عبد الباسط حمودة
إنه يوم الخامس عشر من آذار عام 2011، وتحديداً الساعة الحادية عشر ظهراً، الذي لم يكن موعداً عادياً، إنه موعدٌ غيّر الخريطة السورية، اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، كان يوماً هتفت فيه الحناجر لأول مرة منذ 45 عاماً على نظام حكم آل أسد، يوم ولادة الشرارة باختصار، وللولادة طقس لا يعيه إلا من حبا على حب هذه الأرض، واشتم هوائها، وألِف هسيس حقولها، هي الأرض التي أورثت الأبناء ضجيج الحناجر، فأورثوها ضجيج الدماء.
السيرورة النضالية:
إن يوم انطلاق ثورتنا السورية العظيمة كان تتويجاً لنضالات مديدة ولعقود بعد جريمة الانفصال في 1961 وتسلط البعث، وتتويج هذا التسلط بتسلق حافظ أسد على أمجاد سورية كمكافأة له على عمالته وتسليمه الجولان لإسرائيل؛ وصولاً لانتفاضة الشعب منتصف آذار 1980 تلبية لحركة طالبت بالديمقراطية وعودة السيادة للقانون والشعب، وقد انتشرت حينها في المدن الكبرى تباعاً، ولمدة تزيد على ثلاثة أسابيع، حالة إضراب شاملة، احتشدت الجماهير بأشكالٍ مختلفة، وسارت المظاهرات الشعبية والطلابية الكبيرة في الشوارع، ولتصدِّر بيانات القوى الوطنية والديمقراطية والهيئات الاجتماعية، ويطالب الجميع بالحرية والكرامة وإنهاء تسلط المخابرات على مقدرات الشعب، وإلغاء حالة الطوارئ التي ترهق البلاد منذ 1963؛ وتظاهرات ثورتنا بعد 15 آذار 2011 كانت استمرار لتظاهرات كانت تجوب شوارع دمشق على مدى عقدين قبلها، في التسعينات وبعد الـ 2000، مواكبة وتضامن مع انتفاضة الحجارة نهاية الثمانينات، وتضامن مع أهلنا بالعراق وعقابيل حصاره بعد 1990 لما بعد غزوه واحتلاله، وكانت تنطلق جميعها من أمام مفوضية الأمم المتحدة بدمشق – ابو رمانة؛ مساءً.
نذكر ذلك لنُنعشَ عقولاً نسيت أو تناست تلكم الفترة- أو تعامت عنها- وكلها في زمن حافظ أسد، وصولاً لزمن ابنه، الوريث بالإكراه؛ ولم تكن التظاهرات حينها إلا من خلال لجنة تنسيق للمظاهرات، مقرها دمشق وبمشاركة من كل القوى الوطنية الديمقراطية الراغبة والقادرة، فضلاً عن مشاركة لجان إحياء المجتمع المدني، ومن كل المحافظات.
صحيح أنه قد واكبها الكثير من القمع والاعتقالات ولكنها استمرت وصولاً للاعتصامات المتنقلة وخاصة بعد الـ 2000 وانطلاق ربيع دمشق وصدور بيان الـ 99 ثم بيان الـ 1000 رفضاً لسياسات التغول الأمني، وللمطالبة بإلغاء الاحكام العرفية والمادة الثامنة من الدستور سيئة الذكر، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، والخروج من لبنان، وإلغاء سياسة التمييز، ومحاربة الفساد واللصوصية التي تتم بإشراف أجهزة الأمن وأعوانهم، ويسجل حينها إحياء جميع المناسبات الوطنية كلها وبمشاركة جميع الأعراق والمكونات الراغبة والجهات المعارضة.
