سامي عمارة
أن يفاجئ سيرغي لافروف عميد الدبلوماسية الروسية وأحد أقدم وزراء الخارجية في العالم نظيرته البريطانية بوصف مباحثاتهما التي لم تسفر عن أي نتائج تُذْكر، بأنها كانت “مفاوضات الخرس مع الطرشان”، فذلك ما يبدو سابقة لم تشهد لها الدبلوماسية العالمية مثيلاً في تاريخها.
أما عن الأسباب والمقدمات فهي كثيرة، وكانت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تراس، بحسب تقديرات الجانب الروسي، بتلويحها قبل الاتفاق على موعد زيارتها العاصمة موسكو، بالويل والثبور وعظائم الأمور لروسيا، في حال إقدامها على “غزو أوكرانيا” الذي لم تكف السلطات الروسية عن تأكيد عدم صحته.
وعلى الرغم من تراجع القيادة الأوكرانية عما سبق وأخطأت في تقديره بشأن “الغزو الروسي الوشيك”، لتعود وتناشد الولايات المتحدة وعدداً من البلدان الغربية التريث وعدم تعجل إجلاء دبلوماسييها ومواطنيها من كييف، نظراً لتراجع المخاوف من هذا “الغزو الوشيك”، فلم تكف تراس ونظراؤها من المسؤولين في البلدان الغربية عن ترداد ما سبق وقالت موسكو بغير صحته. بل وحرصت على أن تستبق زيارتها موسكو بسلسلة من التهديدات التي أعادتها على أسماع مضيفها حول مائدة مفاوضاتهما في شأن ضرورة سحب القوات الروسية المسلحة من الحدود الأوكرانية، والتحول إلى مشاورات جادة مع حلف “الناتو” بغية تعزيز الأمن في أوروبا. وهددت تراس بأن “خط أنابيب السيل الشمالي-2 لن يبدأ تشغيله إذا ما تدخلت روسيا في أوكرانيا”، فيما حذرت من أن “الغزو الروسي سيؤدي إلى اندلاع نزاع مسلح طويل المدى، مع فرض حلفاء كييف عقوبات قاسية على أفراد ومؤسسات في روسيا”.
وذلك ما دفع لافروف إلى الكشف عنه خلال مؤتمرهما الصحافي المشترك الذي عقداه في ختام مباحثاتهما، وبدا في بعض جوانبه أشبه بالملاسنات الكلامية، بقوله “بإمكاني التأكيد أن هذا هو ما تحدثت عنه السيدة الوزيرة على مدى محادثاتنا التي استغرقت ساعتين وراء الأبواب المغلقة، ولم نسمع منها أي نبرة أخرى، ولم يتم تعديل طلب سحب قوات روسية من أراض روسية بأي شكل رداً على براهيننا، وهذا يستدعي الأسف بطبيعة الحال”. وعلى نحو اتسم بالحدة والحسم استطرد لافروف ليقول إنه “لم يشارك منذ وقت طويل في مباحثات دبلوماسية على غرار تلك التي أجراها مع نظيرته البريطانية، وكان من الممكن بثها على الهواء بشكل عام، لأننا لم نسمع أي شيء سري، وغير مخصص للرأي العام، سوى ما نسمعه استمراراً من المنابر العالية في لندن”. ووصف لافروف هذه المباحثات بأنها كانت أشبه “بحوار الخرس مع الطرشان”. وذلك ما سارعت الوزيرة البريطانية إلى الرد عليه بقولها إنها ليست “الخرساء” وليست “الطرشاء”، مشيرة إلى أن الوقت لا يزال موجوداً كي تكف موسكو عن عدوانها، فيما أعربت عن أملها في تسوية الأوضاع بالطريقة الدبلوماسية.
