محمود الوهب
اعتاد السياسيون رؤساء دول وحكومات وأحزاباً سياسية في البلدان الديمقراطية التي تحترم شعوبها أن يقدموا جردة حساب لدى كل مفصل من مفاصل خدمتهم في الوظيفة المسندة إليهم، أو تخضعهم شعوبهم للمحاسبة من خلال الهيئات الديمقراطية، ومجالسها المنتخبة، فإن لم تفعل تلك الهيئات، فالشعوب تقوم بالمهمة، حين يكون الإعلام حراً، وحرية الرأي مصونة، ويأتي التظاهر المباشر في حالات الضرورة القصوى، أي عندما يطفح الكيل، معبراً عن مطالب محددة، أو فاضحاً سلوكاً فاسداً. ويجري كل ذلك وفق الدساتير والقوانين التي تحكم الدولة! أما عندنا، نحن في أغلب بلاد العرب، فالوضع مختلف جداً. فالرئيس يمدد لنفسه، تدعمه بذلك الحاشية المحيطة به، فهي شريكته في الحكم والملك. والملك يأتي في بلادنا من خلال الحكم ذاته، فالحكم والمال، صنوان لا يفترقان! وقد كان المُلْك قبل الانقلابات العسكرية، سابقاً على الحكم، وكان على الموظف، كبيراً أم صغيراً، أن يتقدم بصورة موثقة عن كامل ملكيته، ليحاسب، فيما بعد، سواء لدى تركه الوظيفة أم خلالها، في حال ظهور علائم ثراء جديدة عليه. واستمر ذلك الشرط قائماً في خمسينيات القرن الماضي، وحتى بداية ستينياته. ولعلَّ كل ما ذكر يشكِّل واحداً من أسباب ثورات الربيع العربي إلى جانب ظواهر القمع، وتفشِّي بؤر الفساد، وغياب التنمية، وازدياد البطالة، وتخريب المعامل المؤممة التي كانت أهم مؤشر على تدهور الاقتصاد. واللافت، بعد الحكومات الانقلابية، ظهور ثروات مفاجئة لدى أبناء الحكام، وأقربائهم عبرت عنها مظاهر البذخ والاستعلاء على المواطن، وأولهم أبناء حافظ الأسد، وحاشيته من إخوة وأبناء عمومة، وابن حميه، وأبنائه، وأبناء عبد الحليم خدام الذين دفنوا النفايات النووية. وكذلك أبناء كبار الضباط أمثال مصطفى طلاس، وبهجت سليمان ومحمد حيدر وغيرهم كثر. وقد فاقت ثروات هؤلاء مجموع ما كان يمتلكه حكام مرحلة الخمسينيات مجتمعين، علماً أن آباء هؤلاء البعثيين جاءوا إلى السلطة من أريافهم حفاة لا يملكون سوى رواتبهم العسكرية. وما الإشارة إلى هذا الثراء إلا لكشف حقيقة أولئك الحكام في تصديهم الدموي للثورة السورية دفاعاً عن الأموال المنهوبة من الدولة والشعب، ولاستمرار جريانها إلى جيوبهم، إذ لم يتصرفوا كـ: موظفين يفترض أنهم مؤتمنون على أموال الدولة، والشعب، وعليهم مسؤولية تنميتها لصالح الأمة. فذلك ما قالته شعاراتهم، لكنهم تصرفوا كـ: عصابات تملكوا أوطاناً لا في غفلة عن شعوبها بل لقمعهم إياها.
لكن ألا ينطبق معظم ما قلته على المعارضة نفسها؟ وألا تعد المعارضة وجهاً آخر للنظام؟! إذاً لابد في مثل هذه الذكرى من العودة إلى بداياتها، وتتبع مسيرتها كاملة، ووضعها على ميزان الخطأ والصواب.
