عبد المجيد عقيل
أرفض تماماً الفكرة التي يتم تداولها كثيراً في توصيف ما يحدث في أوكرانيا، أن الغرب قد ورط أوكرانيا، أو أن أوكرانيا ضحية روسيا والغرب معاً.
أولاً… الشعب الأوكراني منذ ثمان سنوات تقريباً أخذ قراره النهائي بالخروج من النموذج الروسي، نموذج المافيات والفساد، بعد وصوله إلى القناعة باستحالة إصلاح هذا النموذج، وحزم أمره للانتقال نحو دولة تتبع المعايير الأوروبية في الحرية والتنمية وسيادة القانون. هذا كان قرار شعب كامل انتخب منذ ذلك الحين ممثليه السياسين للدفاع عن هذا الخيار، وبأغلبية ديموقراطية ساحقة، وليس الأمر أن رئيساً حالياً أو سابقاً “باع” روسيا، و”اشترى” أميركا، كما يصر البعض بسطحية شديدة وعدم إطلاع، لكننا لن نفهم ذلك ما دام فهمنا للسياسة لا يزال محصوراً بالفهم القبائلي، أو الفهم الامبراطوري القديم، وليس مفهوم مصالح الناس وحق الشعوب في تقرير مصيرها.
ثانياً… الحرية ثمنها غالٍ، والشعوب التي تختار أن تناضل من أجل حريتها عليها أن تكون جاهزة لدفع هذا الثمن، لا أن تنتظر من الدول أو الشعوب الأخرى أن تناضل عنها خارج إطار التضامن والدعم المنطقي والمعقول وفق مصالحها واستطاعتها، فمعظم الشعوب الحرة خاضت في وقت ما تجربتها المريرة حتى وصلت للحرية.
الشعب الأوكراني اختار بوعي وإدراك ومسؤولية أن يناضل من أجل حريته، وهو شعب مناضل وبطل وليس “ضحية مسكينة” غُرِّرَ بها.
ثالثاً… لا أحد قدم أية وعود لأوكرانيا بالانضمام إلى الناتو أو حتى الاتحاد الأوروبي في المدى القريب جداً، وجميع التصريحات الغربية قبل وبعد الحرب كانت تشير بصراحة وصدق إلى عدم إمكانية هذا الأمر قبل اجتياز خطوات وإجراءات طويلة. لا أحد من شركاء أوكرانيا الأوروبيين كذب عليها أو خذلها، بل على العكس تماماً إن الدعم الذي تتلقاه أوكرانيا مالياً وبالسلاح المتطور هو دعم غير مسبوق، والعقوبات التي فُرِضَت على روسيا أيضاً غير مسبوقة ويدفع ثمنها الأوروبيون أنفسهم، عدا عن فتح الحدود لملايين اللاجئين، طبعاً مع الإقرار أن هذا الدعم هو ضرورة استراتيجية للأمن القومي الأوروبي أيضاً، وليس دعماً مجانياً أعمى للأوكران، وهذا طبيعي، فالدول ليست جمعيات خيرية، لكن الأكيد أنه لا يوجد هنا استغلال أوروبي لأوكرانيا، بل دعم كبير وحقيقي ضمن حدود المقدرة والمصلحة.
رابعاً… لا أحد وعد أوكرانيا بالدخول في حرب عالمية ثالثة لأجلها، وليست الدول الغربية مثل روسيا قرار الحرب فيها بيد زعيم أرعن، يملك قرار أن يدمر بلاده وشعبه لمجرد أنه يريد خوض مغامرة مجنونة خارج حدود دولته.
خامساً… لا أحد ورط أوكرانيا طوال السنوات الثمان الماضية في التصعيد ضد روسيا، فأوكرانيا لم تصعّد أساساً، ولا هي اعتدت على روسيا، ولا هي احتلت أراض روسية، ولا هي دعمت ميليشيات انفصالية في روسيا، بل روسيا هي من فعلت ذلك، ولم تفعل أوكرانيا طيلة السنوات الماضية إلا أنها بقيت تطالب بحقها، فما هو الدور الذي كان يجب أن يقوم به الغرب حتى نقول أنه لا يصعّد؟ الضغط على أوكرانيا للاستسلام وإهداء أراضيها لروسيا؟
نعرف كسوريين أن روسيا غير قابلة لأية حلول وسطى، وأنها تدخل كل مفاوضات لتملي شروطها أو تهدد بحرق الأخضر واليابس، وإذا وعدت كذبت وأخلفت!
وعموماً إذا قلنا أنه كان هناك تصعيد أمريكي وبريطاني في الخطاب منذ ما قبل الحرب، نجد أن ألمانيا مثلاً ومعها فرنسا أيضاً حاولت بكل حكمة أن تحتوي الأزمة، وفي النهاية “طلعت بسواد الوجه” وأصبحت اليوم في طليعة المطالبين بالتشديد على روسيا لأنها أدركت بعد كل محاولاتها أنها تتعامل مع بلطجي لا يجدي معه أي حوار. كما وثبت أن التصريحات الأمريكية والبريطانية المبنية على تقارير استخباراتية عن نية روسيا في غزو أوكرانيا بأكملها كانت كلها صادقة وصحيحة ودقيقة!
ملاحظة في الختام: أنا لا أعترض هنا على سلوك الدولة الأوكرانية في طلب المزيد من الدعم الغربي وحظر الطيران وما إلى ذلك، فهي تدرك استحالة أو شبه استحالة الأمر، لكن تتعامل بعقلية البازار وترفع من سقف المطالب لتبقي الدول الداعمة في حالة من الحرج والشعور بالتقصير، وهذا أسلوب دبلوماسي مشروع تسلكه الدولة الأوكرانية في دفاعها عن نفسها وشعبها، لكن كلامي هدفه تفنيد التحليلات والمقاربات التي يحاول أصحابها تحميل الغرب مسؤولية الحرب أو أن يضعوا روسيا والغرب في كفة واحدة.
لهؤلاء أقول: أجيبوني بوضوح: أين ورّط الغرب أوكرانيا؟ أين كذب عليها؟ متى خدعها؟ وكيف خذلها؟
==
قراءة مهمة. وتحليل هادئ ومتزن للحدث يحاول أن يبتعد قدر الإمكان عن ديماغوجية إعلام البروبغندا التي رافقت الحدث الأوكراني منذ البداية، وعمل فيها ومن خلالها قادة ومسؤولون سياسيون عسكريون من أكثر من طرف.
المصدر: صفحة الدكتور مخلص الصيادي