محمد صالح عمر
تلوح للصين فرصة تاريخية لترسيخ نفوذها بعد تجاوزها خطر تدمير مصالحها في القرن الأفريقي بسبب الحروب المتكررة، فتتقدم خطوة أخرى بمبادرة لعقد قمة لدول المنطقة للسلام والتنمية.
تدافع كبير تشهده منطقة القرن الأفريقي الفترة الأخيرة، فمنذ نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي وسقوط الحكومات التي تبنت النهج الاشتراكي، شهدت المنطقة اضطرابات ولكن دون تدخلات دولية إلا في النذر اليسير.
فما الذي جعل جيوش العالم تُعسكر فيها الآن؟ وهل هو مكافحة القرصنة كما يزعمون؟ أم تشابك وتداخل أمن الإقليم بالجوار القريب والبعيد؟ أم رغبة في حجز مواقع متقدمة للمصالح الإستراتيجية للدول المتنافسة؟ أم عودة إلى التنافس القديم بوسائل وأجندات مستحدثة؟ ولماذا كثر المبعوثون الخاصون لهذه المنطقة؟ وما غاية الصين التي تنوي عقد مؤتمر للسلام والتنمية للمنطقة؟
ما قصة القرن الأفريقي وأطراف التنافس؟
تتنافس على القرن الأفريقي أطراف عدة، ولكننا نناقش هنا القوى الكبرى التي كانت الأكثر تأثيرا على استقرار المنطقة: الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وما لا يدركه الكثيرون أن الدول الثلاث انخرطت في القرن الأفريقي بوقت متقارب يتراوح بين عام 1955 و1962، وقدمت الدعم العسكري لدول المنطقة، حتى أن الثوار في إريتريا وجيبوتي، وقبل استقلال الدولتين، كانوا طرفا في علاقات عسكرية وسياسية مع كل من واشنطن وموسكو وبكين.
وعلى الرغم من تدخل الصين وروسيا في هذه المنطقة بحذر، كان لهما دور بارز في تأجيج الحالة الثورية هناك، بينما كانت الولايات المتحدة تتمركز في إثيوبيا حتى فترة الحكم الشيوعي.
ما المواقف الراهنة للحلفاء بالقرن الأفريقي؟
بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها، فقد ظل نفوذهم راسخا ويعمل بالوكالة غالبا، ولكنه عاد بهجمة غير مسبوقة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، فأقيمت القاعدة الأميركية في جيبوتي وتبعتها ما لا يقل عن 6 قواعد لحلفائها وتمثيل لحوالي 5 جيوش أخرى دون قواعد.
وبالنسبة للصين وروسيا فتتفاوت عودتهما إلى القرن الأفريقي، فبكين كانت أسبق من موسكو حيث انخرطت في المنطقة منذ بواكير العشرية الأولى للقرن الـ 21، بينما جاء الحضور الروسي بعد عام 2014.
ويمكن القول إن الاستجابة والتفاعل مع قضايا المنطقة الملتهبة كانت قوية، إذ وجدت الشعارات الصينية التي تركز على تنمية البنى التحتية صدى لدى قيادات المنطقة، كما وجدت روسيا قبولا بحكم استمرار الحروب الصفرية التي تجري في المنطقة الأفريقية، وحاجة زعمائها للسلاح.
وتفرض الولايات المتحدة وحلفاؤها عقوبات على أطراف النزاع في كل من إثيوبيا وإريتريا، وتشدد على الحلول السلمية التي ترفضها الحكومة الفدرالية في أديس أبابا والرئيس الإريتري أسياس أفورقي الذي يصطاد في مياه الحرب الأهلية الإثيوبية.
وبالضرورة تستثمر الصين وروسيا فرصة العقوبات لتطرح نفسها البديل المعادل والمنقذ، وتقدم دعمها باعتبارها الملاذ الذي يخفف العقوبات ويسهل المساعدات المختلفة، وهو ما نجحتا فيه بدرجة كبيرة حتى الآن.
كيف شكلت الحرب الإثيوبية مواقف الدول المتنافسة؟
ليس خفيا أن الصين والولايات المتحدة كانت حاضرة كلا بأجندتها في القرن الأفريقي، فبينما انشغلت واشنطن بالجوانب السياسية والأمنية والعسكرية وانخرطت في مواجهة الجماعات المسلحة المناوئة لها بالصومال على وجه الخصوص، اهتمت الصين بالجانب الاقتصادي وقطاعات البنى التحتية المرتبطة بمشروع “الحزام والطريق” الإستراتيجي. وفي هذه الأثناء، كانت روسيا تبحث عن فرصة لدخول المنطقة.