أوكرانيا والغزو الروسي الوشيك
ومن اللافت أن الاتهامات التي كالتها تراس لمضيفها في موسكو، هي “القائمة” نفسها التي تتواصل فصولها ومفرداتها طوال الأشهر القليلة الماضية، وتعالت فيها الأصوات تحذيراً من مغبة “الغزو الروسي الوشيك” الذي حدد له موعد في أواخر العام الماضي، لكن أصحابه عادوا إلى تحديد موعد آخر خلال الفترة من منتصف يناير (كانون الثاني) حتى منتصف فبراير (شباط) الجاري، من دون اعتبار لكل ما صدر عن موسكو من تكذيب ونفي وتأكيد على أن ما تقوم به روسيا من مناورات وتحركات عسكرية، يأتي في سياق حقها في التحرك داخل أراضيها، على النقيض مما تقوم به القوات الأميركية وقوات “الناتو” من مناورات برية وبحرية في حوض البحر الأسود على مسافة آلاف الأميال خارج أراضيها على مقربة مباشرة من الأراضي الروسية. كما أن الكرملين سبق وأكد لكل من وفد إليه من مبعوثي البلدان الغربية في إطار “حملة ماراثونية” من الاتصالات واللقاءات تتواصل منذ نهاية عام 2021، عدم صحة ما تروجه الدوائر الغربية من اتهامات، فيما عاد الرئيس فلاديمير بوتين وأوجز مطالب بلاده في رسالة خطية بعث بها إلى نظيره الأميركي في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وهي الرسالة التي يتواصل بشأنها الجدل منذ ذلك الحين، وتتوالى اللقاءات والاتصالات لبحث ما تتضمنه من نقاط وتفصيلات.
ومن الملاحظ في هذا الصدد أن الأزمة التي بدت أوكرانية المغزى والمضمون في بدايتها، تحولت إلى قضايا الأمن المتبادل بين روسيا والولايات المتحدة و”الناتو”، لتعود ثانية إلى مسارها الأوكراني السابق من دون تقدم يذكر على أي من هذه المسارات، بما في ذلك على صعيد ما كان ولا يزال يتردد بشأن “الغزو الروسي الوشيك”. وإن استطاعت الدوائر الغربية تسخيرها كمبرر لتدفق ما تحشده من قوات وما ترسله من أطنان الأسلحة والمعدات إلى أوكرانيا على مدى الأشهر الماضية. وهو ما أثار ويثير مخاوف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الذي عاد وتراجع عما أعرب عنه من مخاوف “الغزو الروسي الوشيك”.
وذلك هو ما أعاده وزير الخارجية الروسي على أسماع ضيفته البريطانية تفنيداً ودحضاً لما وصفه بأكاذيب “الغزو الروسي المزعوم”، مؤكداً أن “هذه التصريحات (التي تنفي احتمالات الغزو الروسي الوشيك) لا تأتي من قبل القيادة الروسية وحدها، بل من البنتاغون ونقلاً عن أشخاص جادين يتابعون عبر الأقمار الاصطناعية كل ما يجري. وأؤكد مرة أخرى أنه يجري في أراضي روسيا”. وأضاف لافروف أن “تصريحات مماثلة وردت على لسان وزير الدفاع الأوكراني أليكسي ريزنيكوف والرئيس زيلينسكي الذي دعا إلى الكف عن تأجيج الذعر”. واستطرد لافروف ليقول إن “زملاءنا الغربيين لا يحتاجون إلى الرئيس زيلينسكي إلا بوصفه أداة يستخدمونه لزعزعة التوازن في روسيا، ولا يهتم أحد بمواقفه والعواقب السلبية التي يتكبدها اقتصاد أوكرانيا وميزانيتها وسحب الاستثمارات منها نتيجة لهذه الهستيريا”.
الأمن المتساوي
وكانت موسكو الرسمية أوجزت مطالبها في ضرورة وقف توسع “الناتو” شرقاً، وسحب القوات الهجومية الضاربة من البلدان المجاورة لروسيا، والعودة بالأوضاع إلى ما كانت عليه في عام 1997، والالتزام بعدم نشر القوات النووية. وهو ما تدور حوله المناقشات مع الإدارة الأميركية و”الناتو” منذ ديسمبر الماضي. ولمزيد من الإيضاح طرحت موسكو ضرورة الالتزام بما صدر عن منظمة الأمن والتعاون الأوروبي من بيانات ووثائق ومنها إعلان إسطنبول في 1999 ووثيقة الآستانة في 2010، التي تنص على التزام كل دولة بعدم تعزيز أمنها خصماً من أمن الآخرين.
