إبراهيم درويش
قال المعلق في صحيفة “الغارديان” جوناثان ستيل، إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين باجتياحه إقليمي دونيتسك ولوغانسك، قد خرق القانون الدولي، ودمّر أفضل المسارات الدبلوماسية وهي اتفاقيات مينسك.
وهذا أمر واضح، لكن ما هو غير مفهوم هو لماذا يفعل هذا؟ للإجابة على هذا السؤال علينا الدخول في عقله -كما يقول الكاتب- مع أن عددا من السياسيين والمحللين الإعلاميين زعموا أن بوتين ربما يعاني من خلل عقلي، وأنه معزول ومحاط بفقاعة من الرجال المطيعين الذين ليسوا مستعدين لتحذيره من المخاطر القائمة أمامه. وقال بعض المعلقين إنه يريد استعادة المجد السوفييتي، وإعادة خلق مجال التأثير على حدود بلاده، والهجوم الأول على شرق أوكرانيا، هو أول خطوة باتجاه الهجوم الشامل على العاصمة كييف، وأنه يريد الإطاحة بالحكومة هناك، بل وحتى التحرك ضد دول البلطيق. وكل هذه التأكيدات غير صحيحة.
ويرى ستيل أن بوتين هو رجل عقلاني ويفهم التاريخ الأوروبي الحديث. ولأنه جاء من الاتحاد السوفييتي، فتحميله لينين مسؤولية التأكيد على القومية المحلية في رسمه الدستور الروسي أمر مثير للدهشة، كما أن انتقاده للنخبة الوطنية بأنها المسؤولة عن تدمير الاتحاد السوفييتي حادة في نبرتها.
والسؤال، هل يريد بوتين إعادة عقارب الساعة للوراء؟
عادة ما يستشهد المحللون بما قاله الرئيس الروسي إن انهيار الإمبراطورية السوفييتية كانت “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”. لكن الاستشهاد غير كامل، فما لم ينقله المعلقون هو ما جاء بعده، حيث قال: “أي شخص لم يشعر بالندم على نهاية الاتحاد السوفييتي قلبه قاس، ومن يريد إعادته لا عقل له”. ومن المهم أن يفهم الذين يحاولون إنهاء الأزمة أو تخفيفها عقلية بوتين أولا.
وما حدث في هذا الأسبوع أن صبر بوتين قد نفد، وفقد السيطرة على أعصابه، فهو غاضب من الحكومة الأوكرانية، ويشعر أنها رفضت مرارا اتفاقيات مينسك التي منحت إقليمي دونيتسك ولوغانسك استقلالية كبيرة. وهو غاضب على ألمانيا وفرنسا الموقعتين على اتفاقيات مينسك، والولايات المتحدة لعدم ضغطها على الرئيس الأوكراتي فولدومور زيلينسكي لتنفيذ الاتفاقيات. وهو غاضب أيضا من واشنطن لأنها لم تتفهم مظاهر القلق الأمني الروسية بشأن توسع الناتو ونشر الصواريخ على الحدود الروسية. وبالنسبة لمن يقولون إن الناتو له الحق بدعوة أي دولة للانضمام إليه، ذلك أن بوتين يقول إن سياسة “الأبواب المفتوحة” مشروطة بمبدأ ثان والتي قبلتها الدول الأعضاء في الناتو وتقوم على أن تعزيز أمن دولة يجب ألّا يكون على حساب أمن الدول الأخرى، مثل روسيا.
ووقّع الرئيس باراك أوباما على هذا المبدأ في مؤتمر منظمة الأمن والتعاون في أوروبا. ويحتوي الإعلان على طموح مثالي رائع: “سنلزم أنفسنا بهذه الرؤية عن مجتمع أوروبي- أطلنطي ويورويشيا لا يمكن تقسيمه ويمتد من فانكوفر إلى فلاديفستوك”، وهو نفس ما تحدث عنه ميخائيل غورباتشوف تقريبا بعد نهاية الحرب الباردة، حيث ناشد أوروبا وروسيا العيش “في البيت الأوروبي الواحد”. ونحن نعاني اليوم من إجهاض هذا الحلم.
