أحمد جاسم الحسين
من الطبيعي، إذا التقيتَ دبلوماسياً أوروبياً، أن يدور الحوار حول عدد كبير من القضايا، التي تخصُّ الربيع العربي ومآلاته غير المُرضية، ستكون هناك مفاتيح عامة للحوار من مثل: مفهوم الآخر، و”السلفية”، والعلمانية، والمعارضة، والبيئة الحاضنة، والأثر الدولي في الفشل، ربما سيكون من المستغرب أنْ يتحدث دبلوماسي أوروبّي “لا ديني”، عن سلفية المعارضات المحسوبة على “اليسار”، وكذلك عن سلفية المعارضات الدينية، ستحاولان معاً الوصول إلى مفهوم متقارب، للسلفية: البحث عن حلول للحاضر في الماضي!
سيحدِّثك ذلك الدبلوماسي، أنه بحكم عمله، قد التقى الكثير من وجوه المعارضات العربية، أو قرأ كتاباتهم، فوجد أن معظمهم لا يزال يعيش في الأوهام، وأنَّ أوهامهم لا تقلُّ خطورة على أنفسهم وبلدانهم عن “السلفيين” التقليديين، يقرأ الكثير من هؤلاء الواقع، بمنظار متجاوز للتاريخ وكدماته وتحولاته!
لن يكون من السهل عليك أنْ تسلِّم بالنتيجة التي وصل إليها “الخبير”، على الأقل من وجهة بحثيّة أكاديمية، بعيداً عن التجارب الشخصية المؤلمة التي خضتها مع كثيرين! سيتحدّثَ الرجل عن “الشللية” التي تضرب أطنابها في الكثير من تجمعاتهم، ولجانهم، ومراكزهم، والبعد العائلي، المسكوت عنه، في معظم أنشطتهم المعلنة والمخبَّأة!
سيشير بالأدلة إلى “سلفية المصلحة”، والهوبرة، والشوباش، والتنفيعات، سيقول لك: إنه تابعَ أنشطة الكثيرين منهم، ودعمت دولته بعضها، ووجد أن الكثير منها يعيد إنتاج جوهر الأنظمة، التي ثارت الشعوب ضد من ظلمها!
سيذكر أمثلة كثيرة على “الإلغاء” ضمن الموشور السوري، وأن عدداً كبيراً منهم لا يزال يحلم، بالعودة على ظهر “القرارات الدولية” ليحكم سوريا بمنظوره، ربما بمنظور أوروبي أو أميركي، لذلك يعاجِلُك الواحد منهم حين تلتقيه بالهجوم على الآخر، المختلف، وتسفيهه، ويندرُ أن تجد مُنصفاً بينهم- كما قال حرفياً- يتحدّث عن هذا الآخر بطريقة شيطانية، كأنه ليس شريكهم في الوطن، يريدون إعادة إنتاج “سوريَّاهم” بما يرونه هم، يستثمرون علاقاتهم الشخصية وجزءاً مهماً من اجتماعاتهم مع “الدبلوماسية الأوروبية” لتشويهه، وليس لاستثمار كل دقيقة في البحث عن سبل بناء لبلدهم، تقوم على الشراكة مع الآخر والاعتراف به، بعيداً عن التطرف الفكري والرؤيوي والإداري.
لا يزال الكثير منهم يحلم بمفهوم الدولة “العائم”، حيث سيكونون الطبقة التي تحكم مستقبلاً، وهي الخبيرة والقادرة، وستقدّم ما تنجزه على طبق من تنفيذ وتبعية، إلى أولئك الآخرين “المساكين” المحترقين على الأرض وفي خيامهم، لأن أولئك الأخيار دولياً، هم وحدهم الذين “يفهمون” في إدارة الدولة، والآخرون عليهم أن يسمعوا وينفّذوا!
يشربُ قهوته ويحدِّثك بأسى، عن جيل “أبناء ثقافة المنظمات المدنية” وكيف أنَّ الكثير منهم “ملكيون أكثر من الملك”، لا يتورعون عن الانتقاص من بناهم الاجتماعية، وتسفيهها، والتركيز على قضايا تفصيلية، ليس وقتها الآن، لاعتقادهم أن هذا المدخل الوحيد للتمويل، ويتابع: خطورة الكثير منهم لا تختلف عن خطورة أثرياء الحرب، ستعتاد هذه الطبقة على تحويل القضايا الأخلاقية إلى سلعة تعيش من خلالها، وترى أن مَواطَنَتها تبدأ بالاعتراف “الدولي” بها، وما دام هذا الاعتراف مُؤيَّداً بالتمويل، فإنها لم تعد تهتم بأسئلة مواطِنها.
سيناقشك مطولاً في حاجة سوريا إلى الجميع، وأن دولة المواطنة هي الحلُّ الأمثل، دولة الحقوق والواجبات، التي تحرص على الإفادة من مكوناتها ومنظوماتها، ولا تستثني أحداً من البناء، يدركُ أن الرحلة السورية شاقة من جهتين: محلياً وكيف سيقتنع السوريون أن الدولة شيء آخر غير الإيديولوجيا! ودولياً حيث اقتصاد المعرفة يسيطر عالمياً، وتركض البشرية خلفه، ويأسف لعدم وجود بنية تحتية له، أو ثقافة منتجة له في دول الصراعات، بل إن اقتصاد سوريا يتقهقر نحو مرحلة الاقتصاد الزراعي أو ما قبله!
