حسان الأسود
على الخطى نفسها التي اتبعها سابقاً في شبه جزيرة القرم، وقبلها في أبخازيا وأوسيتيا، سار أمس القيصر الروسي الجديد، فلاديمير بوتين، نحو شرق أوكرانيا. مراحلَ متعاقبة قطعها واحدة تلو الأخرى، وخطواتٍ متدرّجة مشاها بأناة وثقة بالنفس، وضغوطاً هائلة كمن يقف على حافّة جهنّم مارسها بحق الجميع. إنّه داهية السياسة الفجّة، أو السياسي الأكثر حنكة وتأهيلاً لاستيعاب وهضم وتمثّل اللحظة الراهنة من تحوّل النظام العالمي الجديد. وعلى الرغم مما يكنّه المرءُ من كُره وحقد على هذا الرئيس الديكتاتور، بسبب ما ارتكبه بحق شعوب كثيرة من جرائم، فإنّه يقف باحترام أمام إصراره على النهوض ببلده من مستنقع الذلّ والاندحار الذي غرقت به قبل ثلاثين عاماً ونيّف، والمثل الدارج يقول: ما لا يطيبُ لك يطيبُ لغيرك.
لم يدّخر جهداً لإعادة إنتاج القوّة المفرطة التي كان يمتلكها الاتحاد السوفييتي المنهار، واستغلّ للوصول إلى ذلك كلّ سانحة، متسلّحاً بعزيمة وتصميمٍ لا يلينان، مستلهماً صبر رجال المخابرات السوفييتية (كي جي بي) ودهاءهم وصمتهم، وكيف لا وهو ابن الجهاز وربيب العقليّة! أعاد تجميع الأوراق المبعثرة، وخاض لأجل ذلك سلسلةً من جبال الهزائم والاحتقار والإذلال التي مارسها الغرب بحقّ بلاده، وما نهاية التاريخ التي حدّثنا عنها فوكوياما إلا بداية بالنسبة له، وما الإنسان الأخير الذي صوّره بثوب أميركي إلا أوّل المتبجحين عن نصرٍ زائفٍ، لم يقتنع به القيصر، ولم يسلّم له أشرعته ولا مجاذيفه.
مِن قضمِ الشيشان الذي استمرّ تسع سنين ابتدأت في 1990، إلى دعم انفصال أوسيتيا الجنوبية عام 1992 عن جورجيا، وإلحاقها بدعم استقلال أبخازيا عام 1993 عن جورجيا أيضاً، وصولاً إلى قضم جزيرة القرم عام 2014، وافتعال المشكلات مع أوكرانيا في إقليم الدونباس من خلال تحريض السكان الناطقين بالروسية والسكان من أصل روسي على الانفصال، وصولاً إلى الاعتراف يوم 21/2/2022 بحق الإقليم بالاستقلال من خلال دعمه قيام جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك.
لا تُنسى بالطبّع أهمّ حلقة في سلسلة نشاط بوتين المحموم لإعادة الهيبة للدبّ الروسي، وكيف ينسى السوريّون وقوفه مع بشار الأسد في وجه شعب سورية المنتفض. كانت تلك القفزة خارج حدود المجال الحيوي الأقرب لروسيا بمثابة إعلانٍ واضح لتغيّر قواعد اللعبة الدولية، فروسيا عام 2015 لم تعد روسيا عام 1995 عندما كانت الحرب في يوغسلافيا السابقة على أشدّها. لقد كانت سورية بما تحمله من موقع جيوسياسي استراتيجي مركزي في الشرق الأوسط، وبما تتوفر عليه من انقسام سياسي ومجتمعي هائلين، وبما يشير إليه تحكّم عصابة مارقة بها من جاهزيّة للانصياع والتبعية، كانت الساحة الأكثر فاعلية لإثبات جدارة القيصر في مقارعة خصومه.
غير جدير بالاعتبار القول إنّ روسيا ما كانت لتتدخّل في سورية لصالح الأسد لولا سماح أميركا لها، فهذا القول الذي ينطلق من تبسيط رهيب لأمور السياسة الدولية يرفع من مقام وقدرة الولايات المتحدة إلى سدّة المتحكم النهائي والأوحد بمصائر الدول والمجتمعات، وبالتالي بسيرورة التاريخ المعاصر، كما أنّه يجعل العلاقات الدولية مجرّد أوامر وتعليمات يمليها الأقوى على الأضعف، وهذا غير صحيح. العلاقات الدولية التي جوهرها المصالح لا تُبنى على التراضي دائما، ولا على الرغبات، فما نيلُ المطالب بالتمنّي، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. وصحيحٌ أنّه ما من مصالح تاريخية واستراتيجية لأميركا في سورية، لكنّ مصالحها بالضبط في عدم تمكين الفاعلين الدوليين الكبار في أية نقطة من العالم، لأنّ من شأن ذلك أن يضيف لخصومها مربّعاً وينقص من حصتها دائرة.
لقد استشعر القيصر الجديد سلف إيفان الرهيب مكامنَ الضعف في جبهات خصومه، ومنابع القوّة في جبهته، فانقضّ لا يلوي على شيءٍ في سبيل استعادة المجد الأعظم، حتى ولو كان على حساب شعوبٍ مزّقت أجسادَ أفرادها حرابُ جنوده وصواريخُ طائراته. وفي سورية، كان المثال الناصع الساطع الفاقع لجبروت الطغاة، فلا يعدمنّ المرءُ وسيلةً لفهم الرسائل المتعدّدة التي أطلقها الوحش الكاسر مع كل غارة جويّة أو قصفٍ صاروخي. لم تكن أجساد السوريات والسوريين ومدنهم وقراهم سوى لوحٍ يسجّل عليه القيصرُ خطوطه العريضة بالوقوف خلف الطغاة حتى النهاية، فهل تغيب عن البال مقارنة حكّام المنطقة ونظرائهم من المستبدين في العالم بين حليفٍ عنيدٍ لا يترك حلفاءه أبداً وحليف يبيعهم في أوّل بازار كما فعل ويفعل الأميركيون مع الحكّام العرب!
من سورية بدأ الدرس الكبير، فمنها أرسى القيصر أحجار الأساس لنظام عالمي جديد، وما طلعات طائراته الاستراتيجية وتحليقها في سماء فنزويلا، وما حشوده العسكرية المرعبة شرق أوكرانيا سوى توسعةٍ لدائرة البيكار التي مركزها دمشق، فهناك في دمشق، حيث نشأت المسيحيّة بصورتها الأرثوذكسيّة التي تعني بالحرف “الرأي الصحيح” (أو الاعتقاد الصواب)، والتي ما لبثت أن باتت عقيدة الكنيسة السلافية عرق القيصر، يكمن المحور الذي يريد بوتين الرهيب إعادة الأمور إلى الدوران حوله، وعندما تصبح دمشق مربط خيله، يصبح الطريق معبّداً أمام الإمبراطورية الجديدة لتصل إلى حدودها المشتهاة، وربّما حتفها اللامنظور.
المصدر: العربي الجديد