حسن فحص
مبدأ “خطوة مقابل أخرى” يحمل مؤشرا على إمكانية الذهاب إلى خيارات من خارج إعادة إحياء صيغة السداسية الدولية.
قد لا يكون الكلام الصادر عن المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي حول مفاوضات فيينا مع إيران عابراً أو عادياً في إطار سياسة الطرفين على تأكيد رغبتهما وسعيهما للتوصل إلى تفاهمات تعيد إحياء الاتفاق، إلا أن كلامها عن عودة الطرفين لتنفيذ التزاماتهما في إطار خطوة مقابل خطوة يحمل مؤشراً إلى إمكان الذهاب إلى خيارات أخرى من خارج إعادة إحياء صيغة السداسية الدولية (6+1).
أي صيغة جديدة لإيجاد مخرج لأزمة البرنامج النووي بين الطرفين الأميركي والإيراني تعني إعلان وفاة اتفاق العام 2015، وبالتالي خروج كل الأطراف المنضوية تحت الصيغة القديمة من دائرة التأثير في مسار التفاهمات الثنائية بين واشنطن وطهران، مما يعني بالتالي ابتعاد الإدارة الأميركية من دائرة الابتزاز الروسي، مما يسمح لها بتضييق الخناق على موسكو في سياق الحصار الخانق الذي تسعى إلى فرضه على إدارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وطموحاته التوسعية على الساحة الدولية على حساب مصالح واشنطن، فضلاً عن إمساكها بورقة الرهانات الأوروبية في إمكان استغلال عطش طهران للاستثمارات المستقبلية في البلاد بعد عودة الاتفاق النووي ورفع العقوبات ضدها، مما يعيد ترميم هيمنتها على قرار الاتحاد الأوروبي ودوله من بوابة إعادة تعزيز دورها المحوري في حلف الـ “ناتو”، وقطع الطريق على أي مساع بدأت بالبروز لبناء منظومة دفاعية أوروبية سبق أن تحدث عنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد قمة “النورماندي”، رداً على مواقف الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب، بمعزل عن الابتزاز الأميركي المالي وسيطرته على حلف شمال الأطلسي والتحكم بمساراته وقراراته.
مؤشرات كثيرة ومتعددة بدأت في الظهور داخل الأوساط الإيرانية المقربة من مراكز القرار، تتحدث عن عدم جدوى الاتفاق النووي ومفاوضات فيينا ما لم تحقق المصالح القومية والاستراتيجية للنظام وإيران، وأن منظومة السلطة بأركانها المختلفة في النظام والحكومة والمؤسسة العسكرية لا ترى فائدة من هذه المفاوضات خارج الخطوط الحمراء التي رسمتها ووضعتها على طاولة التفاوض، بخاصة ما يتعلق بإلغاء العقوبات على قيادة قوات حرس الثورة عامة وقوة القدس التابعة له، وما تلعبه من دور محوري في ترجمة المشروع الإقليمي لإيران، إلى جانب ورقة البرنامج الصاروخي الباليستي الذي يشكل قوة الردع للنظام في مواجهة التهديدات الأمنية والعسكرية.
وسبق للمرشد الأعلى للنظام خلال الأيام الأخيرة من السنة الإيرانية الماضية الموافقة فبراير (شباط) 2022 أن أكد أمام أعضاء مجلس خبراء القيادة تمسك النظام بما يعتبره أوراق قوة في مواجهة الأعداء، متوقفاً عند أربعة مستويات، هي ضرورة العمل على بناء اقتصاد قادر على تجاوز سياسة الحصار والعقوبات، وعدم التخلي لأي سبب عن التقدم الذي حققته إيران في المجال النووي وحقها في امتلاك هذه التكنولوجيا وتطويرها على أراضيها، وتأكيد العقيدة العسكرية الدفاعية التي يشكل البرنامج الصاروخي عمودها الفقري، وأخيراً عدم تخلي النظام عن حلفائه الإقليميين ومشروعه في بناء منظومة تنسجم مع رؤيته واستراتيجيته في مواجهة مراكز القرار الأخرى بالمنطقة.
أن تعبّر طهران بوضوح على لسان المتحدث باسم خارجيتها سعيد خطيب زاده عن خيبة أملها بالأداء الأميركي في المفاوضات، وتتهمه بأنه “لم يبد الرغبة المطلوبة من أجل التوصل إلى اتفاق”، إضافة إلى “احتفاظه بجزء من سياسة الضغط القصوى” بهدف “إتلاف الوقت والطاقات”، فهي المرة الأولى التي تبرز فيها مؤشرات عدم التفاؤل الإيراني، وبالتالي صعوبة تحقيق الهدف الذي تسعى إليه طهران بأن “تحقق المنفعة الاقتصادية ومصالح الشعب الإيراني من إلغاء العقوبات” بحسب تعبير خطيب زاده.
لا شك في أن الهاجس الأميركي، بحسب تعبير مسؤولي هذه الإدارة والداعمين للمسار التفاوضي مع إيران، هو العودة لممارسة الرقابة الصارمة على البرنامج النووي الإيراني والحد من مساره التصاعدي ومنع وصوله إلى نقطة اللاعودة بتجاوز العتبة السلمية باتجاه العسكرة، بخاصة أن أنشطة طهران في مجال التخصيب تجري بشكل متسارع وبعيداً من الرقابة الدولية، وأن حجم المخزون من اليورانيوم المخصب بدرجة 60 في المئة قد ارتفع من 10 كيلو غرام إلى أكثر من 50 كيلو غرام.
استمرار الوضع القائم يعني أن عدم حصول أي تفاهم أو اتفاق مع إيران حول هذه الأنشطة والإبقاء على الوضع القائم المتعلق بالعقوبات على حاله، حتى وإن شهد تغاضياً من قبل واشنطن سمح للنظام الإيراني برفع مستويات إنتاجه للنفط والحصول على بعض أمواله المجمدة بالخارج، قد يدفع النظام في طهران إلى المغامرة بتسريع عملية “الفرار النووي” بهدف وضع واشنطن والمجتمع الدولي أمام أمر واقع صعب وتعقيدات متشعبة ومتداخلة.
وما بين المخاوف الأميركية من الطموحات النووية لإيران وسعي النظام في طهران إلى الخروج من دائرة العقوبات وامتلاك القدرة على إعادة ترميم أوضاعه الاقتصادية وتحسين الوضع المعيشي للإيرانيين، والابتعاد من خطر الانهيار وما فيه من انفجار داخلي، ما قد يدفع الطرفين إلى البحث عن مخارج مؤقتة أو مرحلية تكون تعويضاً عن الاتفاق الشامل، على مبدأ “خطوة مقابل خطوة”، بحيث تسمح هذه الآلية لواشنطن باستعادة السيطرة على البرنامج النووي الإيراني عبر الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتحصل طهران في المقابل على إعفاءات من العقوبات غير شاملة، لكنها تبقي الباب مفتوحاً لمفاوضات أخرى حول جميع النقاط التي تمسك بها المرشد الأعلى كاستراتيجية عليا للنظام، وتعتبرها واشنطن الأسباب الحقيقية لمخاوف المجتمع الدولي والإقليمي من الطموحات الإيرانية، ولا بد من إيجاد حلول عملية لها.
المصدر: اندبندنت عربية