وكان لافروف تطرق إلى ذلك في أكثر من مناسبة في الوقت الذي “حمل فيه الغرب المسؤولية عن انتهاج معايير مزدوجة إزاء روسيا على خلفية التصعيد الحالي حول أوكرانيا”. وقال عميد الدبلوماسية الروسية إن “ازدواجية معايير الغرب في هذه المسألة تتجاوز كل الحدود”، مشيراً إلى أن موسكو “للأسف اعتادت ذلك منذ وقت طويل”. وإذ أشار إلى أن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا الوضع الذي يتناقض مع مبدأ الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة المنصوص عليه في العديد من الوثائق الدولية، أعرب لافروف عن “قناعة موسكو الثابتة بغياب أي بديل من تطبيق اتفاقات مينسك لتسوية النزاع في جنوب شرقي أوكرانيا”، فيما حذر من أن روسيا ستستمر في التصدي بشدة لمحاولات إلقاء اللوم عليها في عدم إحراز أي تقدم في تسوية النزاع في منطقة دونباس أو تقديمها على أنها طرف في هذا الصراع.
وذلك ما كان ولا يزال محور الجدل الذي يحتدم ويتواصل على مدى ما يزيد على سبع سنوات منذ توقيع الرئيس الأوكراني السابق بيتر بوروشينكو لاتفاقيات مينسك في فبراير 2015 تحت رعاية زعماء بلدان “مجموعة نورماندي” التي تضم إلى جانب روسيا وأوكرانيا كلاً من فرنسا وألمانيا. ومن اللافت أن بوروشينكو الذي وقع هذه الاتفاقيات مع ممثلي المناطق “الانفصالية”، في جنوب شرقي أوكرانيا، عاد وتراجع عن تنفيذها بعد عودته إلى كييف. حتى الرئيس الحالي زيلينسكي الذي فاز في الانتخابات الرئاسية الأوكرانية تحت شعارات منها ما يرتبط بتنفيذ عدد من بنود هذه الاتفاقيات التي حرصت موسكو على اعتمادها من جانب مجلس الأمن الدولي بإجماع أصوات المندوبين الدائمين في المجلس، عاد وتراجع عن تنفيذها. وذلك ما يظل محور مناقشات واجتماعات ممثلي مجموعة بلدان “نورماندي” التي استأنفت أعمالها في باريس وبرلين، لكنها لم تصل بعد إلى الحلول المنشودة بسبب تشدد الجانب الأوكراني الذي يظل عند رفضه البنود الأساسية في هذه الاتفاقيات التي تتعلق بالوضعية الخاصة لمناطق جنوب شرقي أوكرانيا وما يترتب عليها من تغييرات والتزامات.
دفاعاً عن مواقف الكرملين
وفيما تتواصل المحاولات على صعيد نزع فتيل الأزمة الأوكرانية من خلال آليات “مجموعة نورماندي”، تظل موسكو في انتظار الرد من جانب الولايات المتحدة وحلف “الناتو” على مبادرتها الخاصة بالضمانات الأمنية. وفي هذا الصدد أعلنت موسكو الرسمية عن أن وزارة الخارجية الروسية تواصل العمل بالتعاون مع جهات مختصة أخرى وبموجب ما يرد من الجانب الغربي من ردود ومقترحات، على إعداد مقترحات للرئيس بوتين بخصوص الخطوات المستقبلية الممكن اتخاذها. لكنها، بحسب تصريحات لافروف، “لن تسمح للغرب بعرقلة هذه المسألة من خلال “التشاور إلى ما لا نهاية”، مؤكداً أنه “إذا لم يكن هناك رد بناء وواصل الغرب نهجه التخريبي، فإن موسكو ستتخذ إجراءات رد لازمة، كما سبق أن أكده الرئيس بوتين مراراً”.
وفي هذا الإطار تتحرك الآليات الإعلامية الروسية دفاعاً عن مواقف الكرملين وتوضيحاً لتوجهاته وسياساته، في الوقت الذي “يسقط” فيه كبار رموز الدبلوماسية والسياسة في العواصم الغربية في شرك ما تصفه موسكو بالجهل المطبق ببديهيات التاريخ والجغرافيا ومنها ما صدر عن وزيرة الخارجية البريطانية بشأن “تعرض أوكرانيا لغزوات المغول والتتار”، واعتبار مقاطعتي روستوف وفورونيج “أراضي أوكرانية يجب أن تبادر روسيا بالانسحاب منها”. وهو ما عادت لتصححه بإيعاز من سفيرة بريطانيا في موسكو التي كانت تجلس بجوارها حول مائدة المباحثات.