لا بدّ من التأكيد في الحوار مع الدبلوماسي الغربي على ضرورة المحاسبة، والعدالة الانتقالية، وأن الدول لا تبنى بمشيئة رؤية واحدة أو فصيل، أو اتجاه، بل ستتم الإفادة من النسبة والتناسب، والتمثيل، وضرورة التخلص من أوهام الريادة و”النخبة” لمصلحة التقنية والخبرة.
قال ذلك الدبلوماسي بعين المتابع المتنبِّئ: ثمة مشكلة إضافية في الوضع السوري اليوم، فمن بقي على الأرض يرون أنهم وحدهم من أبقى جذوة التغيير، ويعتقدون أنَّهم أولى بتحديد مآلاته، يتحدث عن فجوة تكبر بين سوريي الداخل والخارج في السوريات الأربع، يشير إلى أن علمانية، أو سلفية أو مدنية من هم خارج سوريا لم تعد بذات القيمة السابقة، فالزمن يمر، ولم يعودوا عاملاً في استمرار التغيير السوري!
وحين الحديث عن الخسائر، لا بد من تذكّر أن كل سوري قد خسر، هناك من خسر منصبه أو السيرة الذاتية التي بناها، وهناك من خسر روح من يحب، أو أهله أو أولاده أو حلمه أو بيته، يجب عليهم أن يحترموا خسارات بعضهم، وألا يستهينوا بها.
وحين الحديث عن أبناء الثورة السورية ونجومية عدد من “المعارضين السوريين”، تمّ التوافق على أنَّ للثورة “المهزومة مرحلياً” اليوم أبناء وآباء هم غير أولئك الأوائل. هذا ما لا يدركه كثير منهم، بل يرفضون إدراكه، وفي الوقت نفسه، وكما يحدث في كل ثورة، فإنَّ عدداً منهم قد نسي أمرها وانشغل بأملاكه، أو ما حصل عليه من مكافآت ومساعدات، ولم يعد يهتم بها، بحجة أن مآلاتها لم تعد تمثله أو تعنيه، نسي أولئك أو تناسوا أن الثورات لا بدّ أن تمر بعدة تحولات!
وكما في نهاية كل حوار لا بد من السؤال عن الحل، والمقترحات؟
كانت الرؤية واضحة: معظم دول العالم أوقفت الكثير من دعمها للمعارضة، ولم تعد تعنيها سوريا إلا بصفتها خبراً، أو مادة معلومة أو بحثاً، أو تصفية حساب مع الآخرين عبر الجغرافية السورية! والنظام وداعموه يلعبون اليوم بمساحات إضافية دبلوماسية، وأعداء الأمس، سياسياً، من المحيط السوري، صاروا أصدقاء اليوم، هذا كله يحتم على القوى المعارضة أن تعيد النظر، وتتحرك!
لا حلّ بغير الحوار بين السوريين المعارضين أولاً وثانياً وثالثاً، لإنتاج “رؤيا متقاربة للتغيير المنتظر وأهدافه”، ولسوريا ومحدِّداتها، أيُّ سوريا يريدها السوريون المعارضون؟ وما مدى إمكانية تحقيقها؟ وهل الحلم بسوريا المنتظرة في سنوات جذوة الثورة هو ذاته في مرحلة انكسارها؟ ما هذا الحلم الذي لا يتأثر بالوقائع وحركة التاريخ؟ لا يمكن للحلم بسوريا المستقبل أن يكون مترافقاً مع تعطيل حقوق المرأة ودورها وأثرها وعدم رفع الظلم عنها، كلّ من جهته وقدرته، الآن الآن وليس غداً!
وكي يكون للحوار المنتظر بين السوريّين نتائج مجدية، يجب أولاً تكسير الصورة “الشيطانية” النمطية، للسوري الآخر، المخبَّأة في الوعي الداخلي لكثير منهم، تجاه بعضهم، لا بدّ من أن تضمحل هذه الصورة المشوهة، والانطلاق نحو “السوري” الآخر، للّقاء به، في منتصف الطريق، كي يصلا إلى أحلامهما المشتركة.
وتابع: من ليس لديه القدرة على القيام بهذه المهمة، يمكن أن يتركها للآخرين، أو للأجيال اللاحقة. حتى لو سقط الطاغية، ستستمر الحرب إنْ لم يؤمن السوريون ببعضهم، وبحقوق كلّ منهم في التفكير والاختلاف والرؤيا لسوريا أخرى، وليدرك كلٌّ منهم حجمه، وعدده وفاعليّته، ولا بدّ أن يتخلى عن قسم من أوهامه كذلك، التخلي عن الوهم قد يكون مدخلاً ملائماً!
الأسوأ في المآلات والثورات – كما يقول الدبلوماسي الغربي- هو الاكتفاء بشعور الخذلان، أو الاستسلام للواقع بحجج إيمانية وقدرية، والاقتناع أنه ليس بالإمكان أكثر مما كان، ما من ثورة شخصية أو اجتماعية دون أحلام!
تابعتُ الدردشة معه: السوريون والسوريات تعبوا من الأحلام، مع إدراكهم أنه لا بدّ منها، لكن ليس الاكتفاء بها وحدها، ربما لا بدّ من فتح نوافذ جديدة فيها، لو عبر باقة من الورد الجوري، قد يزرعُها السوريُّ في خيمته أو مغتربه أو مخيّلته، وهو على أهبة الشتاء، أو على الأقل أن يبقي جذوتها وعطرها في قلبه، إنْ لم يجد من يتفاعل معها، أو يبادله سقايتها والاهتمام بها!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا