راغدة درغام
لن يتراجع طاقم إدارة بايدن عن هرولته الى إبرام صفقة الاتفاقية النووية مع إيران JCPOA ورفع العقوبات المالية والنفطية عن طهران، ولن يقرّ بأن هوس الرئيس جو بايدن وحاجته الى احياء اتفاقية JCPOA ساهما في تشديد قبضة “الحرس الثوري” الإيراني في سوريا والعراق ولبنان كما في عناد طهران في محادثاتها مع السعودية ضد تسهيل إنهاء حرب اليمن. رجال بايدن المعنيون بملف إيران يتصرفون بدفاعية defensive ازاء أي إشارة الى ترابط المفاوضات النووية بالسلوك الإقليمي الإيراني الخطير ويدفنون رؤوسهم في الرمال خوفاً من تأثير الإقرار الإقليمي في المفاوضات النووية في فيينا. طهران تُبرِع في الاستفادة من قرار تغييب محاسبتها من قِبَل الغرب في الوقت الذي تعمّق فيه تحالفها مع الشرق. انها أيضاً واثقة بأن تداعيات المواقف العربية ازاء محطّات نفوذها ستكون لمصلحتها ومصلحة شركائها المحليين. ففي محطة لبنان، مثلاً، يحتفي “حزب الله” و”الحرس الثوري” الإيراني بما يعتبرانه إنجازاً كان سهل المنال تمثّل في استفزازٍ مدروس للدول الخليجية العربية كي ينفد صبرها وتغضب وتغادر لبنان، وهكذا تم إخراج لبنان من الحضن العرَبي ليقع في حضن إيران. ولكن، هذا ليس بالضرورة سوى فوزٍ بمعركة وليس انتصاراً في الحرب. فإذا أحسنت الدول العربية قراءة الخطوات التي رسمتها لها طهران لتوريطها في سياسات وايقاعها في الفخ، في وسع الدول الخليجية ومصر وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي أن تأخذ زمام المبادرة والانقلاب على رهان طهران وأذرعها. هذا يتطلّب وضوحاً في الرؤية والسياسة vision and policy وتماسكاً في وجه الاستفزاز. فالمقاطعة ليست سياسة policy. والهبوط الى مستوى رجال الفساد والعناد في لبنان، ليس حكيماً ولا هو بمستوى القيادة. وهناك أكثر من وسيلة لاتّباع نهج أعلى أخلاقياً من فخ التوريط في مواقفٍ يدفع ثمنها ضحايا العجرفة والفساد والتسلّط بالسلاح.
غضب الدول الخليجية من تمادي “حزب الله” في التدخل العسكري في شؤونها الداخلية في محلِّه، ولها الحق في اتخاذ الإجراءات الثنائية نحوه. لديها عنوان وليّ قراراته وهو يعترف به علناً، والعنوان هو طهران وليس لبنان. لدى هذه الدول أيضاً كامل المعرفة بأن إدارة بايدن والحكومات الأوروبية مسؤولة بقدرٍ كبير عن تمادي إيران و”حزب الله” في لبنان لأن كلاهما واثق من اللامحاسبة في زمن أولوية JCPOA القاطعة.
لا يهم طهران ولا “حزب الله” أن تكون استراليا الدولة رقم 13 التي تصنّف “حزب الله” بشقّيه السياسي والعسكري “إرهابياً”. فالغابة لديهما أكثر أهمية من الشجرة، وهما يتباهيان بأن فكرهما استراتيجي وليس تكتيكياً.
تحويل لبنان الى الحضن الإيراني يشكّل قراراً استراتيجياً لدى “الحرس الثوري” الإيراني الواثق بإخضاع الحكومات الأوروبية وإدارة بايدن للأولوية النووية لدرجة التملّص الفاضح لهذه الدول من لبنان بكل ما يحدث فيه من سقوط تحت الهيمنة الإيرانية وتفكيك للدولة ومؤسساتها وتهجير وتجويع وانهيار.