لقد تم الحفاظ على الاعتصامات الأسبوعية المتنقلة بين معالم دمشق- بعد 2005 وصدور بيان “بيروت – دمشق” وتشكيل إعلان دمشق- أمام القصر العدلي ونُصب صلاح الدين وصولاً لجملة من المحاولات ابتدأت في شباط 2011، بالدعوة إلى “يوم غضب سوري” بتاريخ 5 و 6 شباط، لكن هذه الدعوات لم تلقى نجاحاً، بسبب تشديد القبضة الأمنية، فضلاً عن حجب مواقع التواصل الاجتماعي آنذاك، والتي كانت عاملاً حاسماً للثورات العربية التي سبقت الثورة السورية، وعلى رأسها المصرية.
الغضب السوري:
دعت صفحات على مواقع التواصل- المحجوبة، التي كانت تفّتح عن طريق برامج خاصة- إلى يوم غضب سوري يومي الجمعة والسبت، في الخامس والسادس من شباط، لتهرع الأفرع الأمنية، وتملأ الساحات في هذين اليومين فلم تشهد تلك الساحات أي حراك، تزامن ذلك مع الدعوة إلى مقاطعة شركات الهاتف النقال (سيريتل وإم تي إن) بسبب سيطرتها وتحكمها واستغلالها للمواطن السوري.
وفي نفس الشهر (شباط) وفي 17 منه، شهدت منطقة “الحريقة” بدمشق مظاهرة غاضبة، اندلعت على خلفية ضرب شرطي مرور لأحد الشباب، ما دفع أصدقائه وجيرانه للتظاهر؛ كبرت المظاهرة وامتدت، وبدأ الجميع بالهتاف (حرامية.. حرامية) لتتفاقم الأمور أكثر، فهرعت السلطة لإرسال وزير داخليتها، الذي نزل إلى المتظاهرين كي يُهدئهم !
في تلك الأثناء حفلت مواقع التواصل بحادثة “الحريقة”، ومن ثم تُنشئ صفحة ” الثورة السورية ضد بشار الأسد ” التي انطلقت وبدأت بالدعوة للتظاهر محددة يوم 15 آذار موعداً لذلك.
مظاهرات الحميدية.. وانطلاق الثورة:
أتّبع اعتصام الحريقة في 17 شباط باعتصام القصاع في 12 آذار 2011 الذي كان سبباً لاعتقالات طالت العديد من الناشطات والناشطين السلميين؛ كل ذلك مهد أيضاً ليوم الخامس عشر من آذار الذي افتُتِح بمظاهرة وحيدة في سوق الحميدية كجزء من عدة مجموعات موزعة بين الجامع الأموي والسوق وأمام قصر العدل وساحة المرجة، وما كان ممن أفلت عن أعين أجهزة الأمن إلا تحويل المجموعات وبسرعة للعشرات الذين يجوبون الشوارع قبل أن تفرقهم أجهزة الأمن وتعتقل عدداً منهم، واستطاع البقية الهرب، فيما لم تشهد باقي المناطق في سورية أي نقاط تظاهر بسبب الحشد والاستعداد الأمني، على أن تكون بأوقات أخرى وفي يوم الجمعة، علماً أن البيانات الداعية للتظاهر قد وصلت لأربع أنحاء سورية ليلة ونهار يوم 15 آذار 2011؛ فضلاً عن مواقع التواصل النادرة الوصول إليها حينذاك.
تزامن ذلك كله مع كتابة عدد من الأطفال كتابات على جدران مدرسة في درعا تدعو إلى الثورة في سورية، خاصة عبارة (إجاك الدور يا دكتور)، ليقوم المجرم رئيس فرع الأمن السياسي آنذاك ابن خالة بشار باعتقال الأطفال، وإهانة أهلهم عند المطالبة بالإفراج عنهم، الأمر الذي ساهم بإشعال الفتيل في درعا يوم الجمعة كما كان مقرراً بتاريخ 18 آذار.
وتوالت المظاهرات، في درعا، وامتدت إلى مدينة دمشق وريفها، ثم حمص، ثم بانياس، وريف حلب ثم جامعة حلب، واللاذقية، ودير الزور، لتشمل الأراضي السورية عموماً بعدها بوقت لم يطول.
