ناصر السهلي
منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، اعتبرت موسكو أنها في حالة دفاع للتخلّص مما وصفته “خديعة الأطلسي” بالتوسع شرقاً بعد مفاوضات توحيد ألمانيا في عام 1990.
واعتبر الكرملين أن “العملية العسكرية” ضد كييف هي رسالة للدول الأخرى التي تفكر بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. لكن التطورات المتسارعة على الجانب الغربي تشي بأن الأطلسي وضع روسيا في مأزق بتعزيز انتشاره العسكري وتعاونه مع دول مرشحة لعضويته.
وانعكس اجتياح أوكرانيا سلباً على أهداف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبدلاً من إخافة الأطلسي وإبعاده عن حدود بلاده، استغل الحلف الحرب للانتشار الثابت، من الدائرة القطبية شمالاً إلى الخاصرة الجنوبية الغربية لروسيا.
ويقرأ محللون القصف الروسي المتزايد لغرب أوكرانيا قرب الحدود مع بولندا، العضو في الأطلسي، كرسالة عن الضيق الذي تشعر به موسكو. وتدفق الأسلحة الغربية يبدو، بحسب القراءات الغربية، مساهمة واعية من الحلف في مواجهة الروس وخلط أوراق أهدافهم من الحرب، التي لم تعد خاطفة، بل أصبحت “مستنقعاً” بحسب بعضهم.
نماذج “الحياد” تتعاون مع الأطلسي
وفرض استغلال الغرب الحربَ بأقصى سرعة وقائع جديدة. فعلى مستوى السياسة، سهّل الغزو الروسي على دول شمالي أوروبا (الدنمارك، السويد، النرويج، فنلندا) التحرر من التعامل السلبي حيال تداعيات ضمّ شبه جزيرة القرم الأوكرانية في عام 2014، وإزاء تزايد التحركات الروسية، انطلاقاً من جيب كالينينغراد، في البلطيق والدائرة القطبية الشمالية.
ومنذ فجر 24 فبراير الماضي، تكثّفت التصريحات الشمالية التي تنسف فكرة روسيا عن الحياد. فالسويد التي بقيت محايدة قرنين تتغير كثيراً، ولا يتعلق الأمر بانخراطها في اتفاقيات مع الأطلسي منذ عام 2014، بل زادت في مستوى تأهبها العسكري في منطقة البلطيق، ووضعت جيشها في حالة دفاع نشط، مع تزايد انتشاره في شكل مرئي على جزيرة غوتلاند، وأقصى شمال البلاد. التعاون الدفاعي يشمل أيضاً فنلندا ودول البلطيق السوفييتية السابقة، ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا.
ومنذ سنوات، بقيت هلسنكي واستوكهولم حذرتين في تقاربهما مع الحلف الغربي، لكن في غضون أسابيع قليلة، طفا على السطح عمق التغييرات التي أحدثها تفاهم البلدين مع الحلف الغربي.
ولا ينبثق هذا التعاون فقط من تأييد أغلبية شعبية ورسمية للانضمام إلى الحلف، بل استُبدل الحذر بمشاركة فعّالة للسويد وفنلندا بمدّ الأوكرانيين بأسلحة وذخيرة لاستخدامها في مواجهة روسيا.
ومنذ الأسبوع الماضي، بدأ الحديث عن “عضوية مستعجلة” في الأطلسي للبلدين، وبحماسة من معسكري يسار ويمين الوسط فيهما. وفي السياق، يمضي وزير الخارجية السويدي الأسبق كارل بيلدت، وزعيم المعارضة في استوكهولم أولف كريسترسون، في تأييد طرح العضوية على قمة الأطلسي يوم الخميس المقبل، على أن يجرى تفعيلها في فصل الخريف المقبل.
وغير بعيد عن خطوات السويد، شهدت الدنمارك، العضو في الاتحاد الأوروبي والأطلسي، تسارعاً غير مسبوق في تقليد جارتها الشمالية النرويج، العضو في الحلف وليس في الاتحاد الأوروبي، لجهة التعاون العسكري الموسع مع الولايات المتحدة.
وفي المبدأ، فُتحت الأبواب أمام قواعد أميركية، حتى إن البرلمان الدنماركي تبنّى قراراً سريعاً بتنظيم استفتاء شعبي في 1 يونيو/حزيران المقبل، لإلغاء الانسحاب من التعاون العسكري والأمني تحت مظلة الاتحاد الأوروبي.
وفيما تسابق روسيا الزمن لتحقيق أهدافها المعلنة، ولفرض نوع من الردع لدول الجوار، فإنها تراقب في الوقت نفسه تفلّت تلك الدول التي تُظهر جرأة مقلقة لموسكو في ترجمة للتأثير العكسي للحرب الروسية في أوكرانيا.
نشاط عسكري متزايد حول روسيا
وإلى جانب تسريع غزو أوكرانيا، تغيّر المزاج السياسي والرأي العام حيال حلف الأطلسي لدى مواطنين أوروبيين، بالتزامن مع تعزيز البنية العسكرية حول روسيا.
ويقدّر خبراء انتشار نحو 100 ألف جندي أميركي على الأراضي الأوروبية. ودفعت واشنطن بمزيد من التعزيزات العسكرية، بما في ذلك دبابات وصواريخ متطورة، نحو دول البلطيق التي تخشى مصير أوكرانيا بوجود أقليات ناطقة بالروسية.
وأدت كل هذه التطورات إلى بدء الأطلسي، في 14 مارس/آذار الحالي، مناورات “الرد البارد 2022” في شمال النرويج عند الدائرة القطبية الشمالية.
وهي مناورات ضخمة في أجواء تحاكي حرباً حقيقية، بمشاركة أكثر من 30 ألف عسكري، ومن المفترض أن تنتهي المناورات في 1 إبريل/نيسان المقبل.
ووفق بيان “الأطلسي” عشية انطلاق المناورات، فإنها “ستساعد الجيوش الغربية في أن تكون أكثر صلابة في القتال في البرد القارس براً وبحراً وجواً، بما في ذلك بالمنطقة القطبية الشمالية”.
وأدت ضراوة المناورات إلى تحطّم طائرة إنزال لمشاة البحرية الأميركية فجر أمس السبت، ومقتل أربعة جنود، حسب ما أكدت المتحدثة باسم وزارة الدفاع النرويجية ستين باركلاي غاسلاند.
في موازاة ذلك، باتت إستونيا مسرحاً دائماً لمناورات وتدريبات، مع تزايد التدفق العسكري الغربي نحو كل دول البلطيق وبولندا وبالقرب من جيب كالينينغراد. وتهدف المناورات والتدريبات إلى تعزيز الدفاعات الغربية.
وهو ما أدى إلى ترسيخ أكثر من 20 دولة من الأطلسي (من أصل 30 دولة منضوية تحت لواء الحلف) وجودها في بحر البلطيق على مرأى من الروس، الذين حاولوا قبل أيام اختراق المجال الجوي لغوتلاند السويدية، فتصدت لها طائرات السويد بمعاونة حلف الأطلسي.
وهو ما يُظهر تخلّي الدول عن حذرها السابق لغزو أوكرانيا، من خلال تكثيف التعاون العسكري، في محاولة لكسر الهدف الروسي بإبعاد الأطلسي عن الحدود.
وسبق أن حذّر المحلل العسكري الروسي بافل فيلغنهاور من خطورة ما يحصل، مؤكداً في حوار، أول من أمس الجمعة، مع صحيفة “بيرلنغكسا” الدنماركية، أن الجيش الروسي “لن ينتصر في أوكرانيا” وسيعاني “كارثة”.
ووصف ذلك بالأمر الخطير لروسيا، مستنداً إلى خبرته في حروب الجيش الروسي في الشيشان وسورية. مع العلم أن فيلغنهاور مُنع من الكتابة في “نوفايا غازيتا” الروسية بسبب تحليله الذي لم يرق للكرملين.
ويتفق خبراء آخرون في أن الفشل الروسي في أوكرانيا سيعزز سياسات “الأطلسي”، معتبرين أنه يستغل بعمق “الورطة الروسية”. ولا يُفقد الوضع الجديد الناجم عن الحرب في أوكرانيا روسيا فقط قدرتها على الردع في دول الشمال، بل حتى البوسنة والهرسك رفضت تحذيرات روسيا من انضمامها إلى الأطلسي، كي لا تلقى مصير أوكرانيا.
عموماً، منحت الحرب فرصة لدول الشمال الأوروبي، إلى جانب ألمانيا وبلجيكا وهولندا، بل حتى النمسا وسويسرا (المفترض أنهما محايدتان)، لرفع الموازنات العسكرية وجعل العسكرة الصوت المرتفع في مجتمعاتها.