لكن الأهم يظل في ما سبق وخلص إليه الزعيمان الروسي بوتين والفرنسي إيمانويل ماكرون في مباحثاتهما التي طالت لما يزيد على الخمس ساعات زاداها بما يزيد على الساعة في مؤتمرهما الصحافي المشترك الذي أعقباه بحديث خاص قبل انصراف ماكرون سيراً على الأقدام إلى فندقه على مقربة من الكرملين، للمبيت استعداداً لمباحثاته التي طالت في اليوم التالي لما يزيد على الست ساعات مع نظيره الأوكراني زيلينسكي في كييف.
تغيير استراتيجية الأمن القومي
وقد تناولنا في تقرير سابق من موسكو هذه المباحثات التي تمحورت حول اعتبار “تنفيذ اتفاقيات مينسك” السبيل الأمثل، وربما الوحيد الذي يمكن من خلاله التوصل إلى المخرج المناسب من المأزق الراهن على صعيد الأزمة الأوكرانية. أما عن مطالب روسيا بشأن حظر توسع “الناتو” شرقاً، فقد تناوله الرئيس بوتين من منظور خطورة ضم أوكرانيا إلى هذا التحالف العسكري وما قد يتسبب فيه ذلك من تبعات تضع روسيا ليس في مواجهة مع أوكرانيا وحدها، بل ومع بلدان “الناتو” مجتمعة كانت أم على حدة، بما يمكن أن تكون معه مقدمة لاشتعال حرب شاملة انطلاقاً مما نصت عليه الوثائق والتشريعات الأوكرانية حول استعادة شبه جزيرة القرم حتى لو تطلب ذلك الأمر استخدام القوة العسكرية.
وفي هذا الصدد، سأل بوتين عما إذا كانت البلدان أعضاء “الناتو” توافق على خوض مثل هذه المواجهة. وقال إن “روسيا تعلم أنها ستكون في مواجهة غير متكافئة مع مجمل قدرات الناتو، وإن كانت تملك من الأسلحة ما يتفوق على مثيلاتها لدى الناتو. لكنها قد تضطر إلى تذكر أنها دولة نووية عظمى”.
وسأل بوتين مرة أخرى عن مدى استعداد البلدان أعضاء “الناتو” لمواجهة مثل هذا الموقف. ويذكر المراقبون ما سبق وكشف عنه بوتين في حديث تلفزيوني أدلى به في مارس (آذار) 2018 إلى الإعلامي فلاديمير سولوفيوف المعروف بعلاقته الوثيقة مع الكرملين، وقال فيه رداً على سؤال عن مدى استعداد روسيا لاحتمالات استخدامها قواتها النووية، إذا ما اضطرتها الظروف الدولية إلى ذلك، فرد: “إذا قرر شخص ما تدمير روسيا، فلدينا الحق القانوني في الرد”.
وفي حديثه عن السيناريو المحتمل لاستخدام روسيا للأسلحة النووية، وبعد استعراض ما سبق وأقدمت عليه الولايات المتحدة من استخدام هذا السلاح، في نهاية الحرب العالمية الثانية، أكد بوتين أن ذلك غير ممكن، إلا في إطار كونه ضربة انتقامية. واعترف الرئيس الروسي بأنه لا يمكن اتخاذ مثل هذا القرار إلا في حال تسجيل أنظمة الإنذار المبكر للهجوم الصاروخي ضد بلاده، إلى جانب تحديد التنبؤ الدقيق لمسار الرحلة ووقت سقوط الرؤوس الحربية على الأراضي الروسية.
واستطرد أن “هذا الأمر سيكون بالنسبة إلى البشرية كارثة عالمية، لكنني كمواطن روسي وكرئيس للدولة الروسية، أود أن أسأل نفسي ما حاجتنا إلى عالم لا مكان فيه لروسيا؟”.
وعلى الرغم من أن ما قاله بوتين كان يرتبط بمجرد الرد النظري على سؤال افتراضي، فإن ما يتضمنه من معان يقول في جوهره إن الدلالات تظل حاضرة في الأذهان، ويمكن استدعاؤها في حال استمرار تأجيج حملات دعاة الحرب وأنصار التلويح بالقوة العسكرية، من دون مراعاة لمصالح من يخالفهم الرأي ومن يواصل إصراره على حماية مصالحه الوطنية وأمن بلاده داخل حدودها التاريخية.
أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن روسيا تعكف على مواصلة دراسة ما جرى الإعلان عنه في يوليو (تموز) 2021 عن تغيير استراتيجية الأمن القومي لروسيا الاتحادية.
المصدر: اندبندنت عربية