سمير رمان
يُعدُّ فيكتور هوغو أحد أكثر الكتاب الكلاسيكيين تألقًا وحيوية. بزّ بعظمته الإبداعية، وقوة خياله، وبمواهبه المتعددة، جميع معاصريه من الأدباء، حتى يمكن أن نقول في حقّ هوغو كلماته نفسها التي سبق أن قالها هو يومًا في حقّ فولتير: “فولتير ليس مجرد إنسان عادي. إنّه عصر بكامله”.
بالفعل، وخلال عقودٍ طويلة، كتب هوغو الأشعار والقصائد، وألف القصص والروايات، وكتب المقالات والدراما، ليكون نموذج عبقرية مدهشة من حيث التنوع وغزارة الإنتاج. وفوق ذلك كلّه، عاش عمرًا مديدًا، ليغادر بعد أن بلغ الثانية والثمانين الساحة الأدبية والدنيا في الوقت ذاته تقريبًا. ولأنّه جمع في ذاته كثيرًا من أوجه ثقافة وأدب وتاريخ القرن التاسع عشر، استحق بجدارة لقب “رمز العصر”.
الرومانسية في مواجهة الكلاسيكية
في الرابعة عشرة من عمره، كتب هوغو في يومياته: “إمّا أن أصبح شاتوبريان آخر، أو لا أحد”، ليكون بذلك قد اختار لنفسه مثلًا أعلى.
قال عنه بوشكين إنّه “معلّم جيل الكتاب بأكمله”. من جانب آخر، وصف شاتوبريان هوغو بـ”الفتى المعجزة”. وبالفعل، فقد ظهرت مواهبه في وقتٍ مبكر جدًا، وحصل في الخامسة عشرة من عمره على تشجيع مميز بعد مشاركته في مسابقة شعرية نظمتها الأكاديمية الفرنسية. وفي الثامنة عشرة، أصدر وأخوه أبيل مجلة أدبية، لينال أول جوائزه عن قصيدتين نظمهما في تمجيد الملك. في ذلك الوقت، كان هوغو الشاب ملكي النزعة شاطر أمّه أفكاره، بعيدًا عن ميول الوالد الجمهورية، الذي انفصل عن زوجته عام 1813، لتحدث القطيعة بين الوالد وابنه عشر سنوات كاملة قبل أن تعود الأمور بينهما إلى مجاريها.
في هذه المرحلة، كانت التوجهات الرومانسية الجديدة تجذب هوغو أكثر فأكثر: نشر عام 1823 رواية “هان الأيسلندي”، التي كتبها بالأسلوب القوطي السائد حينئذٍ. وفي عام 1826، أصدر مجموعة شعرية بعنوان “قصائد وأهازيج” أظهرت تراجع الشاعر عن الأسلوب الرومانسي. أما في عام 1827، فكتب مسرحية “كرومويل”.
كمنظّم رائع، وكرئيس لحلقة أدبية، أصبح هوغو زعيم الكلاسيكيين الفرنسيين، ليقود معهم معركة “في سبيل الرومانسية” في المسرح. كان المسرح الفرنسي حصن الكلاسيكية المنيع، الذي نال الشهرة على أيدي كلاسيكيين عظام، أمثال كورنيل، راسين، وموليير. في تلك الأثناء، كانت طموحات هوغو تتركز على تأليف الدراما التي تسود فيها ليس القواعد الصارمة، بل حرية الخيال المبدع، حيث تتصارع في نماذجها الرمزية قوى الخير والشر المتناقضة. جاء انتصار الدراما الإبداعية عام 1830 من خلال مسرحية هوغو “إيرناني”، التي قابلها الجمهور بردة فعلٍ عاصفة. حتى عام 1840، كانت أغلب كتابات هوغو لصالح المسرح: “الملك يلهو”؛ “ماريا تيودور”؛ “روي بلاز”، وهي المسرحيات الأكثر شهرة، حيث سادت فيها الحرية الجمالية، وثورية وجهات النظر السياسية الجريئة.
مصلح الشعر الفرنسي
في فرنسا، اشتهر هوغو كشاعر قومي عظيم، وكمصلح في نظم الشعر، ومكتشفٍ لكثيرٍ من المواضيع الشعرية. في مجموعة “زخارف شرقية”، قدّم هوغو للجمهور الأدبي عالم الشرق البعيد بألوانٍ زاهية، في توجّهٍ واضح صوب تأملات فلسفية غنائية عن الطبيعة والبشر، كما في مجموعات شعرية: “أوراق خريفية”؛ “أغاني الشفق”؛ “أصوات داخلية”، وغيرها، كما استعرض قوة موهبته الساخرة في قصيدة “الانتقام”.
وفي قصيدته “أسطورة القرون”، جمع هوغو بين الملحمة والأغنية، ليعبّر فيها عن توق العقل البشري إلى الانفلات خارج حدود الكرة الأرضية، وإلى الغوص في فضاءات الكون، وتجاوز المسافات بين النجوم بقوة الخيال الإبداعي، وكشف ما وراء الحجب، وفهم ما لا يمكن فهمه، وتوحيد النهائي (الإنسان) باللانهائي (الكون).
