راغب جابر
لماذا يصر اللبنانيون والعرب والعالم أجمع على التمسك بلبنان بصيغته الراهنة التي باتت أشبه بثوب بالٍ لم يعد ينفع معه لا رتق ولا ترقيع؟ ألم يقتنعوا بعد بأن هذه الصيغة صارت خارج العلم والمنطق وخارج مسار العصر وبأن إصلاحها صار ضرباً من المستحيل وأن المستقبل لا يصنع بأفكار الماضي ولا بعقول مقفلة على مسلّمات وقناعات غير خاضعة للنقاش؟
قام لبنان على نظام طائفي منذ إعلانه دولة بحدود معترف بها عام 1920 على أيدي المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، وهو كان كذلك عندما كان متصرفية في جبل لبنان تحت الحكم العثماني، ومنذ مئة وخمسين عاماً وأكثر وهو يتخبط ويرجع القهقرى الى أن بات على حافة التلاشي كدولة بعدما زالت كل مقوماتها إلا بعض المؤسسات الدستورية الشكلية المشلولة والعاجزة.
يكاد هذا البلد المنقسم طائفياً – ولنقل الأمور كما هي لا كما تجمل وتزيف على المنابر وفي المهرجانات ووراء الميكروفونات وعلى الشاشات وحتى في الأعراس وحفلات أعياد ميلاد الصغار والكبار – لا يقف من حرب طائفية – هوياتية حتى يقع في أخرى ارتباطاً بمخاوف وعصبيات داخلية وبأزمات وصراعات إقليمية ودولية أحياناً. وفي كل مرة يكون الحل من داخل هذا النظام الطائفي فلا يطاول بنيته المعطوبة أصلاً ولا يدخل في الصميم فتبقى القنبلة جاهزة للتفجير عند أي هزة.
جرّب اللبنانيون صيغة لا غالب ولا مغلوب بعد حرب 1958 التي كانت حرباً بين محورين غربي وعروبي بلبوس طائفي لبناني بين مسيحي ومسلم، لكنها لم تعمر طويلاً لتنفجر عام 1975 تحت عناوين متعددة مرتبطة بالقضية الفلسطينية والوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الداخلي لتتحول حرباً طائفية مدمرة تداخلت فيها كل أشكال العنف والتذابح والتهجير والتدمير التي ذهب ضحيتها مئات آلاف اللبنانيين بين قتيل وجريح ومعوق ومهجر ومهاجر. وإلامَ انتهت؟ انتهت الى اتفاق الطائف عام 1989 برعاية سعودية ومظلة أميركية ورضا سوري وتحديث الدستور بما أرضى المسلمين وأغضب بعض المسيحيين وانتزع موافقة البعض الآخر ولو من دون قناعة تامة لأن الواقع الميداني فرض نفسه.
لم يطبق اتفاق الطائف بكليته، استخدمته الطبقة السياسية بالمفرق، فتمسكت كل طائفة بما يناسبها منه. ولما كانت الطوائف تتفق، فإنما على نتف ريشه وخرقه كما كان يحصل في الانتخابات مثلاً. لم تتفق أبداً على بند إلغاء الطائفية السياسية وعلى بند الكفاءة واللامركزية وغيرها. كان ميزان القوى على الأرض هو الفيصل في إدارة الاتفاق وشؤون البلد. أدى ذلك الى حركة شبابية في الشارع المسيحي اعتراضاً على الوجود السوري وعلى النظام الأمني اللبناني السوري رافقتها توقيفات وتظاهرات وتظاهرات مضادة. وهنا أيضاً تحركت العصبيات الطائفية من جديد منذرة بفصل جديد من النزاعات الى أن حدث الانفجار الكبير.
قتل رفيق الحريري في شباط (فبراير) 2005. وتبعته اغتيالات بقي مرتكبها مجهولاً. تشظى البلد. دخل الصراع منعطفاً جديداً. صار مذهبياً بين السنّة والشيعة. السنّة الذين يريدون الثأر لرفيق الحريري متهمين سوريا بقتله والشيعة الذين يتحالف حزباهم الكبيران “أمل” و”حزب الله” مع سوريا. صار المسيحيون خارج الصراع التقليدي الثنائي فالتحق، سياسياً، قسم منهم بالشيعة وقسم بالسنّة، وهؤلاء، أي الشيعة والسنّة، ملتحقون بإيران وسوريا أو بالسعودية ومحورها.
وهكذا بات المسيحيون إما مع محور الممانعة بمبررات تحالف الأقليات (ميشال عون) وإما مع السعودية بمبررات “العروبة” ومصلحة لبنان ومعارضة ما سموه “دويلة حزب الله” (سمير جعجع وقوى 14 آذار).
هذه الصورة ازدادت قتامة بعد 7 أيار (مايو) 2008 ثم مع الحرب السورية ودخول “حزب الله” طرفاً فيها بمبررات بدأت بحماية أهالي القرى السورية المحاذية للحدود اللبنانية في البقاع الشمالي وعدد كبير منهم لبنانيون، ثم تطورت الى حماية المراقد الشيعية في دمشق ثم الى التصدي لتنظيم “داعش” الإرهابي وأمثاله ثم الى تمكين محور الممانعة. ضرب الإرهاب في لبنان، في الضاحية الجنوبية وفي عرسال وفي طرابلس والمنية وغيرها من المناطق اللبنانية مؤججاً التوترات المذهبية بشكل خاص.
مخاض عسير مرّ به لبنان على حد السيف طوال العشر سنوات الماضية، ولولا ما تبقى من حكمة لدى بعض القيادات والرعب من أهوال جديدة لذهب البلد في داهية.
لكن البلد لا يزال على كف عفريت. كل ملف من ملفاته الحارقة كفيل بإشعال حرب. الشهر الماضي كاد الخلاف على التحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت يشعل حرباً – شكراً لمن منعوها – عاد الانقسام مسيحياً إسلامياً (شيعيّاً). يبدو السنّة خارج منطق القوة العسكرية كجماعة. عصبهم الحريري ليس مشدوداً كفاية، لكن في لبنان كل شيء متوقع. هل نتذكر أغنية الرحابنة في مسرحية المحطة “بهالبلد كل شي بصير”.
هذا العرض هو للوصول الى نتيجة: سبعون سنة واللبنانيون يجربون هذا النظام الطائفي وهو يدمر البلد ويمزقه ويقتل مستقبله ويضعف مناعته، أما آن الأوان للتفكير بشكل مختلف، أما وصل الجميع الى قناعة بأن لا حياة ولا أمان ولا رخاء لأحد في لظى الطائفية المتظللة أوهاماً وتهويمات. لبنان أقوى بلا طائفية. أقوى بنظام المواطنة الحقة والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. وعندما يكون كذلك يكون أقوى في كل شيء.
جربوا شيئاً آخر وأشخاصاً آخرين.
المصدر: النهار العربي