سامي عمارة
إعلان حال الطوارئ وحظر التجول وإقالة الحكومة بعد مواجهات دامية بين المتظاهرين وقوات الأمن. الاضطرابات تضرب أطنابها في كازاخستان. لليوم الرابع على التوالي، تتجدد الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن والشرطة في العاصمة نور سلطان وكبريات المدن والأقاليم منذ الإعلان عن رفع أسعار الغاز بنسبة زهاء مئة في المئة، مقارنة بأسعار العام الماضي، في توقيت سارعت موسكو إلى إعلان تحذيراتها من مغبة احتمالات استغلال دوائر غربية لما يجري من أحداث بهدف تغيير النظام القائم هناك. وعلى الرغم من استجابة رئيس الجمهورية قاسم جومارت توكاييف لكثير من مطالب المتظاهرين، وأهمها إعادة الأسعار إلى ما دون الأسعار السابقة، وإقالة الحكومة، تتواصل التظاهرات وتتجدد الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، بموجب سيناريو يقترب في كثير من ملامحه مما سبق وشهده عدد من جمهوريات الفضاء السوفياتي السابق من “ثورات ملونة”، منذ مطلع القرن الحالي. وذلك ما اضطر الرئيس الكازاخستاني إلى إعلان حال الطوارئ وحظر التجول في العاصمة نور سلطان وعدد من الأقاليم وكبريات المدن في البلاد. ويقول شهود عيان إن السلطات دفعت بقوات الجيش والحرس الوطني دعماً لقوات الأمن والشرطة، لمواجهة المتظاهرين واعتقال كثير من قياداتهم والحيلولة دون استمرار محاولات اقتحام عدد من المقار الحكومية، باستخدام القنابل الصوتية والغاز المسيل للدموع. ونقلت وسائل التواصل الاجتماعي قبل حظرها لفترة من الوقت، مشاهد هذه المواجهات في العاصمة وألما آتا (العاصمة القديمة) ومقاطعة مانغيستاو ومدن أخرى شمال غربي البلاد. وأوردت وكالة “نوفوستي” الروسية للأنباء أخباراً تفيد باستخدام الأسلحة النارية في وسط ألما آتا، واضطرار رجال الشرطة إلى إخلاء المنطقة المحيطة بمبنى البلدية بعد نجاح المتظاهرين في اقتحامه وإضرام النار فيه، حسبما ذكر مراسل “نوفوستي”، الذي أضاف أنه شاهد شرطيين وهم “يرتدون ملابس مدنية ويغادرون الساحة أمام البلدية في سيارات أجرة”. كما نشرت أخباراً أخرى وتسجيلات “ظهرت فيها مجموعة من المحتجين في شوارع ألما آتا وهم يجردون عنصراً أمنياً من بندقيته الآلية، إلى جانب لقطات لأعمدة الدخان التي تصاعدت فوق بلدية ألما آتا ومبنى النيابة العامة وأحد مقار للحزب الحاكم في المدينة”. كما ترددت أخبار كثيرة عن سرعة مغادرة كثيرين من رجال الأعمال على متن طائراتهم الخاصة للعاصمة نور سلطان وكبريات المدن في كازاخستان.
مطالب بتغيير السلطة
وعلى الرغم من إعلان رئيس الجمهورية عن عدد من الإجراءات وتصريحاته بالاستجابة لكثير من مطالب المتظاهرين وتعيين علي خان اسماعيلوف قائماً بأعمال رئيس الحكومة الجديدة، تتواصل التظاهرات التي تجري تحت شعارات تطالب بتغيير السلطة و”رحيل الرئيس السابق نور سلطان نزارباييف عن السلطة” على الرغم من أنه كان تنازل طواعية عن كثير من مناصبه الدستورية ومنها منصب “رئيس الجمهورية” عام 2019، وإن ظل يمارس بعض صلاحياته من موقعه السابق كرئيس للحزب الحاكم. ومن اللافت في هذا الصدد أن توكاييف سارع إلى تحديد الجهة المسؤولة عن اندلاع التظاهرات، مؤكداً أن “الحكومة المُقالة” هي التي تتحمّل الذنب بشكل خاص عن اندلاع الاحتجاجات في البلاد أخيراً”. وقال إنها “سمحت بانفلات الوضع المتعلق بالاحتجاج على ارتفاع أسعار الغاز”. وإذ أشار إلى أن الحكومة، خصوصاً وزارة الطاقة، برئاسة نورلان نوغاييف (وهو أيضاً حاكم منطقة مانغيستاو التي اندلعت منها شرارة الاحتجاجات)، بوصفهم المسؤولين مباشرة عما اجتاح البلاد من أحداث، أصدر توكاييف تعليماته إلى مكتب المدعي العام بالتحقيق في ما وصفه بـ”مؤامرة” أسعار الغاز، إلى جانب ما صدر لاحقاً حول اعتقال مدير معامل تكرير الغاز في مقاطعة مانغيستاو، بوصفه المسؤول المباشر عن رفع أسعار الوقود.
