محمود الوهب
قد لا تكون نتائج الانتخابات اللبنانية على قدر ما هو متوقَّع استناداً إلى حجم المظاهرات، وصخبها، وشعارها الرئيس: “كلن يعني كلن” الذي رفعته في العامين 2019/2020 وكانت تلك الشعارات قد وُجِّهت ضد نوع آخر من الاستبداد الذي عرفته المنطقة، إذ تجلى بالاعتماد على قيادات الأمر الواقع التي قامت في الأساس وَفْق تقسيمات اجتماعية تطورت طبيعياً عَبْر التاريخ سواء كانت دينية أم طائفية لكن الزمن قد تجاوزها بقيام الدولة الحديثة التي تعتمد في بِنْيَتها على أُسس من حرية المواطن الفرد منتظماً في أحزاب أو جمعيات أو نوادٍ، وهو محميّ بقوانين تساوي بين أفراد المجتمع كافة، فهم المَعْنيّون بتنمية البلاد تحت سقفها.
وإذا كان اتفاق الطائف قد جاء حلاً مرحلياً باتفاق دول عربية وإقليمية إلا أنَّه جاء بعد حرب أهلية طويلة ربما فرضتها تطوُّرات سياسية جرت خلال مرحلة الستينيات التي شهدت نموّاً وطنياً وقومياً طبعت لبنان بطابعها لكنَّ تلك الحرب الأهلية الطاحنة وذيولها أنهت بـ”اتفاق الطائف ذاته” ذلك الصعود الوطني/القومي الذي تمثَّل في عدد من الأحزاب السياسية إلى جانب منظمة التحرير الفلسطينية، وهي في أَوْج قوتها سياسياً وإعلامياً وعملاً فدائياً فعَّالاً.. وهكذا أعادت الطائف لبنان إلى نمط حكمه السابق مع تعديل بسيط في التعاطي الطائفي البينيّ، وترسيخ القسمة بحسب مبدأ الطائفية في الحكم! وكانت القضية الفلسطينية كبش فداء، وبموافقة أطراف الطائف من العرب ومن بينهم النظام السوري الذي أُنيطت به مهمة الإشراف على تنفيذ الاتفاق لكنه استمر حتى بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري.. ورغم أن اتفاق الطائف حدّد إلغاء الطائفية السياسية كأوليَّة وطنية، إلا أنه لم يحدد إطاراً زمنياً للقيام بذلك بل تركها إلى حين مجيء الظرف المناسب! اليوم وبعد ثلاثة وثلاثين عاماً، وصل لبنان إلى حافة الهاوية من فقر وفساد وانهيار اقتصادي بسبب تلك الطائفية البغيضة التي هي شكل من أشكال الاستبداد الموزع بين قادة الطوائف كافة.. (وُقِّع اتفاق الطائف في 30 أيلول 1989 بوساطة سورية/سعودية).
وإذا كان لبنان لم يتأثر ببدايات الربيع العربي، وخاصة ذاك الذي زلزل سورية وآلَ إلى خريف وخرائب وسيول من دماء، كما في ليبيا واليمن أيضاً، وإلى شتاءات قاسية كما في مخيمات اللاجئين السوريين.. فإن ذلك الربيع قد ترك حالة من الوعي، وعي الأسباب الحقيقية لما آلَ إليه لبنان، وقد تزامن ذلك الوعي مع وعي مشابه أدركه، كذلك، جيل من الشباب العراقيين، فثَمة تشابُه في نظامَي الحكم في البلدين، ولقد نزلت جماهير الشعب في مدن الدولتين رافعة شعارات وطنية تدين الطائفية وتطالب بديمقراطية فعلية، ورغم سطوة الميليشيات الإيرانية، وخاصة في العراق التي تصدت للناشطين، فقتلت منهم المئات.. كما ساهمت المرأة في كِلا البلدين على نحو جِدِّي وكانت في لبنان أكثر كثافة ما أعطى تلك التظاهُرات لوناً خاصاً ولافتاً، وعلى الرغم من زخم تلك المظاهرات وكثافتها فإن القابضين على الحكم في البلدين كانوا غير مكترثين لتلك الصحوة الشعبية وخصوصاً أن ليس من أقطابها أحد في قمة هرم السلطة ممن يمسكون بالقرار، أو بجزء منه.