وأصبحت الثورة حرباً:
أشهر عدة انقضت على السوريين بحراكهم السلمي، ثم تحولت فيها الثورة إلى حرب مفتوحة، وذلك بعد الإمعان بقتل المتظاهرين، واضطرار أولئك للدفاع عن أنفسهم بحمل السلاح نظراً لتخلي القاصي والداني عن دعمهم والوقوف بوجه نظام الجريمة المنظمة، لتتشكل فصائل وكتائب على مدار الوقت، وينبثق ” الجيش السوري الحر “؛ تلا ذلك سنوات عديدة من القصف الممنهج، والقتل والاعتقال والتعذيب، بأبشع الصور، دُمرت فيها مدناً بأكملها ليتم مد يد العون للنظام القاتل من إيران وميليشياتها وحين لم تفلح كُلِفت روسيا بهدم وتدمير وقتل وتشريد ما تبقى، لكنها هي الأخرى لم تفلح أيضاً بكسر إرادة الشعب السوري الثائر المنادي بالحرية والكرامة.
وفي هذه الأيام تنقضي السنوات الإحدى عشرة للثورة لتدخل عامها الثاني عشر، والسوريون مُفرّقون في أصقاع الأرض، غرق منهم في البحر من غرق، واعتقل منهم من اعتقل، واستشهد من استشهد، وملأوا الأرض بمأساتهم التي لم يشهد لها القرن مثيلاً.
المخرج بالنقد الذاتي والمراجعة الجادة:
لا شك أننا بحاجة إلى مراجعة فكرية لكل شيء فضلاً عن المراجعة السياسية، بكل بساطة يجب أن نقوم بإعادة فهم الواقع الحالي بكل تفاصيله المنثورة أمامنا، هذه الأعوام الـ 11 يجب أن تكون كافية لإعادة تنصيب الإنسان كمرجعية عظمى، حيث لا يليق بالموزاييك السوري أن يستورد فكره الخام من الخارج بينما تعاني آلاف العقول ذات الفكر الوطني من كساد سوق الرأي والثقافة، هذه البلاد التي عاصرت الكثير من الأديان والمذاهب والتجارب الإنسانية لن تنجو من المجزرة إن لم تتمسك بأسباب الحضارة والتقدم، حتى إن كان الحل يتلخص بظهور جيل من المنادين بالهوية الوطنية السورية بل والتعصب لها، في ظل انسياق معظم المؤثرين في الساحة الى انتماءات خارجية أثبتت هشاشتها وضعف منطقها مرة وراء أخرى، وبينما يحتشد آلاف المثقفين في الخارج دفاعاً عن المبادئ الأخلاقية للنهضة في سورية، يتكتل الآلاف من أبناء البلد خلف قوميات ومذاهب عابرة للحدود ليس من شأنها إلا زيادة الطين بلة بالدماء، وكأن الانتماء الديني أو العرقي يجرد الإنسان من وطنيته بدل التمسك بها في شدائد الأزمات، وكأن فروض الطاعة الى الله أو الأجداد تسّقط عنا هويتنا التي تكرست عبر مئات السنين.
هل يدرك آلاف الأطفال الذين ولدوا في بلدان اللجوء أو من تفتح وعيهم على الحياة في الغربة، هل يدركون معنى هذه التحزبات والتكتلات الغوغائية التي لن تفلح في إيوائهم إلى سرير آمن في نهاية اليوم، حيث يواجهون أزمة الانتماء إلى بلد لا يعلمون عنه إلا ما يتم تلقينهم إياه عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزيونية التي تنقل بلا استحياء أو رقابة صور القتل والدمار اليومي في سورية وعالم اليوم بعد غزو روسيا لأوكرانيا!؟
المصدر: الحرية أولاً