ونقل الجهاز الصحافي للرئاسة عن توكاييف ما أصدره من تعليمات حول “ضرورة فرض الرقابة الحكومية على أسعار الغاز المسال والبنزين والديزل لمدة ستة أشهر”، إلى جانب “كل أسعار المنتجات الغذائية الأساسية المهمة اجتماعياً، والنظر في إمكانية منع زيادة أسعار الخدمات العامة المقدمة للسكان لمدة 180 يوماً وغير ذلك من التسهيلات والمساعدات الاجتماعية للفئات غير الميسورة”. وأضاف الرئيس توكاييف أن “الهيكل السياسي والاجتماعي والاقتصادي للدولة لن يتغير”، مؤكداً أن “مبادئ الوحدة وسيادة القانون واحترام حقوق الملكية واقتصاد السوق تظل محورية في سياستنا العامة”.
كثير من التذمر
وكانت كازاخستان شهدت أحداثاً مماثلة عام 2011 في وقت مواكب لأحداث “الانتفاضات في العالم العربي”، وأخرى في قيرغيزستان المجاورة، عكست كثيراً من التذمر الذي اجتاح عدداً من مدن جنوب غربي البلاد. خرج عمال الفحم يطالبون برفع الأجور وتحسين الأحوال المعيشية وإقالة الحكومة، بما كان يعني اختلاط المطالب الاقتصادية بمطالب سياسية. وتطورت الأحداث وتسارعت حتى حد المواجهة المسلحة بين المتظاهرين وقوات الأمن وإضرام النيران في عدد من المقار الحكومية. وسارعت سلطات الجمهورية إلى إصدار أوامرها بقطع سبل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي، فيما أعلنت أن ما جرى من اضطرابات، جزء من مخطط غربي يستهدف إشعال نيران “الثورات الملونة” في المنطقة، من أجل الحيلولة دون تحقيق التكامل الاقتصادي والفضاء الجمركي الموحد مع روسيا وبيلاروس، والإضرار بمواقع نقل النفط والغاز القريبة من بحر قزوين في المناطق الحدودية المتاخمة، بما يعني ضمناً الإشارة بأصابع الاتهام إلى القوى الغربية التي تقف وراء محاولات إحباط ما كانت تقوم به روسيا من جهود، تستهدف لمّ شمل ما تبعثر من فضاء الاتحاد السوفياتي السابق. وبهذا الصدد، نقلت قناة تلفزيون “ك +” الكازاخستانية المعارضة عن ميروسلاف نيازوف، سكرتير مجلس الأمن القومي الأسبق في قيرغيزيا المجاورة، قوله إن أية قوى خارجية لا تستطيع التأثير في أوضاع الداخل ما لم تتوافر الظروف المساعدة لتفعيل هذا التدخل. واعتبر أن الانتفاضة في أية دولة بغض النظر عن موقعها الجغرافي، هي رد فعل طبيعي لتفاقم الأوضاع المعيشية وتذمر السكان وسخطهم من جراء تفاقم ظواهر الفساد والمغالاة في مركزية السلطة، وانفراد الحاكم بالقرار على حساب خنق الحريات والتطاول على حقوق مواطنيه. وضرب مثالاً على ذلك ما جرى في البلدان العربية وما تنازعها من “ميول ونزعات ثورية” أطاحت ببعض حكامها. ومثلما فعلت موسكو آنذاك حين سارعت إلى إدانة المخططات الغربية، وتأييد ما اتخذه الرئيس السابق نزارباييف من إجراءات لوأد “الفتنة والمخططات الغربية”، ظهر ما يعرب عن خشيته من أن يستخدم الغرب ما يجري من أحداث لتغيير السلطة في كازاخستان.