والحديث عن العودة إلى أجواء الحرب الباردة (1947-1991) ليس أمراً نظرياً، بل هو بمستوى ذروة تلك الحرب في تسابق التسلح وزيادة التجييش. والأمر يمتد اليوم من أقصى شمال اسكندنافيا إلى جنوب شرق القارة.
وإذا كانت حمّى اقتناء حبوب مادة “اليود” (التي تقلّل من تأثير الاشعاعات الناجمة عن أي انفجار نووي على جسم الإنسان) في اسكندنافيا، بعد تلويح بوتين بالسلاح النووي، أدت إلى نقاش سلبي عن روسيا وبوتين يصعب تغييره سريعاً، فإن المستويات العسكرية والسياسية تتحرك وكأنها في أجواء الحرب الباردة.
الملاجئ يعاد تفعيلها. العسكر يعودون إلى جزيرتي غوتلاند السويدية وبورنهولم الدنماركية، المقابلتين لجيب كالينينغراد الروسي. وسبق أن استُخدمت الجزيرتين قواعدَ تجسس وإنذار متقدمة بوجه الاتحاد السوفييتي، وبمشاركة أميركية وأطلسية. وبالتأكيد، لم تكن هذه التحوّلات يرغب فيها بوتين حين أعلن غزو أوكرانيا.
استنفار عسكري لدول الحلف
ما من شك أن ارتفاع وتيرة الانتشار العسكري الغربي حول روسيا أمر تلحظه موسكو، وهو ربما أحد مقاصد تلك الرسائل القائلة إن “الخطوط الحمراء لحلف الأطلسي غير مقبولة”.
ومن المرتقب أن يشهد الأطلسي أيضاً إدخال تعديلات، ألمح إليها أمينه العام ينس ستولتنبرغ يوم الأربعاء الماضي، حين كشف عن وجود خطط دقيقة لزيادة وتطوير قدراته الدفاعية في جميع المجالات في البر والجو والبحر والفضاء، على أجندة اجتماع قادة الأطلسي يوم الخميس المقبل.
أجواء العسكرة، وإعادة الهيكلة التي تطورت في وقت قياسي، تدفع اليوم أيضاً بعض الدول إلى العودة نحو التجنيد الإلزامي، الذي توقف مع نهاية الحرب الباردة.
وعلى ضوء مجريات الغزو الروسي لأوكرانيا وفهم الغربيين طموحات بوتين التاريخية، استبدلت الدول حالة الاسترخاء النسبي بحالة الاستنفار، الذي يشمل نشر قواعد للأطلسي والولايات المتحدة.
وبات الاندفاع نحو تعزيز نشر الأسلحة أمراً عادياً، بل ومطلوباً في مثل هذه الأجواء. وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعجّ مياه بحر البلطيق اليوم بالسفن العسكرية التي تملكها الدول الاسكندنافية، حتى إنها استدعت فرقاطاتها، التي كانت تبحر في بحار بعيدة، للتمركز فيه وفي بحر الشمال.
وتلك الحشود، بالتزامن مع بعض المناورات والتدريبات المتواصلة، يقرأها بعض المحللين والمتخصصين في الشؤون الدفاعية على أنها “رسائل واضحة إلى موسكو”.
ويرى هؤلاء أنه منذ انتشار ما يشبه حالة تأهب غربي في 5 مارس الحالي، دخل التحالف الغربي مرحلة جديدة تتجاوز أصعب مراحل توتر علاقة موسكو بالغرب عموماً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945).
إلى جانب ذلك، يمكن أن تكون النتائج العكسية لطموحات روسيا من الحرب أن يذهب حلف الأطلسي إلى مزيد من “استغلال الورطة الروسية”، ليس بغرض توسعه نحو فنلندا والسويد بطلب مشترك بين البلدين فحسب، بل وزيادة التنسيق العلني مع دول مرشحة لعضويته، ما يجعل كل مشروع بوتين في وقف التمدد على المحك.
ويرسل الأطلسي في عسكرته المتزايدة حول روسيا إشارة إلى الكرملين بأنه يخلق “وسائل دفاعية” بوجه روسيا، بما يزيل فكرة “الحياد” تماماً من قاموس بوتين. وحتى لو نجحت روسيا في تأمين حياد أوكرانيا، إلا أن الانتشار العسكري الغربي، خلال الأشهر الأخيرة، في دول الجوار الروسي، يصعّب مهمة موسكو في تعميم مفهوم “الحياد” على هذه الدول.
المصدر: العربي الجديد