلة العقوبات الوحشية لمن يثبت تورطه باقتناء كتاب ديني أو سجادة صلاة أو أي ملمح يدل على ميول دينية.. وكانت وسائل التعذيب ووحشية العقوبات كافية لإعطاء المبرر الأخلاقي الكامل للمسلمين هناك للتخلي عن دينهم لو كان الدين عندهم مجرد فلكلور جماعي أو تقليد اجتماعي متوارث كما يعتقد البعض، لكن التاريخ يسجل أن الكثير من المسلمين هناك علقوا المصاحف على الاعمدة والجدران ثم قاموا بتغطيتها بالإسمنت كأنها طبقة من الجدار حتى يتمكن أولادهم يوما من استخراجها إن تغيرت الظروف السياسية وهذا ما حصل فعلا.. وقد تعرضت معظم المناطق الإسلامية زمن المد الشيوعي إلى إرهاب منظم واضطهاد وحشي في محاولة لطمس الدين واقتلاع جذوره تماما خاصة في المناطق المحيطة بروسيا الحالية مثل تركمانستان واوزبكستان وأوكرانيا وغيرها ومورست في سبيل ذلك أسوأ الجرائم وأشد أساليب التعذيب والاستبداد والتخويف والتهجير.. كان الآباء حينها يأخذون أبناءهم إلى الجبال ويجلسون لأيام في الكهوف ليعلموهم القرآن وبعض تعاليم الإسلام، وكان بعضهم ينتظر آخر الليل فينزل بأطفاله إلى قبو البيت ويعلمهم ما تيسر من القرآن على ضوء شمعة.. يحكي أحد المسلمين هناك كيف علمته أمه أن يصلي بحواجبه وخياله فكان يفعل ذلك في صفه فينظر إلى السبورة وكأنه يتابع ما كتب عليها لكنه في الواقع يصلي متصورا بذهنه حركات الركوع والسجود ويحرك حواجبه تبعا لذلك.. إن الدين الذي دفعه الناس إلى رفض الخضوع أمام آلة اجرام واستبداد وطغيان وتوحش لا نظير لها والالتفاف عليها بوسائل إبداعية ليس مجرد نظرية في الحكم والتربية.. إنه روح المجتمع الذي يعطيه الحياة ورئته التي تهبه الاكسجين وقلبه الذي يضخ الدم في عروقه.. إنه ليس جسما غريبا فرضته الظروف على تلك المجتمعات وإنما نور تسلل إلى قلوبهم ونسمة أنعشت أرواحهم ولا يمكن بحال اقتلاعه من القلوب والنفوس والعقول.. ولعل الدليل الاوضح على ذلك عودة الانتشار السريع للإسلام في تلك المجتمعات بمجرد تخفيف القبضة الحديدية الوحشية عليها وإعطاء شعوبها بعضا من حرية الاختيار والاعتقاد.. وما حصل في تركيا بل وفي بعض الدول العربية يشبه إلى حد ما المثال المذكور..
ليس الدافع لكتابة هذه السطور إجراء مقارنة أو مفاضلة بين الأديان، ولكن الهدف من المقالة هو توجيه رسالة مزدوجة إلى جهتين متناقضتين.. الأولى موجهة لأعداء الإسلام في الداخل وأسيادهم في الغرب الصليبي – وأنا هنا أتكلم عن السياسات وليس عن المجتمعات والأفراد – بأن كل خططكم ومؤامراتكم – على اعترافنا بدقتها وعمقها واتقانها – لن تنجح في ضرب قواعد هذا الدين لأن جذور قواعده ترتكز في قلوب ووجدان وعقول معتنقيه ولأن مبادئه تنسجم مع فطرة البشر وتلبي احتياجات الناس بتوازن عجيب يحفظ مجتمعاتها من التميع إلى درجة الفلتان أو التضييق إلى درجة الاختناق .. والثانية موجهة للمتنطعين المتشددين الذين يريدون أن يجعلوا من فهمهم السقيم للدين سوطا يجلدون به ظهور الناس ويقمعون من خلاله أفكارهم وآراءهم ويحدون به من حرياتهم الشخصية.. على هؤلاء أن يدركوا أن قوة الدين تكمن في قدرته على النفاذ إلى أعماق معتنقيه والتماهي مع احتياجاتهم والانسجام مع فطرتهم ..الدين ليس قيدا وإنما مطرقة لكسر القيود ..أما أن يستخدمه البعض كسيف مسلط على رقاب الناس يسجن من خلاله أفكارهم ويقيد حركتهم ويفرض عليهم قوانين – من وحي فهمه السقيم لنصوصه – تتنافى مع فطرتهم واحتياجاتهم وقدراتهم فسيتحول الدين عندها إلى جسم غريب عن مجتمعهم يتحينون الفرصة للتملص منه والهروب من أسره كما فعل الكهنة ، بدل أن يحفظوه في قلوبهم وعقولهم وعلى جدران بيوتهم وفي مخيلة أبنائهم كما فعل مسلمو البانيا وأوكرانيا وتركمانستان وتركيا ….
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون ”
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر.. وأصلي وأرقد.. وأتزوج النساء.. فمن رغب عن سنتي فليس مني “.