يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد):
“الاستبداد لو كان رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: “أنا الشر وأبي الظلم وأمي الإساءة، وأخي الغدر وأختي المسكنة، وعمي الضر وخالي الذل، وابني الفقر وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة ووطني الخراب، أما ديني وشرفي وحياتي فالمال المال المال.“.
من هذا الاقتباس تأتينا نسماتٌ خفيّةٌ تُعلمُنا أنّ عقيدةَ الاستبداد برمتها قائمةٌ على المال، وذلك عن طريق كسب المؤيدين عبر إغرائهم بحفنة نقود من بعد تجويعهم سنين طوال. يتمّ صهرهم وقهرهم وإعدادهم للمرحلة الحاسمة التي سيتمّ حشدهم فيها ليكونوا خط الدفاع الأول عن دولة الاستبداد عند اندلاع البركان مع ثورة عامة الشعب على السلطة.
في عام 2011، حصل في سورية ما كانت تخشاه بؤرة الشر الحاكمة إذ اندلعت ثورة شعبية عفوية سرعان ما تمت مواجهتها عبر كسب الولاءات من ضعاف النفوس الذين يلهثون وراء أكياس النقود لهاثَ كلبٍ جائع ٍ خلفَ قطعةِ لحم.
ظلّ النّظام يستأجر أحلافه الداخليين وعملاءه وتمويههم بمسمّيات متعددة (باحث سياسي، صحفي، خبير استراتيجي، عضو مجلس شعب، فنان في قطاع التمثيل أو أي قطاع آخر)، إضافة إلى قطعان الشبيحة التي تشبه إلى حد كبير عصابات الحشاشين الأسطورية والذين تم إطلاق سراح معظمهم من السجون مقابل أن يلعبوا دور البعبع المرعب لكسر إرادة الشعب، أو التنكر بهيئة مقاتلين معارضين يعيثون في الأرض فساداً بغيةَ إفساد صورة الثائر في نظر العامة أو تقويض البنية الثورية عبر إرسال تقارير استخباراتية لأسيادهم
لم يكن بمقدور نظام الاستبداد الهمجي هذا تبرير أفعاله إلا من خلال تسميم عقول المتابعين بنظريات المؤامرة الكونية على محور الممانعة، والحرب الأهلية بين شرعيته وقطعان الجماعات الإسلامية المتطرفة الإرهابية.
بهذه الحجج كسب ودّ المجتمع الدولي الذي وزّع الأدوار حسب الأهمية على أفراده، فهنالك من لعب دور المؤيد الحامي لبشار وعصابته وهناك من ادّعى وقوفه مع الشعب في إرادته الحرة، ولكن من الواضح أنه كان هنالك اتفاق دولي على جعل اللعبة حرباً مستعرةً قوامها السجال الدامي بين الفئات المتناحرة، فتارةً يتم دعم النظام من قبل حلفائه بشكل علني فاضح، و تارة دعم فصائل المعارضة قليلا أو إدعاء دعم الشعب السوري ضد الجرائم الكيماوية التي يتعرض لها مع إغفال بقية أنواع الجرائم المرتكبة بحقه من قبل آلات القتل البشرية هذه.
ظلت الأيام تتوالى حتى نجح النظام تماماً في إيهام الناس بأن الثورة هذه هي حقاً حرب أهلية طائفية بين سنة وشيعة ومؤيدين لهؤلاء وأولئك مع المحو التام للحقيقة المتمثلة بحرب. أهلية طائفية ولكن بين طائفة ضعاف النفوس المؤيدين للمال أينما حل و ارتحل، و طائفة مساكين الأمة الساعين إلى الحرية والذين لطالما كانوا وقود كل ثورات العالم.
نتيجةً للسنينَ السّوريةِ العجاف، قام عددٌ هائل من سكان سورية بالتضحية بماضيهم و ممتلكاتهم و أرواحهم في سبيل الوصول إلى جنة أرضية ما تعوضهم عن خسائرهم الفادحة كلٌّ من وجهة نظره ومفهومه.
وصلت الجموع اللاجئة إلى أوروبة بعد سلسلة طويلة من الرحلات غير الشرعية من الدول القريبة من دول الغرب الأوروبي المتقدمة.
غصت مخيمات اللجوء بأعداد غفيرة من اللاجئين السوريين و الفلسطينيين السوريين الحالمين بحياة تشبه الحياة على كوكب الأرض في القرن الحادي و العشرين.
هنا بدأت مرحلة جديدة لدى معظم اللاجئين وهي مرحلة الاندماج والتكيف مع مجتمعاتهم الحاضنة الجديدة أو عدم الاندماج معها مطلقاً، وهنا بدأت تتسرب للعيان مشاكل اجتماعية متراكمة منذ عقود خلت بدأت تطفو على السطح بين جموع اللاجئين وبدأت تعصف بعلاقاتهم ببعضهم البعض، وعلاقاتهم بقضيتهم المركزية.. قضية الوطن السوري، وإذا سأل سائل ماهي أوضاع اللاجئين السوريين ومن في حكمهم في أوروبا يكون الجواب بناء على المشاهدة البسيطة، يعانون من نقص حاد في الثقة بالنفس والآخر. كلٌّ منكمشٌ في قوقعةٍ من الهموم و المشاكل اليومية التي تعصف به وتثنيه عن أي تواصل اجتماعي بنّاء قد يخفف عنه آلامه و جراحاته كلٌّ يترقب وينتظر فرجاً سماويّاً قد يعيده إلى سورية سعيداً مظفراً وبصفتي شاهد من أهله في أوروبا، أستطيع الجزمَ أنّنا بتنا دمىً خشبيةً لا تنبس ببنت شفة حيال ما يجري في سورية توهّماً منا أنّ ذلك النظامَ البغيضَ قادرٌ على أذيّتنا أو أذية أقاربنا في سورية، إنْ تَخَلَّصْنا من متلازمة البرغي البعثي، نسقط في شرك متلازمة المؤامرة الأوروبية و نخشى على أنفسنا من فرع فلسطين الأوروبي المنسوج في مخيلاتنا، فنصمت و نظلّ دمىً خشبية بلهاء ليس لها موقفٌ أو رأي.
تمضي الأيام وتتوالى المجازر بحقّ إخوتنا هناك، ونظل نحن عاجزين عن اتخاذ موقف مشرّف واحد في أوروبا ونلزم دورنا محاصرين بخوف ورعب وأزمات قلبية تنهال من كل حدب وصوب، ولا نكسب إلا عار أن نموتَ دون أن نغيّر شي في معادلة وجودنا.
وقد يكون هناك حلول لهذا النوع من الأزمات عبر الاتحاد وتأسيس رابطة للاجئين تحقق إنجازات تخدم قضية سورية الحرة الصافية من الشوائب الاستبدادية الهمجية.
ينبغي على كل إنسان مفكر حر طليق في أوروبا أن يطلقَ العنان لمواهبه وأفكاره علّها تساهم في بناء جيلٍ جديدٍ قادرٍ على قيادة رحلة العودة إلى سورية الحرة.
الإنجازات الفردية أمر عظيم، ولكن قضيتنا تحتاج إلى تركيزنا على مكاسبنا الشخصية بما يخدم مكسبنا الجماعي الأعظم في العودة إلى وطن حر قوامه العدل والمساواة والإبداع وإيتاء كلّ ذي حقٍّ حقّه.