روسيا مستعدة للمساعدة
وعلى صعيد الأوساط البرلمانية، أعرب فلاديمير جباروف، النائب الأول لرئيس لجنة العلاقات الخارجية لمجلس الاتحاد، عن اعتقاده بأن السلطات الكازاخستانية ستتعامل مع الوضع على النحو المناسب، فيما أكد أن روسيا على استعداد لتقديم أية مساعدة غير عسكرية. ونقلت وكالة “نوفوستي” عنه رفضه اعتبار ما يحدث “أزمة سياسية”. ومن جانبه، أعلن دميتري نوفيكوف، النائب الأول لرئيس لجنة مجلس الدوما للشؤون الدولية أن “الغرب يمكنه استخدام الاحتجاجات في كازاخستان”. وقارن الوضع الحالي بأعمال الشغب في قيرغيزستان، حيث كانت السلطة تتغير نتيجة للاحتجاجات. ومن اللافت في هذا الصدد أن المسؤول البرلماني لم يغفل في معرض تناوله للأحداث في كازاخستان، ذكر ما جرى من تطورات في أوكرانيا عام 2014، سرعان ما أسفرت عن وقوع الانقلاب الذي أطاح الرئيس فيكتور يانوكوفيتش في فبراير (شباط) من العام ذاته. وتعليقاً على ما يجري من أحداث في كازاخستان، قال دميتري بيسكوف، المتحدث الرسمي باسم الكرملين، إن كازاخستان لم تطلب المساعدة من روسيا في ما يتعلق بالوضع في البلاد. وأضاف “موسكو على يقين أن أصدقاءنا في كازاخستان قادرون على حل مشكلاتهم الداخلية بأنفسهم، ومن المهم عدم حصول تدخل من الخارج”. أما وزارة الخارجية الروسية، فأصدرت بياناً تقول فيه إنها تراقب عن “كثب وباهتمام تطورات الوضع في كازاخستان المجاورة”. وأشارت إلى أن “روسيا تدعو إلى حل سلمي لكل المشكلات ضمن إطار المجال الدستوري والقانوني ومن خلال الحوار، وليس بواسطة أعمال الشغب وانتهاك القوانين”. وأضافت أن “هذا تحديداً هو ما ترمي إليه خطوات رئيس كازاخستان قاسم جومارت توكاييف، التي تستهدف نشر وتحقيق استقرار الأوضاع في البلاد، وحل المشكلات الراهنة على الفور، بما في ذلك ما تضمنته المطالب المشروعة للمتظاهرين”. وأعربت وزارة الخارجية الروسية عن أملها في أن يتم في أقرب وقت ممكن “تحسين الوضع في هذه الدولة التي ترتبط مع روسيا بعلاقات شراكة استراتيجية وتحالف، وروابط أخوية وإنسانية”. وإذ أشارت إلى أنها تظل على اتصال مع البعثات الروسية العاملة في كازاخستان، قالت الوزارة الروسية إن “الأوضاع حول بعثاتنا الدبلوماسية والقنصلية تظل هادئة. ووفقاً للمعلومات المتوافرة حالياً، لم يتعرّض أي من مواطني روسيا الموجودين في جمهورية كازاخستان لأذى”.
أول صدامات
وفي معرض استعراض بعض وقائع تاريخ احتدام المواجهات في ألما آتا، العاصمة القديمة لكازاخستان حتى 1994 قبل تغيير العاصمة إلى أستانا التي أصبح اسمها “نور سلطان”، تخليداً لاسم نور سلطان نزارباييف، أول رئيس للبلاد، يعيد المراقبون إلى الأذهان أن هذه المدينة القديمة شهدت أول صدامات ذات طابع “عرقي” بين شباب المدينة وطلبتها، مع السلطات الأمنية في تاريخ الاتحاد السوفياتي السابق. وكان ذلك عام 1986 في أعقاب إقالة دين محمد كوناييف الكازاخي القومية، الأمين الأول للحزب الشيوعي في كازاخستان واستبداله بغينادي كولبين الروسي الأصل. وثمة من يقول إن هذه الصدامات من أهم أسباب انفجار المسألة القومية، التي أسفرت لاحقاً عن انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية عام 1991. ومثلما استطاع المتظاهرون آنذاك إلحاق الأذى بمكانة ووقار السلطات الرسمية وممثليها من رجال الأمن والشرطة والقوات الأمنية، كشفت المواجهات الأخيرة عن نتائج مماثلة اعترفت بها السلطات الرسمية في البلاد. ونقلت وكالة “نوفوستي” عنها ما قالته حول وقوع الاشتباكات مع قوات الشرطة، وما أسفرت عنه من “ضرب عدد من ضباط الشرطة ومصادرة معدات عسكرية، وما ردت عليه القوات الأمنية باستخدام معدات خاصة”. ومع ذلك، فقد اعترفت بأن “المتظاهرين تمكّنوا في عدد من الحالات من نزع سلاح مقاتلي الحرس الوطني”. وقالت وزارة الداخلية في كازاخستان إن القوات الأمنية قامت منذ بداية الاحتجاجات باعتقال أكثر من 200 شخص، فيما أصيب نحو 140 ضابط شرطة، فضلاً عن إضرام النيران بمبنى النيابة العامة ومقر الحزب الحاكم “نور وطن”، إلى جانب إحراق 120 من سيارات الشرطة والإسعاف وعربات الإطفاء، وبدأت التحقيقات في 13 حالة عنف ضد مسؤولين حكوميين، وأعمال شغب وهجمات على مبانٍ حكومية”. وأكدت وكالة “نوفوستي” أن “المتظاهرين في ألما آتا استولوا على أسلحة نارية ودروع وهراوات من الشرطة”، كما رصدت “عدم وجود العناصر الأمنية في المدينة”، في الوقت الذي كشفت وكالة “سبوتنيك كازاخستان” عن “قيام المتظاهرين بنهب مكاتب القنوات التلفزيونية في ألما آتا”. ونقلت المصادر الرسمية ما قاله الحاكم العسكري للمدينة إن “ألما آتا تعرّضت لهجوم من قبل المتطرفين والراديكاليين وأن الجماعات المتطرفة أصبحت أكثر نشاطاً”.
المصدر: اندبندنت عربية