عبد الباسط سيدا
الأزمة المتدحرجة بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة ثانية، من أكثر الأزمات خطورة وجدّية منذ نهاية الحرب الباردة على أثر تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991، إن لم نقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1939-1945، وهي أزمةٌ أعمق وأشمل مما تبدو عليه الآن، فالموضوع لا يقتصر على امتناع الولايات المتحدة أو الحلف الأطلسي عن تقديم ضمانات أنّ أوكرانيا لن تصبح مستقبلاً جزءاً من المنظومة الأطلسية الدفاعية، التي شملت منذ تفكّك الاتحاد السوفييتي 14 دولة من أوروبا الشرقية: إستونيا، ليتوانيا، لاتفيا، بولندا، المجر، رومانيا، التشيك، سلوفاكيا، بلغاريا، سلوفينيا، ألبانيا، كرواتيا، الجبل الأسود، مقدونيا الشمالية؛ وإنّما للموضوع علاقة برغبة روسية واضحة لاستعادة دور القوة العظمى على المستوى العالمي، فروسيا، التي كانت تعتبر نفسها في مرحلة الاتحاد السوفييتي القطب الثاني الندّ للقطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة، فَقَدت الدور والوزن اللذين حظيت بهما سبعين عاماً، وذلك بعدما فقدت السيطرة على الدول التي تعدّها مجالها الحيوي؛ بل انفصلت عنها مجموعة من الجمهوريات ذات الحكم الذاتي لتصبح دولاً مستقلة، هذا على الرغم من أنّ غالبيتها ما زالت خاضعة للنفوذ الروسي من خلال الحكومات التي تحصل على دعم مباشر من موسكو لمواجهة التحرّكات الشعبية المناهضة لاستبدادها وفسادها.
لقد حاولت روسيا في مرحلة بوتين اعتماد الأيديولوجيا الأوراسية لتوسيع دائرة نفوذها، واستعادة مكانتها في الدول المحيطة بها، وهي الدول والمناطق التي اعتبرتها دائماً بمثابة حدائقها الخلفية. لكنّ المشكلة التي تعاني منها أنّ هذه الأيديولوجيا لا تقنع الأوروبيين ولا الآسيويين في الوقت ذاته، فالدول الأوروبية بصورة عامة، الغربية منها والشرقية، ترى في الاتحاد الأوروبي النموذج المقبول المعقول للعمل الجماعي بين الدول المستقلة بالفعل.
أما الدول الآسيوية المعنية المؤثرة، فإنّ غالبيتها ترى في الأيديولوجيا المعنية محاولة روسية أخرى للهيمنة والسيطرة، وما يعزّز هذا الإنطباع هو النزوع القومي الأرثوذكسي الروسي اللافت الواضح في خطابات بوتين وممارساته وأركان حكمه.
كان بوتين يراهن على ضعف الديمقراطيات الغربية، وانشغال الحكومات الأوروبية بالحسابات الانتخابية، واستعدادها لعقد الصفقات السرية والعلنية مع الأنظمة المستبدة من أجل تأمين المواد الأولية وأسواق التصريف، ومن ثم توفير مزيد من فرص العمل في الداخل، الأمر الذي من شأنه كسب الرأي العام وتعزيز فرص الفوز في الانتخابات.
كما كان يعلق الآمال على تنامي الحركات القومية العنصرية التي استلهمت من نظامه الكثير، بل استفادت منه بطرقٍ شتى؛ وفي الوقت ذاته، كان يركز على الصين، في محاولة منه لكسبها إلى جانبه، لا سيما أنّ لها، هي الأخرى، موقفاً من الموضوع التايواني الذي يتماثل في أوجه عدة مع موقف روسيا بوتين من أوكرانيا.
غير أنّ الموقف الغربي المتماسك، سواء ضمن الاتحاد الأوروبي أو ضمن الحلف الأطلسي، والتنسيق التام بين الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي، بدّدا كلّ أوهام العظمة والقدرة على السيطرة من خلال القوة العارية التي تمثل الخلفية التي يمكن بناءً عليها فهم (وتفسير) جانب كبير من سلوكيات الرئيس الروسي بوتين وخططه، فبعد الضربة التدميرية القاصمة التي وجهها إلى غروزني في 1994 – 1995، وتدخله في جورجيا عام 2008، وأوكرانيا عام 2014، وسورية في عام 2015، ظنّ أنّ الباب قد أصبح مفتوحاً أمامه لالتهام أوكرانيا بالكامل والتوجّه نحو دول البلطيق، وربما بولندا وغيرها، الأمر الذي كان سيشكل تهديداً مباشراً لدول الشمال في أوروبا الغربية، وذلك كلّه سيضع الأنظمة الديمقراطية أمام التحدّيات الصعبة، من جهة إعطاء الدفعة للحركات اليمينية الشعبوية المتشدّدة التي لا تؤمن أصلاً بالقوانين والقواعد الديمقراطية، وإنّما تستغلها من أجل الوصول إلى السلطة؛ وكذلك من ناحية دعم الأنظمة المستبدة في العالم. بل وترويج ثقافة الاستبداد، وإشاعة فكرة قدرة الأنظمة الاستبدادية على تجاوز نقاط ضعف الأنظمة الديمقراطية ومثالبها.