لبنان دولة مؤسِّسة في جامعة الدول العربية، شعبه عربي وليس فارسياً، لغته عربية، ومكوناته الاجتماعية بعيدة كل البعد عن عقائد الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتقاليدها ، دستوره ديموقراطي، جيشه وطني، أهله أهل الحداثة والحضارة. صحيح أن الزمرَة المتحكِّمة بالبلد زمرَة فساد بامتياز، إنما الصحيح أيضاً هو أن الخوف من حربٍ أهلية أخرى هو الذي يجرِّد اللبنانيين من الشجاعة والإقدام والإصرار على مواجهة سلاح “حزب الله” أو فساد “الكارتيل” الحاكم بكل جشع ووقاحة بلا ضمير ولا خوفٍ من الله.
أثناء انعقاد “حوار المنامة” في البحرين، سادت لغة اعتبار مشكلة لبنان “أزمة داخلية” domestic وكأن لا علاقة لإيران بـ”حزب الله” وتسليحه ولا بإصراره على قبع القاضي طارق البيطار، قاضي التحقيق بانفجار مرفأ العاصمة اللبنانية بيروت في 4 آب(أغسطس) 2020. واقع الأمر هو أن كل قرارٍ استراتيجي أو قرار مهم تكتيكياً يتخذه “حزب الله” هو قرار إيراني بامتياز يلقى ختم “الحرس الثوري” بالموافقة. لذلك، ان العنوان هو إيران، ومشكلة لبنان ليست داخلية بالرغم من تفشي الفساد وبالرغم من مسؤولية الحكومة اللبنانية عما يحدث من رئيس الجمهورية ميشال عون، الى رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، الى رئيس البرلمان نبيه بري، الى كامل الطاقم السياسي ورؤساء الأحزاب الى حسن نصرالله الحاكم الفعلي في لبنان.
فما العمل؟
في وسع إدارة بايدن والحكومات الأوروبية أن تكّف عن المواربة في مسألة العقوبات على أقطاب الحكم. العقوبات الأخيرة التي أعلنتها الولايات المتحدة هي عقوبات اشتغلت عليها إدارة ترامب مع وزارة الخزانة الأميركية وورثتها إدارة بايدن. بالطبع، إدارة بايدن لم تتراجع عن فرض هذه العقوبات على جميل السيد، وجهاد العرب، وداني خوري بسبب ما وصفته بأنه فساد على نطاق واسع “قوّض حكم القانون في لبنان”. لكن في وسع إدارة بايدن أن تتقدم بقائمة أخرى من الفاسدين- ويا لكثرتهم- لتثبت جدّيتها في هذا المسعى.
بين أهم ما يجب على إدارة بايدن القيام به هو الضغط والتنسيق مع الدول الأوروبية كي تتبنّى فرض العقوبات على الشخصيات اللبنانية التي تدمّر البلاد وتنهك النسيج الاجتماعي وتزرع بذور الإرهاب. أولى الدول التي يجب جرّها الى التعاون في المحاسبة وفرض العقوبات هي سويسرا التي تملك المعلومات حول رجال “الكارتيل” اللبناني وشركائهم في سابقة تاريخية هي سابقة انهيار لبنان. على فرنسا والمانيا وبريطانيا وايطاليا وبقية الدول الأوروبية عدم الاختباء وراء “الإجماع” الذي يمنع التوافق على فرض العقوبات. على هذه الدول أن تكفّ عن الازدواجية التي تقارب النفاق السياسي الرهيب وتؤدّي الى سلب الأوروبيين التظاهر بالحداثة والأخلاق وهم يتفرّجون على تمزيق بلد وشعبه بتعابير الشفقة. انهم لا يتدخّلون خوفاً على مصير مفاوضاتهم النووية مع إيران وارتياحاً الى عدم تدفّق اللاجئين اليهم بضمانات مريبة.
حسناً ستفعل واشنطن ودول أوروبية بإنشاء صندوق أممي لدعم رواتب عناصر الجيش اللبناني نقديّاً لتخفيف وطأة الانهيار الاقتصادي وللحفاظ على تماسك هذه المؤسّسة المهمة من مؤسسات الدولة اللبنانية. هذه خطوة ضرورية فائقة الأهمية يجب أن تتوسّع لتشمل عناصر الأمن في المؤسسات الأمنية الأخرى.