نصير العدالة
مآثر فيكتور هوغو النثرية متعددة ومتنوعة، فهو الذي ابتكر مواضيع ديناميكية جذابة، مشبعة بقضايا جمالية معقدة. وهو لم يكتب وحسب، بل رسم بدقة وإلهام في الوقت نفسه. الجملة المعتادة: “يجد القارئ أبطال الأدب يقفون أمامه أحياءً”، التي تقال بحق أبطال هوغو، ليست جملة فارغة، أو مديحًا فارغًا. أبطال رواياته التي ليس لها روح، مثل كنيسة نوتردام الباريسية، جعل الآلاف، بل ملايين البشر، الذين لم يحظوا بزيارة الكنيسة يرونها حيّةً بجميع ألوانها، وبكلّ تفاصيلها، بشكلٍ أجمل بكثير مما هي عليه على البطاقات البريدية، أو في الكتيبات السياحية. علاوة على ذلك، فإنّ وصف كنيسة نوتردام الرائع في الرواية أحدث يومها انقلابًا في ذوق الفرنسيين المعماري، الذين لم يلحظوا من قبل جمالية هذا الصرح. يمكن القول إنّ البشرية تشعر بالامتنان لفيكتور هوغو في الحفاظ على كنيسة نوتردام حتى ما قبل الحريق الكبير المأساوي الذي أتى على معظمها في 15 أبريل/ نيسان من عام 2019، وفي إمكانية ترميم كثير من التفاصيل المعمارية في ما بعد.
كان نشر رواية “أحدب نوتردام” نجاحًا باهرًا للكاتب. لقد ظهرفي فرنسا أول كاتب عظيم في مجال الرواية التاريخية، ليستمر الإعجاب العظيم بهذه الرواية طيلة القرن التاسع عشر، وليقرأها في القرن العشرين باهتمام كبير الملايين من البشر في كافة أرجاء العالم.
ساهم حريق 2019 في عودة الاهتمام من جديد بالرواية، فأصبحت على رأس الكتب المطلوبة، الأمر الذي تطلّب إعادة إصدارها، ليتخاطف القراء جميع النسخ المطروحة للبيع. وهذا أمر منطقي، فالرواية كانت بمثابة درع ناطق يدعو إلى الحفاظ على إرث فرنسا المعماري القديم.
أصبحت روايات هوغو التالية: “البؤساء”؛ “عمال البحر”؛ “الرجل الذي يضحك”؛ أو رواية “عام 93″، حدثًا في حياة ذاك العصر الأدبية والاجتماعية. إزميرالدا، وكوازيمودو، جان فالجان، وفانتينا، غافروش، وكوزيت، ليست مجرد أسماء معروفة لدى القرّاء، بل هم أبطال روايات هوغو الذين وقفوا أحياء أمام القراء. أمّا الرؤية الواضحة، وروعة توصيف الشخوص بشكلٍ حيّ، التي كانت من ميزات لغة الكاتب، فكانت آخر العوامل التي لعبت دورًا في شهرة هوغو عند صناع السينما. يعد الخبراء أنّ رواية “البؤساء” تقف على رأس أعمال هوغو التي نقلت إلى السينما: كان أولّها فيلم ظهر عام 1913، وآخرها عام 2019. لكن الأمر الأهم ليس هنا، فلم تكن روعتها التصويرية هي ما جعل ليو تولستوي يرى في رواية “البؤساء” أفضل رواية في القرن التاسع عشر كلّه، كما لم تكن السبب الذي جعل فيودور دوستويفسكي يقول إنّه على قناعة بأنّها أفضل من روايته “الجريمة والعقاب”. روايات فيكتور هوغو تؤلم حتى النخاع، لأنها تجمع أيضًا بين الأحداث الخارجية الفريدة، وبين الصراعات الأخلاقية الداخلية التي يتطلب حلّها أن يعمل أبطالها والقراء معًا، وكذلك لأنّ هوغو يطرح في كلّ كتابٍ من كتبه مشكلة اجتماعية مهمة، ويقف نصيرًا مدافعًا عن العدالة الاجتماعية.
عبقري عالمي ومواطن حقيقي
عندما نقول إنّ فيكتور هوغو كاتب عظيم، فإننا نقول ذلك من دون أن ننسى نشاطه في المجالات المدنية الأخرى: فهو رسام رائع، بدأ الرسم منذ نعومة أظفاره، وخلف قرابة 400 لوحة وعمل غرافيكي. وهو مواطن شارك بنشاط في الحياة الاجتماعية والسياسية في فرنسا، وأصبح عضوًا في البرلمان. بعد وصول نابليون الثالث إلى السلطة، غادر فيكتور هوغو فرنسا، وأقسم أنه لن يعود إليها إلا بعد تحررها من “نابليون الصغير”، كما سمّاه، وقد وفى هوغو بقسمه. كان هوغو أحد المحتجين على عقوبة الإعدام، فكتب عن الموضوع في روايته “آخر يوم لمحكوم بالإعدام” عام 1829، وفي قصة “كلود غو” (1834). كان هوغو يقف على الدوام في صفّ الملاحَقين، المضطهدين، والمستعبدين. وفي جميع كتبه، وخطاباته، وقف هوغو الإنسان مدافعًا عن مُثِل الخير الأبدية، ومنافحًا عن الطيبة والعدالة والحرية.
المصدر: ضفة ثالثة