بيتر آلن
أثار قرار حكومة باريس بالإفراج عن أرشيف حرب الاستقلال دعوات جديدة لتطبيق العدالة، كما يكتب بيتر آلن في التقرير التالي:
كان محمد إندارك مراهقاً حين شاهد سلسلة من الهجمات المجرمة التي قامت بها عناصر شرطة باريس. راقب إندارك، وهو عاجز عن فعل أي شيء، عشرات الجزائريين، بمن فيهم أصدقاء مقربون له، يتعرضون للضرب بشكل متكرر بالهراوات وبأعقاب البنادق قبل أن يجري إلقاؤهم في نهر السين.
وقد قُتل ما لايقل عن 300 شخص، معظمهم من الشباب [المؤيد لتحرر الجزائر]، في ليلة واحدة من ليالي عام 1961، فيما كانوا يدعون فرنسا إلى إنهاء حرب الاستقلال الجزائرية، التي يمكن القول إنها كانت الأكثر وحشية بين كل الصراعات التي شهدها تاريخ التحرر من الاستعمار.
والآن، وبعد مضي ما يزيد على ستة عقود، ربما يصبح بوسع الناجين من أمثال إندارك أخيراً، أن يشاهدوا وثائق سرية للغاية حول تلك الجريمة الفظيعة.
يأتي ذلك في أعقاب إعلان الحكومة الفرنسية أن قاعدة يحظر بموجبها الإفراج عن ملفات الأرشيف الوطني للحرب الجزائرية 1954- 1962 طوال 75 عاماً، قد قلصت 15 عاماً.
وقال إندارك، 79 عاماً، لصحيفة “اندبندنت”، إن “أحداً لم يمثل أمام العدالة على الإطلاق بسبب المذبحة في باريس، على الرغم من أن مئات رجال الشرطة قد تم تصويرهم فيما كان الأشخاص يتعرضون للقتل في كل مكان من حولهم”.
وأضاف، “كان الأمر على هذا المنوال خلال سنوات الحرب كلها، فقد قام رجال الجيش الفرنسي والشرطة بالقتل والتعذيب والسجن من دون رادع أو عقاب، ولم يكبد أحد نفسه عناء الإفراج عن السجلات حول ما كان يجري، ناهيك عن فتح تحقيقات بالجرائم”.
وأردف إندارك “نحن جميعاً نريد أن نقرأ تلك الأسماء، ونكتشف ما الذي قالوه من أجل تبرير ما فعلوه. لم يكن عديد من القتلة أكبر سناً مني”.
وكان إندارك الذي كان لايزال في التاسعة عشرة من عمره، قد وجد نفسه متورطاً في القتال على جسر سانت ميشيل، وهو الوجهة السياحية الرائجة المقابلة لكنيسة نوتردام، في 17 أكتوبر (تشرين الأول) 1961.
ولفت إندارك إلى أنه “كان هناك رجال شرطة مسلحون في كل مكان، وكانوا يبحثون تحديداً عن أي شخص سحنته سمراء. وقد جازف الجميع تقريباً بالتعرض للضرب، غير أنني استطعت أن ألوذ بالفرار. تم سحق كثيرين، على الرغم من أنهم كانوا أشخاصاً عزل يحتجون بشكل سلمي”.
آرزقي أمازوز، هو واحد آخر من أنصار الكفاح الوطني الجزائري المخضرمين الذين كانوا يدعون على امتداد عقود إلى مزيد من الشفافية.
وقال أمازوز “لدينا فكرة جيدة عن عدد القتلى والجرحى، غير أن هناك كثيراً مما لا نزال نجهله” .
وتابع، “لهذا السبب نظمنا عرائض تدعو إلى فتح الأرشيف الذي جرى إغلاقه لوقت أطول بكثير مما ينبغي”.
وأضاف، “إن هناك حاجة لمزيد من التحقيقات، ويجب إذا أمكن أن يمثل هؤلاء المسؤولين عن الجرائم أمام المحكمة. هناك فيض من الأدلة من أجل الإدانات”.
وكانت الجزائر، وهي الآن أكبر دولة في أفريقيا من حيث المساحة، تعد جزءاً من الأراضي الفرنسية خلال 132 عاماً من الاحتلال الذي بدأ في 1830.
تعرض المستعمرون للهزيمة في عام 1962 على يد جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ومنذ ذلك الوقت استطاع الفرنسيون أن يبقوا تلك الفترة المظلمة من التاريخ طي الكتمان.
وأخيراً شارك الرئيس إيمانويل ماكرون للمرة الأولى في أكتوبر الماضي في مناسبة أُقيمت على مستوى متواضع من أجل إحياء ذكرى أولئك الذين قتلوا في 1961. لكن حتى تلك المناسبة لم تشتمل على اعتذار علني.
