راغدة درغام
بين أكبر أخطاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه دخل حرباً من دون “استراتيجية خروج” منها، وأنه أساء التقدير والحسابات لردود فعل الرئيس الأميركي جو بايدن والقيادات الأوروبية وأعضاء حلف شمال الأطلسي (ناتو)، فضرب محاولات ردعه عن غزو أوكرانيا بعرض الحائط، وأسقط روسيا في مشروع حرب استنزاف للقوات الروسية في أوكرانيا ستكون أكثر كلفةً لروسيا من مغامراتها عند غزوها أفغانستان، ما أدّى للعدّ العكسي لنهاية الاتحاد السوفياتي.
السيد بوتين يبدو اليوم طاووساً مزهواً بنفش ريشه، يجرؤ على تهديد القيادات الغربية بحرب عالمية إذا حاولت إيقاف زحفه على أوكرانيا. واقع الأمر أن بوتين أغرق نفسه في مأزق أوكرانيا ولن يستطيع التراجع، ليس فقط لأنه لا يحسن لغة التراجع، بل لأن العقوبات الغربية بدأت نهش الاقتصاد الروسي قبل أن ينتهي فلاديمير بوتين من نهش أوكرانيا. ففات الأوان. الخطر يحدق بالعالم وبروسيا وببوتين نفسه، لكن لفلاديمير بوتين قراءة مختلفة. مشكلته ستبدأ بعد إتمام العمليات العسكرية مطلع الأسبوع المقبل، وعنوانها أن بوتين يفتقد استراتيجية خروج وكذلك استراتيجية بقاء.
واضح أن الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) لن تخوض حرباً ضد روسيا في أوكرانيا لإيقاف الغزو الذي أمر به فلاديمير بوتين هذا الأسبوع، وهذا ما راهن عليه سيد الكرملين عندما قرّر سحق البنية التحتية العسكرية، وتحويل أوكرانيا دولة منزوعة السلاح.
لم يكتفِ بوتين بمنطقة دونباس وكل الجمهوريات المنفصلة لضمان توسيع حدودها عبر العملية العسكرية الروسية، بل جهّز القوات الروسية لتلعب دور “إنقاذ السلام” هناك، وليس “حفظ السلام” في حال التوصّل لاحقاً الى تسوية سياسية. ذلك أن تعريف “إنقاذ” السلام يتطلّب من القوات الروسية الاحتفاط بأسلحتها الثقيلة وكامل ترسانتها، فيما “حفظ” السلام يقتضي أسلحة خفيفة لا تتناسق مع ما في ذهن الرئيس الروسي. وفي ذهنه أكثر من شرق أوكرانيا.
لا نعرف بعد كامل مشروع بوتين داخل أوكرانيا وفي مواجهة حلف الناتو، لكن نطاق العمليات العسكرية أفاد بأن في بال بوتين تطويق الداخل الأوكراني ومنعه من الوصول الى البحر الأسود عبر بوابة أوديسا القريبة من القرم، والتي يبدو مقبلاً على السيطرة عليها. هذا الى جانب تطويق العاصمة كييف انطلاقاً من روسيا البيضاء، بيلاروسيا، بما يؤدي الى إسقاط النظام هناك واستبدال نظام موال لروسيا به على نسق ذلك الذي في بيلاروسيا الآن.
هكذا يكتمل مشهد استرجاع العظمة الروسية والعظمة السوفياتية التي يحلم بها الرئيس الروسي، ويجلس بوتين الى طاولة المفاوضات مع الناتو بأوراق جديدة للتفاوض على الضمانات الأمنية التي طلبها من الولايات المتحدة والناتو، ولاقت استهتاراً غربياً فجّر انتقام بوتين وفعّل مشاريع غزوه أوكرانيا لإيقاف الغرب عن مسيرة توسيع عضوية حلف شمال الأطلسي، بما يهدّد الأمن القومي الروسي، بحسب تفكير فلاديمير بوتين ومؤسسته العسكرية.
فغطرسة الرجل وعنجهيته تعرّضتا، في رأيه، الى إهانة ووقاحة الغرب، فقرّر نسف النظام العالمي برمّته لإعادة خلط الأوراق والمساومات على ترتيبات جديدة لنظام دولي جديد.
العقوبات الغربية التي كان يعلم الكرملين أنها ستكرسح الاقتصاد الروسي، ولربما تطال الرئيس الروسي نفسه، لم تردع فلاديمير بوتين عن غَزو أوكرانيا. لكن عندما يبدأ مفعول العقوبات التي ستطال كامل القطاعات وقد تحوّل روسيا الى إيران، عندئذ قد يضطر فلاديمير بوتين الى إعادة الحسابات وإعادة النظر، بالرغم من اعتماده الآن على شركاء أساسيين له في المعركة المصيرية، وفي طليعتهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
فالصين، بالرغم من دعمها السياسي لروسيا، فإنها لن تلبّي مغامرات بوتين، لا سيّما بعد أن يفرض الغرب عقوبات ماليّة تدمِّر من يتعامل مع روسيا. لكن إيران جاهزة بالرغم من مخاوفها من تأثير المواجهة الأميركية – الروسية على مصير مفاوضات فيينا لإعادة إحياء الاتفاقية النووية JCPOA ورفع العقوبات عنها. فقد بدأت المواجهة الروسية مع أربع دول تشارك في مفاوضات فيينا – الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا – وانطلقت العمليات العسكرية في أوكرانيا قبل وضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية فيينا. ليس واضحاً إن كانت التطورات ستؤجِّل أو ستعرقل محادثات فيينا، علماً أن الجميع كان يتمنى الانتهاء منها قبل المواجهة. الواضح أن الكل يلتهي الآن بالأولوية الروسية – الأوكرانية.
بوتين سيحتاج إيران أكثر في مرحلة المواجهة، لأنه يريدها شريكاً سياسياً وعسكرياً وشريك الغاز والنفط في حروب العقوبات. لكن لا يبدو الرئيس الروسي مهتماً الآن بإفشال محادثات فيينا، لأن نجاح المفاوضات سيؤدّي الى تحرير إيران من العقوبات. وبما أن هناك صفقة أسلحة بنحو 8 مليارات دولار بين روسيا وإيران، فإن رفع العقوبات سيكون في المصلحة الروسية. لكن في أي حال، لدى فلاديمير بوتين مشاريع التأثير في أسواق النفط والغاز من خلال الشراكة الروسية – الإيرانية وعبر اختلاق مشكلات كبرى للاقتصاد الأميركي والأوروبي، كما عبر حيل لضرب استقرار الأسواق.
الصين ستكون رابحة في كل الأحوال، ولذلك لن تكون حليفاً لروسيا في حربها مع الغرب. فللصين مشاريعها الخاصة بها في إطار المنافسة مع الولايات المتحدة. وللصين حسابات تختلف عن حسابات روسيا، بالرغم من تعاضد الاثنتين في وجه الولايات المتحدة خاصة، وفي المعركة العامة مع الغرب، فالصين لن تتورّط في حروب الآخرين، عكس إيران. وهي تقرأ المشهد الأوكراني كما يبدو للجميع، باستثناء فلاديمير بوتين وقاعدته الشعبية: ساحة استنزاف attrition لروسيا في أوكرانيا.
الكلام ليس عن حرب سيبرانية لا نعرف معالمها بعد. الكلام هو عن حرب تقليدية تنطلق من مقاومة أوكرانية للقوات الروسية تُنزل الخسائر الكبرى بها، لا سيّما عندما ستحتاج هذه القوات والترسانة الحربية الى إعادة التأهيل إذا تقرّر بقاؤها. فأوكرانيا دولة من 40 مليون نسمة معظمها يكره روسيا، خصوصاً الجيل الجديد ما بعد 1991 وهو الجيل القادر على حرب الاستنزاف. بقاء القوات الروسية للسيطرة على 40 مليون نسمة يتطلّب تكريس نصف مليون جندي روسي للمهمة، وهذا شبه مستحيل.
ربما لهذا يخاف فلاديمير بوتين من احتلال العاصمة كييف التي يقطنها 5 ملايين نسمة. فالكلفة عالية ومصيريّة، لكن قراره هو فرض حكومة تابعة له في كييف بعد قبع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. فكيف؟
المشكلة تكمن في بقاء القوات الروسية في أوكرانيا، عندئذ تغامر روسيا بتكرار تجربة أفغانستان. فكيف يمكن لبوتين السيطرة على أوكرانيا من دون قوات روسية؟ هذه هي المعضلة. الرئيس الروسي أراد تحويل أوكرانيا “محميّة” تديرها حكومة وصاية protectorate تتلقى تعليماتها من موسكو. لكن هذا مشروع لا يبدو قابلاً للتنفيذ، لا سيّما على المدى البعيد. ولذلك، بوتين في ورطة عدم توفّر استراتيجية بقاء لديه، ولا استراتيجية خروج له من أوكرانيا. وهذا خطير جداً على روسيا بحد ذاتها.
