فايز سارة
لعل السوريين أكثر شعوب العالم حقاً في أن يغضبوا. وهذه ليست أمنية ولا رغبة، بل هي سلوك يتصل بما صار إليه حال السوريين من كوارث، يحتاجون إلى زمن ليس لتعدادها فقط، وإنما من أجل حصر نتائجها، ويحتاجون إلى أكثر مما سبق من أجل تجاوز تلك النتائج، والعودة إلى حياة طبيعية بعد ما أصابهم من قتل وتهجير للبشر ودمار لقدراتهم وقدرات الدولة والمجتمع، وفوق ما تقدم فإن ثمة سبباً آخر للغضب، ينبع من معاناة السوريين المستمرة والمتصاعدة، والحاضرة اليوم في التهميش السياسي، وقائمة في انهيار اقتصادي واجتماعي، وصل فيه السوريون باستثناء نخبة النظام وأمراء وتجار الحرب إلى جوع وعطش ومرض وبرد وشبه إغلاق لبوابات أمل ممكن في حل قريب، فيما يستمر نظام الأسد قائماً بعد أن أوصل السوريين إلى كل ما سبق بمعونة حلفائه الإيرانيين والروس، ويسعى البعض لإعادة تسويقه لدى المجتمع الدولي وسط سكوت العالم بما فيه الدول والقوى الموصوفة بـ«أصدقاء الشعب السوري».
الحالة كما تبدو تستحق غضب السوريين، بل هي تستحق غضب العالم، فما أصاب السوريين لا يمكن السكوت عنه، بل لا ينبغي السكوت عنه، لأن حدوثه يمثل تحدياً إنسانياً وأخلاقياً للبشر، وتحدياً سياسياً وقانونياً للدول والهيئات والمؤسسات في المستويات المحلية والإقليمية والدولية، لأن ما حدث ويحدث أمر لا يمكن القبول به، ومخالف لكل القيم والأعراف وللقانون في محتوياته المحلية والدولية، خصوصاً في ضوء أول تداعياته التي يمثلها الاجتياح الروسي لأوكرانيا الذي دفع أوروبا إلى حرب، يمكن أن تتحول إلى حرب عالمية مدمرة.
وكان من الطبيعي أن يعبر السوريون عن غضبهم بأشكال مختلفة، فيكون غضباً عاماً، أو غضباً يتصل بموضوع أو حدث معين على نحو ما يظهر حالياً إزاء الموقف التركي عن عودة اللاجئين، وحول التوجه للتطبيع مع الأسد، وما يقال عن طرد اللاجئين السوريين من ألمانيا، وانتزاع أطفال اللاجئين، ومنهم سوريون، من أحضان أهاليهم في السويد، وكلها تدفع سوريين للانخراط في موجات غضب، تعبر عن نفسها في وسائل التواصل الاجتماعي عبر منشورات فردية وبيانات جماعية، وفي نقاشات وحوارات تجري على وسائل التواصل والاتصال، ونشر مقالات وتحليلات وتصريحات في الإعلام، وقد تشاركت كلها في تأجيج غضب يعزز مظلومية تستند إلى خلاصات بينها جرائم النظام وحلفائه، وتقصير المجتمع الدولي بدوله وهيئاته في مواجهة ما أصاب السوريين، ثم ارتكابات المعارضة والمقربين منها العاملين في منظمات المجتمع المدني.
ويوازي اتساع هذه الموجة من غضب السوريين، حجم المشكلات التي تحيط بها، إذ هي مثال للفوضى والاختلاطات السياسية والخلافات بين الأطراف والأشخاص، لدرجة يمكن القول معها، إن موجات الغضب، تترك بصمات ثقيلة على واقع السوريين، قد لا تكون أقل أذية وضرراً مما سببته سياسات وجرائم نظام الأسد وحلفائه، وهو ما تؤكد جوهره إشارات سريعة لبعض محتويات هذا الغضب.
الإشارات الأولى تتصل بالحملات على قيادات المعارضة السياسية والمسلحة والفعاليات الأهلية والمدنية، وغالبيتها تعرضت لاتهامات واسعة، وفي الغالب لم تقم الاتهامات على مستندات أو وقائع، تتجاوز كلام القيل والقال، بل إن بعض الاتهامات كانت شطح خيال، كأن يقال إن المعارضة ضيعت أو نهبت مليارات الدولارات، أو إن بعض أطرافها الرئيسية مرتبطة بالنظام وأجهزته. وثاني الإشارات تتعلق بمواقف الدول بما فيها دول قدمت مساعدات للسوريين في سنوات الثورة ومنها بلدان الخليج العربي وتركيا وألمانيا، التي لم تنجُ من اتهامات وهجمات الغاضبين، وكان يكفي تصريح أو موقف ما من بعض مسؤولي إحدى الدول، ليذهب الغاضبون إلى صب جام غضبهم عليه وعلى مواطنيه أيضاً.