الأنظار الغربية حالياً متركزة على الصين. هل ستتدخل لتضعف تأثير العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة على روسيا؟ أم ستعطي الأولوية لمصالحها وتوجّهاتها التقنية والتجارية التي فتحت لها المجال والآفاق في مختلف أنحاء العالم؟ هذا في حين أنّ روسيا ركّزت على التقنيات العسكرية، واعتمدت الأسلحة الاستراتيجية وسيلة للتمدّد والتهديد بغية الوصول إلى مناطق عديدة، بما فيها مناطق في الشرق الأوسط وأفريقيا وحتى أميركا اللاتينية، فروسيا على الرغم من مواردها الطبيعية الهائلة، سواء على صعيد النفط والغاز والمعادن أم على صعيد القدرات الزراعية والموارد البشرية المتخصّصة، ما زالت متخلفة قياساً إلى غيرها في ميدان الصناعات الحديثة، فهي تأتي في المرتبة الحادية عشرة أو الثانية عشرة اقتصادياً بعد الهند وكندا. ومن المرجّح أن تتسبّب مغامرتها الأوكرانية والعقوبات الصارمة التي ستعاني منها كثيراً في تراجع اقتصادها، الأمر الذي سيفاقم من مشكلاتها الداخلية، وهي مشكلاتٌ كبيرة في الأساس بفعل الفساد المنتشر، وجشع مجموعة من أثرياء المرحلة الانتقالية الذين راكموا ثرواتهم بفعل علاقاتهم المصلحية المثيرة للجدل مع المجموعة المهيمنة ضمن دائرة الحكم.
ستكون تداعيات الأزمة الأوكرانية كبيرة وقوية، ففي روسيا، وبعد تفاعل نتائج العقوبات القاسية، من المرجح أن تنشط الحركة المعارضة لبوتين، بعدما ثَبُت للداخل الروسي أنّ النزوع التوسعي العسكري والاستبداد الداخلي لم يؤدّيا سوى إلى تراجع مستوى الدخل وقمع الحريات. لكنّ المشكلة هنا أنّ القيادة الروسية الحالية لم تتخلّص بعد من النزوع الإمبراطوري بمعناه التقليدي، فهي ما زالت تخطّط وتعمل من أجل استعادة السيطرة المباشرة على الدول والشعوب التي كانت خاضعةً للإمبراطورية الروسية قبل الثورة الشيوعية وبعدها. وهي تعمل على شيطنة أيّ فعل معارض عبر وصمه بتهمة العمالة للغرب، فهاجس الانتقام من الغرب هو الذي يتحكّم بسلوكيات هذه القيادة واستعدادها، وما زال هذا الهاجس هو المحرّك الذي تتمركز حوله حملات الدعاية التي تشرف عليها القيادة المعنية، سواء عبر وسائل الإعلام التقليدية أو من خلال وسائل التواصل.
فروسيا، عوض أن تأخذ بتجارب اليابان والألمان بعد الحرب العالمية الثانية، ما زالت تعيش المشاعر ذاتها التي كانت سائدة في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، بعد الشروط القاسية التي فرضتها عليها دول الحلفاء في فرساي عام 1919؛ هذا مع فارق الحالتين. فألمانيا كانت قد هُزمت عسكرياً، في حين أنّ الاتحاد السوفييتي كان قد تفكّك داخلياً نتيجة تراكم عوامل الفساد، ومساوئ الإدارة وتراكم تبعاتها على مدى العقود. وقد جاء هذا التفكّك بعد الإصلاحات التي دعا إليها غورباتشوف في سياق عمليتي البيريسترويكا والغلاسنوست، وهي إصلاحاتٌ لم تجد طريقها إلى النور بفعل تحرّكات لجنة الطورائ، ومن ثم الانقلاب الذي جاء بيلتسين، وشاركت فيها مجموعة من القيادات التي كان غورباتشوف يدعو أصلاً إلى إبعادها ومحاسبتها. وما حصل بعد ذلك أن تلك القيادات استمرّت، وبعضها انتقل إلى جمهوريات الاتحاد السوفييتي ذات الحكم الذاتي، لتصبح على رأس الدول المستقلة التي ما زالت تعيش واقع الفساد والاستبداد، فتجربة غورباتشوف لم تأخذ فرصتها، بل اتهم صاحبها بأقذع الصفات، سواء من المستفيدين من المرحلة السوفييتية أم من الذين استغلوا واقع انهيار الاتحاد السوفييتي ليؤدّوا أدواراً جديدة تتناسب مع المتغيرات والمعطيات المستجدّة. وهذا يذكّرنا بواقع ما حدث لألكسندر دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا نتيجة الغزو السوفييتي لبلاده عام 1968، والقضاء على التجربة الإصلاحية التي ربما كانت، في حال نجاحها، إنقاذاً لروسيا نفسها.
هل ستقنع الصين عدوتها العقائدية السابقة وصديقة الحاجة الراهنة بإمكانية العودة إلى موقف القطب المؤثر في النظام العالمي الجديد، اعتماداً على الاقتصاد والتقنية والبحث العلمي السلمي؟ أم أنّ القيصر الجريح سيتابع ما بدأ به، حتى ولو أدرك، في قرارة نفسه، أنّه سيخفق في مغامرته الأوكرانية المكلفة كما أخفق نابليون قبله في مغامرته الروسية؟ لكن، في جميع الأحوال، تظلّ الحروب، بكلّ أنواعها، بشعة قاسية، تدمّر الاجتماع والعمران وتحطّم الإنسان، وتبقى الدبلوماسية العقلانية أفضل الوسائل لحلّ النزاعات.
المصدر: العربي الجديد