بماذا كان الرئيس بوتين يفكّر عندما خاض هذه المغامرة؟ بالتأكيد. كان يفكّر بمجد روسيا السابق وكذلك بعظمة الاتحاد السوفياتي الذي بكى على انهياره. اعتقدَ أن الولايات المتحدة وبقيّة دول الناتو ستخضع وتلبّي مطالبه المعنيّة بالضمانات الأمنية، والتعهّد بعدم توسيع عضوية الناتو، بدءاً بعدم انتماء أوكرانيا اليه، والحد من التعاون العسكري الغربي في أوروبا الشرقية. اعتقدَ أنها ستفعل ذلك أمام الخوف من جبروت روسيا في أوكرانيا. وهو لا يزال يراهن على إكراه الغرب الى طاولة المفاوضات لتلبية مطالبه من خلال تصعيده عسكرياً وتخويفه هذه الدول من حرب أوروبية وعالمية.
المشكلة أن فلاديمير بوتين لن يتراجع بل سيذهب الى أبعد وأبعد، تحت سوط العقوبات وازدياد العزل والإدانة. قد يختلق عذراً لدول الناتو لتتورّط في حرب مباشرة معه، أما على الحدود الأوكرانية – البولندية، أو عبر توريطه أي دولة أوروبية شرقية تنتمي الآن الى حلف الناتو. فالولايات المتحدة وبقية الدول الفاعلة في الناتو تعهّدت الرد عسكرياً إذا ما وسّع بوتين العسكرة الى هذه الدول. وهنا الخطورة، خطورة الانزلاق الى حربٍ شبه عالمية.
الآن، لقد دخلت روسيا الحرب الباردة مع الغرب، وبدأ الغرب إسدال الستار الحديدي عليها عبر عقوبات تمنعها من تطوير قدراتها العسكرية أو تمويل جيشها، وتكبّل كامل اقتصادها وتضعها وشعبها وراء الستار. العقوبات التي أعلنها الرئيس الأميركي والقادة الأوروبيون تشلّ حركة البنوك والمعاملات المالية للشركات الروسية التي لن تتمكّن من استخدام عملة الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني. وهي عقوبات تدقّ في عصب حياة المواطن الروسي.
العقوبات كبّلت مشروع أنابيب “نورد ستريم2” بين روسيا وألمانيا والذي أراده بوتين وأراده كثيراً. إنها عقوبات تكنولوجية تشلّ قطاع النفط والغاز، الأمر الذي يؤثر جذرياً في هذه الصادرات الروسية. إنها عقوبات تكنولوجية تضرب الإنترنت الروسي الذي يمر 80 في المئة من كابيلات له عبر الولايات المتحدة. عقوبات تمنع روسيا من تصنيع الشرائح chips، الأمر الذي قد يؤثّر في برامج الفضاء الروسية. عقوبات عديدة وكثيرة قد لا يكون الشعب الروسي استوعبها بعد. وهذه أيضاً مشكلة لفلاديمير بوتين.
فالشعب الروسي سيدخل في نفق الظلام الذي لن يخرج منه، لأن لا أفق هناك لتراجع بوتين أو تراجع الغرب. روسيا ستضعف أكثر، فيما الناتو سيزداد وحدةً وقوةً بفضل غزو بوتين لأوكرانيا. سيجد الشعب الروسي نفسه معزولاً عن بيئته الأوروبية، يدفع ثمن حرب الضمانات الأمنية التي جعل منها الرئيس الروسي هوساً له، ويقع ضحية عقوبات تعيده الى زمن الاتحاد السوفياتي. قد لا يدرك الآن وحالاً وطأة العقوبات والعزل والستار الحديدي والحرب الباردة، لكنه سيشعر بها عاجلاً، فماذا سيفعل الشعب الروسي إزاء اقتياد رئيسه له الى الهاوية؟
هذه بداية حرب وليست نهايتها، وبالطبع، إن ميدان المعارك يُملي نتيجة الحرب. قد تكون هناك مفاجآت تقلب الطاولة وتضع الولايات المتحدة والناتو برمّته في موقف أضعف، لا سيّما أن تهمة “الخيانة” تلاحق الناتو، وبالذات الولايات المتحدة، بسبب عدم التدخل عسكرياً لإنقاذ أوكرانيا. ثم إن الكلفة الاقتصادية للدول الأوروبية وللولايات المتحدة ستتربّص بالقيادات الغربية عبر احتجاج قد يعود الى الفكرة الأصليّة التي أطلقت الحرب، وهي عضوية أوكرانيا في حلف شمال الأطلسي. فكثيرون لا يوافقون قياداتهم على أن توسيع عضوية الناتو تستحق حرباً عالمية، وكثيرون أيضاً يتعاطفون مع فكرة دفاع روسيا عن أمنها القومي أمام توسع الناتو، مع أنهم يعارضون قطعاً الرد الروسي عبر الحرب الأوكرانية.
إنها حرب الضمانات الأمنية التي أخذت القارة الأوروبية الى منعطف خطير، لا سيّما بعدما أُغلِقت النافذة الدبلوماسية. المشوار طويل. وللحديث بقية.
المصدر: النهار العربي