وأدت موجة الغضب بمحتوياتها إلى تردي أوضاع ثورة السوريين، فأشاعت الفوضى، ودمرت النخبة ومنعتها من خلق زعامات وأطر سياسية وإدارية منظمة وفاعلة، ووسعت شقوق الخلاف والصراع الداخلي، وأساءت إلى أشقاء وأصدقاء السوريين، وعززت الميول المعادية للسوريين في أنحاء مختلفة من العالم، ما دفع كثيرين إلى الإحباط وفقدان الأمل، خصوصاً في ظل حقيقة أن موجات الغضب وما رافقها من قول ونقاش، لم يكن بين أهدافه التوصل إلى نتائج وصيغ عملية، وفي الحالات التي قيل إن البعض توصل إلى صياغة أفكار أو رؤى تتعلق بقضية السوريين أو بعض موضوعاتها، فإن أصحاب تلك الأفكار والرؤى، لم يتجاوزوها عملياً إما تقصيراً وإما عجزاً، والخلاصة، مما جعلها دون أي إيجابيات، إنما منبع لسلبيات توحي وكأن النظام وحلفاءه كانوا وراء بعض موجاتها ومحتوياتها، ونتائجها، التي قدمت خدمات لا تقدر بثمن للنظام وحلفائه، كان أبرزها أنها أخرت تقدم السوريين نحو أهدافهم في تغيير حياتهم ومستقبل أجيالهم وبلدهم عبر الوصول إلى السلام والخلاص من نظام الأسد، وإقامة نظام جديد يوفر الحرية والعدالة والمساواة لكل السوريين.
خارج ما تقدم من الغاضبين، فإن سوريين آخرين سلكوا في غضبهم مساراً أقل حدة، منقسمين إلى نوعين؛ النوع الأول جماعات منظمة، وفيها جماعات سياسية ومسلحة، وأخرى أهلية ومدنية، وبحكم تنوع وتعدد الجماعات، فقد تعددت أشكال تعبيرها عن الغضب، وذهبت إلى أشكال ومستويات مختلفة فيها، جرت فيها صراعات داخلية وبينية، أضعفت تلك الجماعات، وأخذت أغلبها إلى نهايات، وهو أمر واضح في حال أغلب الجماعات المسلحة. أما في حال الجماعات السياسية ومثالها الأبرز يمثله المجلس الوطني ثم الائتلاف الوطني، فقد جرى تحويل الغضب إلى مسار سياسي في الصراع مع النظام وداعميه، غير أن أسباباً متعددة بعضها يتعلق بهذه الجماعات، وآخر يتصل بالبيئة الإقليمية والدولية، أفشلت تلك المساعي، وتحوّلت غالبية هذه الجماعات إلى مادة تثير مزيداً من غضب السوريين، لا سيما في ظل دورها إلى جانب الجماعات المسلحة في أخذ الصراع السوري نحو التسليح والعسكرة، ثم الأسلمة والتطييف، وهي تحولات سعى نظام الأسد إلى جر الثورة إليها منذ البدايات الأولى في ربيع عام 2011.
ولئن بدا الفشل سمة عامة في تجربة الجماعات المنظمة، فإن القليل منها نجح في أعماله وقدم نماذج أفضل في تحويل غضب المنخرطين فيه إلى عمل إيجابي في مجراه ونتائجه، كما في أمثلة بعض منظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الإنسان ومثلها فريق الدفاع المدني المعروف بـ«الخوذ البيضاء» والرابطة السورية للمواطنة.
النوع الثاني من غصب السوريين كان غصب أفراد سوريين، جاهدوا لتحويل غضبهم إلى نتائج إيجابية مختلفة، أدت في محتواها العام إلى حضور مميز للسوريين في بلدان الشتات، رغم طابعها الفردي المكرس في الأنشطة السياسية والاقتصادية والثقافية والإبداعية، وأمثال هؤلاء لا يقتصرون على ناجحين مشهورين مثل الناشطين عمر الشغري ورجاء بنوت والفنان مالك الجندلي والناشط الثقافي حسان عباس ومئات من سيدات ورجال الأعمال في مصر وتركيا وبلدان غرب أوروبا وغيرهم.
وإذا كان أغلب السوريين كرّسوا نتائج سلبية لغضبهم، وفشلوا في تحويله إلى فعل إيجابي يبدل ظروفهم والبيئة المحيطة بهم، فإن ذلك ليس قدراً لا فكاك منه، بل بعضهم سواء من خلال تجارب عامة أو تجارب فردية كثيرة نجحوا في تحويل غضبهم إلى أفعال إيجابية على الصعيدين العام والشخصي، الأمر الذي يعني حاجة السوريين، خصوصاً نخبتهم، إلى تهدئة وإعادة ترتيب صفوفهم وأحوالهم العامة، خصوصاً لجهة أشكال وطرق تعاملهم مع قضيتهم وما تحتويه من موضوعات، وما يتصل بها من أطراف، والانتقال بها من حال سلبية، تكرّست في العقد الماضي إلى سياق إيجابي، يعطي قضيتهم فرصاً أفضل باتجاه الخروج من الكارثة والسير نحو حل لقضيتهم يحقق السلام ويقود إلى تغيير شامل في القضية السورية وفي واقع السوريين.
المصدر: الشرق الأوسط