الدول الخليجية العربية، بالذات السعودية، لها دور مهم في هذا المسعى ومن الضروري لها أن تلتحق بالدول التي تقدّم الدعم للجيش اللبناني ودعم الرواتب نقدياً من خلال الصندوق الأممي. هكذا تتّخذ خطوة من خطوات الترفّع عن السقوط في هاوية إبعادها عن مشاركتها الأساسية والطبيعية في إنقاذ لبنان من ورطته المدويّة. فلا يجوز أن تبقى الدول العربية، لاسيّما الخليجية، مُبعَدة عن لبنان امّا نتيجة استفزازها أو بناءً على خطوات مدروسة مسبقاً سارت فيها هذه الدول بعدما طفح الكيل وثار غضبها. فالغضب ليس سياسة policy.
لا داعي لأن تكون استقالة أو عدم استقالة جورج قرداحي من منصب فارغ أصلاً هو منصب وزير الإعلام محط اهتمام. حان وقت إهمال الرجل. فلقد نال من الاهتمام أكثر مما يستحق ومن اللااحترام لمواقفه بقدر ما يستحق. فهو وضع عنجهيته فوق أرزاق الناس والتاريخ يتربّص به ليحكم على بؤس شخصيته. فلا داعي لإيداع أي قيمة لهذه العثرة، بل حان وقت الترفّع الكامل عن مستواها.
هناك أكثر من وسيلة لإعادة لبنان الى الحضن العربي ولعودة العناية العربية بلبنان. هناك صناديق للتنمية مثل صندوق الكويت وصندوق الملك سلمان التي في وسعها مدّ المعونات للبنانيين مباشرة وليس عبر الحكومة. الحاجة ماسّة لتسريع تفعيل هذه الصناديق بصورة طارئة كي يلمس الشعب اللبناني، بجميع طوائفه، حرص الدول العربية، لاسيّما الخليجية، على مصيره.
إيران تظاهرت بأن في أيديها وسائل المساعدة في أزمات مثل المازوت، فأثبتت ان قدراتها محدودة واستعراضية. في وسع الدول العربية الخليجية المساعدة الفعلية عبر التفكير “خارج الصندوق” لتصل المساعدات المعيشية للناس كي لا يأخذ بهم الانهيار التام الى العنف والكراهية والانفصال عن بيئتهم العربية اضطراراً أو انتقاماً أو قهراً.
رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يتملّصان من مسؤولية إقالة قرداحي ومن مسؤولية عبث “الثنائي الشيعي” بالقضاء والتحقيق في تفجير مرفأ بيروت، وهذا يلاقي الاشمئزاز والانتقاد والتشكيك من أطراف عدّة، محليّة وإقليمية ودولية بما آلت اليه الأوضاع في لبنان. وزير الخارجية اللبنانية توجه الى موسكو طالباً تدخّلها لإقناع الدول الخليجية بالرجوع عن المقاطعة. أقطاب إدارة بايدن يطلبون من القادة الخليجيين المعنيين العودة الى الاهتمام بلبنان قبل فوات الأوان.
المصلحة الخليجية واللبنانية المتبادلة تقتضي وضع استراتيجية خليجية عاجلة ذات محطات وخطوات وبرامج زمنية مدروسة للإسراع في إحياء عروبة لبنان وانتشاله من أحضان إيران ومن الانهيار التام. هناك الأمور البديهية مثل دعم رواتب عناصر الجيش والأمن ضمن البرنامج الأممي. وهناك صناديق التنمية القابلة للتفعيل الفوري. وهناك المناشدة الدولية واللبنانية لانهاء المقاطعة التي حان وقتها. وهناك الحكمة في منع اضمحلال بلد عربي. وهناك معاناة حقيقية وبؤس جدّي وفقر لم يسبق له مثيل في بلد مثل لبنان الذي لطالما كان “رئة العرب”، كما وصفه الملك فيصل بن عبدالعزيز.
ثم هناك الحكمة الاستراتيجية التي لا تسير في خطى رُسِمَت للدول الخليجية العربية لإقصائها عن لبنان.
المصدر: النهار العربي