وشكل اندلاع الحرب في إقليم تيغراي شمالي إثيوبيا نقطة تحول مهمة للأطراف المتنافسة، فالولايات المتحدة كادت أن تفقد حليفتها التاريخية أديس أبابا، بسبب سعيها للتوازن بين أطراف النزاع الإثيوبي، بينما تضررت مشروعات الصين الكبيرة كثيرا وكان التخوف كبيرا إذا توسع نطاق الحرب وانحدر إلى حرب أهلية شاملة.
بينما شكلت الحرب الإثيوبية الفرصة التي كانت تبحث عنها روسيا، فوقّعت اتفاقية عسكرية وأمنية مع أديس أبابا في يوليو/تموز 2021 مما زاد التوتر الأميركي في هذه الملف.
واضطرت الولايات المتحدة في النهاية إلى تغيير الأطقم العاملة ابتداء من المبعوث الخاص بالمنطقة وسفيرها وأعضاء في بعثتها بأديس أبابا، كبادرة لتغيير سياستها تجاه إثيوبيا. بينما رسّخت الصين أقدامها أكثر بتعيين مبعوث خاص بالمنطقة، ورفع مستوى العلاقات مع إريتريا إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية، وأوجدت روسيا مساحات جديدة في مسار عودتها إلى أفريقيا.
ما تأثير الحرب الروسية على أوكرانيا بهذه الاصطفافات؟
ربما كانت الحرب بين روسيا وأوكرانيا مفاجئة للأفارقة، واتضح ذلك في عدم التعبير عن المواقف بالمؤسسات الدولية عند مناقشة هذه الأزمة. وشذّت عن القاعدة إريتريا التي صوتت لصالح روسيا بين 5 دول قالت “لا” لإدانتها، بينما صمتت إثيوبيا الرسمية وعبر عن رأيها عامة الشعب برفع الأعلام الروسية في احتفالية ذكرى “معركة عدوة” التي هزم الإثيوبيون فيها إيطاليا.
ويمكن فهم الموقف الإريتري على النحو التالي:
إنه رد على العقوبات الغربية على جهاز أمن إريتريا وبعض قياداته الرئيسية وعلى الحزب الحاكم (الجبهة الشعبية للعدالة والديمقراطية).
وهو توجه للبحث عن حليف يتجاوز العقوبات ويقدم ما تحتاجه من دعم ومتطلبات سياسية وعسكرية واقتصادية. ولإريتريا خبرة في ذلك، ففي العقوبات الأولى والتي بدأت عام 2009 إلى 2018 لجأت لإيران وكوريا الشمالية وحصلت على الدعم.
وهو كذلك استباق لأية عقوبات وحصار أكبر بإيجاد بدائل حماية وإسناد، ويشهد على هذا اتفاق الرئيس الإريتري مع الصين حول شراكة إستراتيجية أقلقت الغرب كثيرا، يضاف إليه ما رشح من استعداد إريتريا لمنح روسيا قاعدة على البحر الأحمر.
ما دلالات مبادرة الصين لعقد قمة سلام وتنمية لدول القرن الأفريقي؟
تلوح للصين فرصة تاريخية لترسيخ نفوذها بعد تجاوزها خطر تدمير مصالحها في القرن الأفريقي بسبب الحروب المتكررة، فتتقدم خطوة أخرى بمبادرة عقد قمة لدول القرن الأفريقي للسلام والتنمية، بعد أن عيّنت مبعوثا خاصا للمنطقة لخص المبادرة الصينية في التالي:
اعتبار القمة منصة رئيسية لتنسيق الإجراءات بشأن معالجة الخلافات وحل النزاعات الداخلية من خلال التشاور.
تسريع إنعاش المنطقة للتغلب على تحديات التنمية. وتقترح المبادرة لذلك 3 أجنحة: خط سكك حديد مومباسا- نيروبي في كينيا، وخط سكك حديد أديس أبابا-ـ جيبوتي، إلى جانب تسريع التنمية على طول ساحل البحر الأحمر وشرق أفريقيا من أجل تعزيز التنمية.
استكشاف طرق فعالة للتغلب على تحديات الحوكمة باتباع مسارات تنموية تناسب ظروف البلدان.
دعم دول المنطقة في التعامل الصحيح مع النزاعات الإقليمية والعرقية والدينية بالطرق الأفريقية، وبناء بنية موحدة ومستقرة ومتناغمة.
ما شكل مستقبل المنطقة على ضوء الصراعات وتداخل الأجندات؟
تعمل الصين وروسيا بشكل منسق في عدد من المجالات التي تحقق مصالح الطرفين، وفي بعض الأحيان على حساب مصالح الغرب، وتقدمان مقاربات بديلة مقبولة مستغلة تراجع قبول الولايات المتحدة وحلفائها بسبب ما تصفه الدول بالتدخل في شؤونها.
فهل سنشهد تفاهمات في تحقيق المصالح للقوى المتنافسة؟ أم نشهد حربا باردة جديدة تكون ضحيتها دول المنطقة ومصالح شعوبها؟
المصدر: الجزيرة. نت