ومع ذلك يمكن الإشارة إلى عدة دلالات أسفرت عنها نتائج الانتخابات اللبنانية وهي:
أولاً: شكَّل الربيع العربي، رغم مآسيه الكثيرة، حالة من الوعي الشعبي أخذت تُتَرْجَم على شكل ثورات أخرى مستفيدة من أخطاء التجارب التي سبقتها، وبخاصة عملية قلب الأنظمة هكذا دفعة واحدة، دون إعطاء مسألة الحرية وتجليها في الديمقراطية السياسية وتعدُّدها لا على أساس المكونات التي ثبت أنها شكل جديد للاستبداد ولنهب الدولة والمجتمع أيضاً.. فحرية الفرد هي التي تسمح بوحدة المجتمع من خلال القوانين الناظمة له والمحمية بقضاء مستقلّ وتداوُل لسلطة الدولة وَفْق قوانين واضحة ودقيقة لا تسمح بتجاوُزها..
ثانياً: إن معظم الأنظمة العربية وإنْ اختلفت أشكال مرتكزاتها قد غدت متخلفة، لا عن شعوبها فحَسْبُ، بل عن ركب الدولة الحديثة التي تسمح بالنمو والازدهار في رحاب الديمقراطية التي تفتقر لها معظم تلك الأنظمة وتسمح بتحقُّق نوع من العدالة الاجتماعية النسبية.. وخاصة فيما يتعلق بالإمساك بمفاتيح الحضارة التي هي ناصية التعليم الذي يسمح بالولوج إلى التكنولوجيا الحديثة التي باتت اليوم ضرورة مهنية لكلِّ مواطن مهما كان نوع العمل الذي يمارسه.
ثالثاً: أثبتت الانتفاضات الشعبية أن مخزون الحركات الثورية كامن في عمق الشعب، وأن الشعب “يمهل ولا يهمل” وأنه أكثر وعياً من وعي أحزابه السياسية، إذ استطاع المتظاهرون أن يقودوا جماهير الناس المتأذِّين من سوء الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وعمل الشارع المنتفض على انتخاب هيئات قيادية له، بينما تخلَّفت أحزاب كثيرة رغم أنَّ بعضها حاول اللحاق بالمتظاهرين، لكنَّه لم يستطع تصدُّر المشهد، وبقي على الهامش، بسبب سياساته الغائمة، ومنها الحزب الشيوعي اللبناني الذي كان طليعة العمل الوطني في السبعينيات ودفع “جورج حاوي” أمينه العامّ حياته أمام ذلك الموقف.
رابعاً: كان للمرأة حضور لافت، قوي ومؤثر، وهذه ميزة اختص بها اللبنانيون أكثر من غيرهم، إذ هي سمة تحضُّر ورقيٍّ ووعي متقدِّم، وأنها شريك أساسي لا يمكن تجاهُله أو الاستغناء عنه، فهو يمنح الانتفاضة إضافات نوعية ربما لا تزال بعيدة عن الكثير من مجتمعاتنا.. وقد كان للمغتربين اللبنانيين أيضاً تأثيرهم السياسي على المستويَيْنِ الداخلي والخارجي.
خامساً: لا شكَّ في أن الفوز الذي تحقق لا يزال غير كافٍ وهو مرهون بردود أفعال الأطراف المتضررة في المستقبل القريب، وخاصة تلك التي تمتلك ميليشيا لا تتورع عن فعل أي شيء، وخاصة أنها مُدانة بأكثر من فعل كان له تأثير كبير على حياة اللبنانيين، إضافة إلى أنها متأزمة من جهة أخرى، إذ يعاني داعمها الرئيس أزمات داخلية وخارجية، وداعمها السوري خسر كل نوابه أو معظمهم، ويعاني الويلات.. كما أنَّ السلطة السابقة مخضرمة في اللعب السياسي، وتحتاج إلى فئة وازنة تجيد التحالفات واستغلال التناقُضات بتأكيدها الجانب الوطني العابر للطوائف.. وتبقى الأجواء العربية اليوم -ورغم كل ما يقال فيها، وفيما يخص لبنان تحديداً- أفضل من أيام السبعينيات، فهل يعوَّل عليها؟! المؤمَّل ذلك، والمساهمة في إخراج لبنان من ذلك النفق البغيض الذي قاده إلى خراب كلي وعدم إدخاله في نفق المساومات السياسية الذي ربما يكون الأسوأ.. إنه طريق صعب والخطوات الماجدة الأولى دائماً تكون محفوفة بالمخاطر.
المصدر: نداء بوست