محمود الوهب
ما بالنا نختلف فيما بيننا -نحن السوريين– فنبحث عما يفرقنا أكثر مما يجمعنا، وكأننا لم نُعانِ، ولم نزل على معاناة ظلم الاستبداد متعدد أشكال الجرائم والفظائع ليس منذ العام 2011 فحسب، بل على مدى حكم البعث، ومنذ أن صادر ذلك الحكم العملَ السياسيَّ، وما يستتبعه من تشكيل أحزاب وجمعيات ثقافية ومنتديات اجتماعية، وإعلام حر، وقضاء مستقل، وكل ما يمكنه أن يقيم دولة ديمقراطية، وأن يساهم في فضح الفساد الذي يقوم بنهب الدولة والشعب معاً عن طريق توجيه المال العام إلى جيوب بعينها.. جيوب تعدُّ من “عظام الرقبة” من الذين تُسَنُّ لهم القوانين، فتجعلهم يغرفون من المال بغير حساب.
يضاف إلى ذلك آلة القمع التي تمثل إرهاب الدولة بحق، إذ تسهّل لهؤلاء الفاسدين طرق جرائمهم.. وتتجسد تلك الآلة بفروع الأمن التي تكاثرت وتنامت حتى بات المواطن السوري مقتنعاً بأن لها آذاناً فعلاً! حتى غدا يشك بمعارفه وأصدقائه، وتفاقم القمع واتسعت دوائره ليصل إلى القتل والتهجير والتشريد والاستعانة بالآلة العسكرية الوحشية للأجنبي البغيض الطامع بالأرض، وبمقدَّرات الشعب والوطن، وللعمل على تفتيت بنية المجتمع السوري، وتغيير تركيبته السكانية القائمة منذ مئات السنين، والسيطرة على أمواله وأملاكه، وتراث آبائه وأجداده، ولم يكتفِ الإيرانيون والروس بكل ذلك، بل إنهم اليوم يهدّدون سورية بالتقسيم، بعد أن غدت تحت نير عدد من الاحتلالات.
ولا شك في أن السبب الرئيس لكل ما لحق بها من أذى مَردُّه إلى النظام ذاته، فهو الذي يتحمل كل المآسي التي لحقت بالوطن والمواطن على السواء.. وبالرغم مما يقال عن ممارسات المعارضة، وما ارتكبته، وبعض فصائلها العسكرية، من تجاوزات، وما أهملته من مسؤوليات تجاه الشعب التي تزعم أنها تمثله، إلا أن النظام لا يجارى في جرائمه، فهو البادئ والمتسبب في كل ما حصل، ولا يزال يحصل.. أعود بعد هذه المقدمة التي لا بد منها في مثل هذا المقال إلى تساؤلي الأول لأقول:
لماذا لم يتعظ بعض السوريين الذين تحملوا كل ذلك البلاء من الدرس؟ فترى استيقاظ عواطف مريضة لدى أحدهم كلما وقع أحد المجرمين تحت سيف العدالة ليعلن: ليس هذا ما يطلبه فالهدف هو المسؤول الأول، أي رأس النظام، وكأن الضابط الأمني ليس برغياً في آلة الموت التي يقودها رئيس ذلك النظام، وكأن نظام الاستبداد هو فرد لا دولة عميقة تدعمه وتشد من أزره، دولة مكونة من جيش وأمن وأزلام تتوزع، بحسب مجالها، في مفاصل المجتمع الرئيسة، فلولا هؤلاء لما وجد الاستبداد في أي نظام، إذ إن بدء المسألة من “المخْبِر” لتنتهي عند المحقق الذي يتفنّن في ألوان العذاب ليُبقيَ رأس النظام على كرسيه وليبقى هو على وظيفته وفساده وليأكل ويطعم عائلته من دماء السوريين وشقائهم.. يقول الكواكبي: “العوام هم قوَّة المستبد، وقوته بهم، وعليهم يصول ويطول..”.
كان العميد أنور رسلان الذي حكمت عليه محكمة ألمانية بالسجن المؤبد مسؤولاً عن قسم التحقيق في فرع أمن الدولة الداخلي رقم (251/ فرع الخطيب) عام 2011 وحتى مغادرته سورية في نهاية عام 2012، وهو الفرع الأخطر والأكثر قوة وتأثيراً في سورية. وخلال محاكمته وجّه إليه الادعاء العام تهماً بتعذيب أكثر من أربعة آلاف معتقل، والتسبب بموت 58 منهم تحت التعذيب، إضافة إلى تهم أخرى تتعلّق بالاغتصاب والعنف الجنسي. وفي 23/04/2020 افتُتحت محاكمته العلنية لدى محكمة “كوبلنز” شمال الراين في ألمانيا، وخلال 21 شهراً تقدّم 29 مدعياً وضحية بإفاداتهم أمام المحكمة بالإضافة إلى العديد من الخبراء وضباط الشرطة وشهود لجهة الدفاع عن المتهم.
ما يقال في الاعتراف إنه إدانة لماضي المعترف وخلاص منه وتحرير للنفس من قسوته، أما نفي الفعل، رغم ثبوت الأدلة، فإنه تأكيد للفعل، وهو في حالة أنور رسلان، إصرار على متابعته، فهو لا يزال يُكنّ للنظام مكانة خاصة. ولعله من جهة ثانية، يأمل في مساعدته لإنقاذه من سجنه، ذلك إن لم يكن مرسلاً بالفعل في مهمة أمنية ومن هنا ربما تهديده للشهود وعائلاتهم في سورية.
وتأتي أهمية القرار من كونه انتصاراً للعدالة ومن جهود الضحايا من ناجين وناجيات، ولأن المحكوم ذو رتبة عالية وجرائمه مصنّفة ضد الإنسانية، فقد أعطى أملاً للسوريين، ولعله يشكّل حالة وعي لدى السوريين كافة.. ثم إنه متّهم فرد لكن حيثيات القرار أدانت نظام الاستبداد برُمته، ومنذ خمسين عاماً وإلى اليوم، ولعل هذا الحكم يكون باعثاً على الأمل في إحقاق حقوق جميع من فقدوا أعزاء لهم أو امتُهنت كرامات تخصهم.
ولا بد من الإشارة إلى أن محامي رسلان كان قد تلا رسالة باسم المتهم خلال الجلسة الأخيرة، نفى فيها التهم الموجّهة إلى موكله، ونسبها إلى الضابطين “توفيق يونس” و”حافظ مخلوف” وآخرين. ما أدى إلى تأجيل النطق بالحكم، وتالياً جاء الحكم كما أعلن. وثمة سؤال افتراضي هو: لماذا لم يُبرِز المتهم ما لديه من دفوع منذ البداية؟ ولِمَ لمْ يُدِنْ تلك الممارسات التي وردت في رسالته؟!
أخيراً أقول: إن الحكم على هذا الضابط لن يُخرِج الزير من البير، لكنَّ فضح جرائم الأمن أمام العالم ليس بالأمر السهل، وفي حالة “رسلان” بُذلت جهود سوريين كثر، ومنها عدة منظمات مجتمع مدني إضافة للمحامي أنور البني رئيس “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، هناك “مجموعة ملفات قيصر”، و”المركز السوري لحرية الإعلام والتعبير”، و”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، و”الآلية الدولية المستقلة لجمع الأدلة حول الجرائم المرتكبة في سوريا”، و”المركز الدولي للعدالة والمساءلة”. فما جرى في سورية غير مسبوق أبداً وطريق الخلاص منه طويل.. طويل!
المصدر: أورينت