واعتبر أحمد طويل، الذي كان عمره 13 عاماً حين علق في الاحتجاجات المناهضة للحرب في باريس “يجب تغيير واقع الأمور، و يجب تغييره قريباً”.
وهناك صورة إيقونية ظهرت على الصفحة الأولى لصحيفة “فرانس سوار” في أكتوبر 1961 يبدو فيها الصغير أحمد بين مئات الأطفال الذين تم إبعادهم عن أبائهم وعنفتهم الشرطة.
وطويل، شأنه شأن كثيرين، يشبّه حالياً فتح الملفات الجزائرية بالعملية التي اعترف الفرنسيون بموجبها أخيراً بمسؤوليتهم عن التعاون في إطار تنفيذ المحرقة النازية خلال الحرب العالمية الثانية.
ففي 1995، أي بعد حوالى نصف قرن من احتجاز السلطات الفرنسية نحو 75000 ألف يهودي وإرسالهم إلى غرف الغاز [الأفران النازية]، أقر الرئيس الفرنسي حينها، جاك شيراك، بالمسؤولية أخيراً عما حصل.
وإذ ألقى باللوم بشأن هذا الفعل المرعب على “غباء الدولة الفرنسية”، فقد قال شيراك “حنثت فرنسا بوعدها، فسلمت أولئك الذين كانوا تحت حمايتها [بعهدتها] إلى جلاديهم”.
كان قائد شرطة باريس، ويدعى موريس بابون، هو المسؤول في النهاية عن مذبحة 17 أكتوبر، كما كان أيضاً متعاوناً سيء السمعة مع النازيين.
وأخيراً تمت إدانة بابون بارتكاب جرائم ضد الإنسانية في عام 1998، غير أن الإدانة كانت تتصل بسلوكه خلال الهولوكوست، وليس بما فعله ضد الجزائريين.
ويشير حالياً ناشطون إلى أن مدنيين جزائريين يصل عددهم إلى 1.5 مليون نسمة قد لقوا مصرعهم في حرب 1954 – 1962 وحدها، مع وقوع عدد أكبر بكثير من الجرحى.
وكما كانت الحال على امتداد تاريخ المغامرة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، تم استهداف قرى وبلدات بأكملها، واستخدمت أحدث أنواع التكنولوجيا العسكرية لإزالة جماعات عن بكرة أبيها.
وقد استُعملت أفران الغاز، والنابالم، وعمليات الإعدام غير القانونية، كلها من قِبل القوات الفرنسية، وذلك لدعم حلفائهم من المستوطنين الأوروبيين ممن أطلق عليهم لقب الأقدام السود.
كان المقاتلون الفرنسيون يتلقون الدعم من جانب إرهابيين تابعين لهم. وقد ارتكبت منظمة الجيش السري [الفرنسية] عديداً من الفظائع بما فيها محاولة اغتيال الرئيس شارل ديغول.
وفي 18 يونيو (حزيران) 1961، قُتل 28 مدنياً وأُصيب 100 آخرون بجراح حين حرفت قنبلة زرعتها منظمة الجيش السري قطاراً فائق السرعة عن سكته، فيما كان متوجهاً من ستراسبورغ إلى باريس، وهي جريمة أخرى لم يجرِ التحقيق في شأنها بشكل مناسب.
ووصف متحدث باسم الحكومة الفرنسية الإفراج عن الملفات بأنه فرصة للبلاد، حتى “تواجه الحقيقة التاريخية بشكل مباشر”.
وتسير العائلات الفرنسية ذات العلاقة بالجزائر تماماً على خطى أحفاد المتعاونين النازيين الذين فعلوا كل ما في وسعهم للتغطية على ذلك التواطؤ.
إن العلاقات بين الدولة ذات الأغلبية العربية المسلمة والدولة الإمبريالية التي استعمرتها سابقاً، متوترة بالتأكيد على الدوام.
وفيما أعرب سياسيون في الجزائر بمن فيهم الرئيس عبد المجيد تبون، عن ترحيبهم بالإفراج عن الملفات [إتاحة الاطلاع عليها]، فهم مع ذلك لايزالون غير مرتاحين.
وهم يخافون، مثل محمد إندارك، من أن المعلومات التي رفعت عنها السرية حديثاً يمكنها أيضاً أن تؤدي إلى تردي العلاقات بين البلدين بشكل أكثر حدة.
وقال إندارك “حين تكشف الحقيقة عن شرّ مفرط، فإن أولئك المسؤولين عما حصل يريدون إبقاء الأمر طي الكتمان … ولهذا السبب فإن الإفراج عن الملفات في غاية الأهمية”.
المصدر: اندبندنت عربية