وبالنسبة لبوتين، فتوقيع أوباما على بيان منظمة الأمن والتعاون الأوروبي كان دليلا واضحا على النفاق الذي يعود إلى الرؤساء السابقين، والذين خانوا وعودهم لسياسة “الأبواب المفتوحة” ورفضوا محاولات روسيا المتكررة لجسّ النبض من أجل الانضمام إلى الناتو. وفي خطابه هذا الأسبوع، قال الزعيم الروسي إنه سأل بيل كلينتون حول إمكانية عضوية روسيا في الحلف، لكن كلينتون قدم جدلا لا معنى له بأن روسيا كبيرة جدا.
في عام 2000، وبعد أسبوع من توليه الرئاسة، سأل الإعلامي البريطاني ديفيد فروست في مقابلة على قناة “بي بي سي” سأل بوتين إن كانت هناك إمكانية لانضمام روسيا إلى حلف الناتو، فأجاب: “لا أستبعد هذا الاحتمال في حالة تم التعامل مع مواقف روسيا كشريك على قدم المساواة”.
واستعاد جورج روبرتسون، الأمين العام السابق للناتو، مقابلته لبوتين أثناء فترة عمله في الحلف: “سأل بوتين: متى ستقدمون لنا الدعوة لكي ننضم إلى الناتو؟ (روبرتسون): حسنا لا نقدم الدعوة إلى الناس لكي ينضموا إلى الناتو، فهم يقدمون طلبا”.
وخارج الناتو، شاهد بوتين كيف ظل الناتو يتوسع بشكل مستمر. وقال إنه لا يريد إحياء الاتحاد السوفييتي، ولكن إنشاء منطقة عازلة كما قال في العام الماضي “ليست معادية لروسيا”. وهو ما طلبه “جون إف كيندي” عندما حاول خروتشوف نصب صواريخ نووية في كوبا عام 1962.
ويطالب بوتين أوكرانيا بالعودة إلى الحياد الذي ظلت جزءا من الدستور منه حتى الانقلاب الذي أطاح بحكومة يانوكوفيتش عام 2014، وأدى إلى وصول القوى القومية الموالية لأمريكا. وفي ذلك الوقت كانت غالبية النواب الأوكرانيين يعتقدون أن وحدة البلد هشة وستظل آمنة لو لم تقع وسط الضغوط من موسكو والغرب. وكان موقف الناتو من عضوبة أوكرانيا هو ما دفع بوتين للسيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014، فقد خاف بوتين من سيطرة الأمريكيين على ميناء سيفاستبول، الذي يرابط فيه أسطول البحر الأسود الروسي.
ويقوم السرد الغربي على أن تحرك بوتين هو أول محاولة لتغيير حدود بلد بالقوة منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن الرئيس الروسي يرى في هذا السرد عبارة عن فقدان انتقائي للذاكرة، وينسى أن الناتو قصف صربيا عام 1999 لفصل كوسوفو وإنشاء دولة مستقلة.
ونظرا لاعتقاده أن الناتو لن يرفض عضوية أوكرانيا، فقد قرر اتخاذ الخطوات لمنعه، لأنه يعرف أن الحلف لن يوافق على عضوية الدول التي لا تسيطر على حدودها. وقسمت النزاعات المجمدة كلا من جورجيا ولاتفيا التي حولتها إلى دويلات مؤيدة للغرب. وتنضم أوكرانيا الآن إلى القائمة. وهناك توقعات عما سيحدث بعد ذلك، ولكن حسب رؤية بوتين، فقد حصل على ما يريد، ولا يريد إرسال قوات جديدة إلى هناك.
المصدر: “القدس العربي”