فالمعارضة استغلت موجة الاحتجاجات، وأخص منهم تجار الدين والسياسة (الكذبة على الله والشعب معاً). فقد صادروا مفهوم الحرية، وداسوا براءة هتافات الشباب بها، وبالكرامة الوطنية والإنسانية. والحقيقة، لم ير أحد من تلك الحرية شيء. بل منافع لهذا وذاك ممن يريدون العودة بسورية قروناً إلى الوراء. إنهم الوجه الآخر لنظام القمع والاستبداد. لا شك في أن شهداء الزور من المعارضة يتحملون قسطاً مما حدث للشعب السوري الذي لا يلوح له اليوم، وبعد إحدى عشرة سنة، أي أفق لفك أسر سورية رغم الدماء والمهانات وألوان العذاب والأحزان التي عانتها النساء، وأطفالهن اليتامى، وعموم المشردين في الخيام وسواها! ورغم الخراب الاقتصادي الهائل، ولن أتطرق لعدد الضحايا لكِّنها، وفي أقل تقدير، وصلت إلى أكثر من ستمئة ألف إنسان، ربعهم من المدنيين العزَّل ومن بينهم نحو أربعين ألف من النساء والأطفال، فيم أصيب أكثر من مليوني شخص إصابات بالغة، تسببت لهم بإعاقات دائمة! ناهيكم بالآلاف الذين قضوا تحت التعذيب من نساء ورجال وأطفال، وثلاثة عشر مليونا بين نازح ومهجر. ويظل النظام مسؤولاً أوَّل. إذ يعض على السلطة الأبدية بنواجذ جيشه، وأجهزته الأمنية، واللصوص من تجار الحرب. وإسرائيل تسرح وبقية المحتلين على الأراضي السورية كافة، والنظام يدعم العدوان الروسي على أوكرانيا. إنه يتمثل بيت المتنبي: من يهن يسهل الهوان عليه.. ما لجرح بميت إيلام.
فما الذي فعلته المعارضة التي يفترض فيها أن تكون قيادة للثورة، ومسرح عملها داخل الأرض السورية، ومع أطياف الشعب السوري كلها، وخاصة بعد أن غدت مناطق كثيرة، ومنذ العام 2012، تحت تصرفها.
في الحقيقة إن بقاء نظام البعث لا يعود لوحشية جيشه، أو لتغلغل أجهزته الأمنية، ولا لأعوانه من روس وإيرانيين، ولا للمتدخلين، من هنا وهناك، فحسب، بل إنَّ جزءاً مهماً تتحمله قيادة الثورة/المعارضة في مسيرتها، وخاصة أنها صفقت، أو صمتت عن الثورة المضادة التي برزت بأشكالها كافة، وكان للنظام إصبع فيها. فقتلت، وسجنت، وعذبت، وسرقت، واستطاعت، مع كل أسف، أن تشوِّه وجه الثورة، وتغيِّب نقاءها، وتلوث طهارة هتافات شبابها للحرية، ولدولة المواطنة والقانون، ولوحدة الشعب السوري الذي قسمته المعارضة إلى مكونات ومظالم دون النظر إلى أن الاستبداد كان ضد الشعب السوري بكامل فئاته وأطيافه.
اليوم، ونحن على عتبة الذكرى الحادية عشرة، ألا يجدر بهذه القيادة، أن تقف أمام الشعب السوري، وتقدم نقداً موضوعياً لما جرى، ألم تؤثر بها أرواح من رحلوا، ألم يحرِّك فيها ما حصل في سورية من خراب كلِّي، ألم تتأثر بأحزان من سالت دماء أبنائهم وإخوتهم، وأنين من هم في السجون والمعتقلات! وعلى العكس من ذلك فقد شهد السوريون مواقف مخزية لدى صراعاتها في سباقها على المراكز والمناصب ومقاعد التمثيل. إحدى عشرة سنة ولم نسمع لمن تنطع لقيادة شباب الـ: 2011 صوتاً أو وقفة مع الذات، كما تفعل قيادات الثورات في بلاد العالم كله. أين أصابت وأين أخطأت؟! ولماذا وجود حكومتين، على سبيل المثال؟! بل لماذا وجود مئات التنظيمات التي يغنِّي كل منها على ليلاه.
المصدر: اشراق