راغدة درغام
مَن يستدرج مَن ونحو ماذا في تلك الحلقة المعقّدة التي ترقص فيها إدارة بايدن على رؤوس أقدامها مع كل من إيران وإسرائيل، ووجهة أنظارها نحو روسيا وأوروبا بمعادلتَي الحرب والنفط؟
الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووكلاؤها، بالذات “حزب الله” في لبنان، يتحدّثون عن استدراج إسرائيل للحرب ويعلنون استعدادهم الكامل لها. الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله تحدّث عن حوادث خلال الأسبوع المقبل ستؤدي إلى “انفجار” الوضع في منطقة الشرق الأوسط، إذا سمحت إسرائيل بمسيرات الأَعلام والمساس بالمسجد الأقصى. تزامن الإنذار مع انحراف واضح للمفاوضات النووية مع إيران بعيداً من استكمالها بإنجازات تاريخية في فيينا، كما كان مقرراً لها مع نهاية شهر أيار (مايو)، وذلك بسبب تدخّل إسرائيلي مباشر مع إدارة بايدن لإحباط أي استعداد لديها لشطب “الحرس الثوري” الإيراني عن لائحة الإرهاب تلبية لإصرار طهران. تزامن أيضاً مع إعلان قائد هيئة الأركان الإيرانية محمد باقري أن اغتيال العقيد في “الحرس الثوري” حسن صياد خدايي لن يمرّ من دون رد، فيما كشفت القناة 13 الإسرائيلية عن تأهب إسرائيلي لردٍ إيراني على عملية الاغتيال.
“حزب الله” يضع لبنان بين طيّات التأهّب للحرب والاستدراج للصفقات التي تخدم الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويحذّر الجمهورية اللبنانية والقوى السيادية من عواقب عرقلة مسيرة استيلائه على مصير ثروة النفط والغاز. يفعل ذلك مصراً على رفض بحث احتفاظه بسلاحه إلى ما بعد حوارٍ حول استراتيجية مشتركة لاستخراج الطاقة من المياه الإقليمية اللبنانية. وهكذا، ينوي “حزب الله” توسيع صلاحيات سلاحه لضمان هيمنته على النفط والغاز، ولضمان موقعه في أي مفاوضات إقليمية ضرورية، شرط أن يرهنها لقرارات “الحرس الثوري” الإيراني وليس للمصلحة اللبنانية. بكلام آخر، إن السيد حسن نصر الله قرّر إقحام إيران طرفاً في استخراج النفط والغاز للبنان، وقرّر فرض “المقاومة” على المفاوضات والتلزيم والتنقيب. قرّر أيضاً أن “حزب الله” هو الذي سينسف الطروحات الأوروبية لمقاربة شاملة للنفط والغاز والسلام مع إسرائيل، وهو الذي سيرعى ويستفيد من الصفقة معها في الوقت المناسب.
“حزب الله” أطلق مقاومته لطرح غربي حمله مبعوث الاتحاد الأوروبي لعملية السلام في الشرق الأوسط، سفين كوبمانز، نيابة عن 27 دولة أوروبية، لرعاية مفاوضات “لعملية سلام تحل مشكلة الطاقة في لبنان نهائياً، وتسمح للبنانيين بإنتاج الكهرباء واستثمار الموارد النفطية والغازية بشكل سليم”، إضافة إلى أن “لبنان قد ينضمّ سريعاً إلى كونسورتيوم إقليمي يضم مصر والإمارات وقبرص واليونان وإسرائيل ودولاً أخرى، ما يساعد على استقدام الاستثمارات وإنعاش الاقتصاد”. هكذا جاء في صحيفة “الأخبار” الموالية لـ”حزب الله” التي تابعت أن “المغريات” هذه لا تقف عند هذا الحد من أجل “تشجيع الدولة اللبنانية على الدخول في عملية تفاوضية مع العدو”، لكن “عمل الموفد على تقديم مغريات خاصة بحزب الله وبحركات المقاومة في فلسطين” تشمل حفظ حصّة “وازنة” جداً للمقاومة في النظام اللبناني، تضمن امتيازات واسعة لـ”شيعة” لبنان، مع تعهدات بإعمار غزة ودعمها اقتصادياً لتتحول إلى “دبي جديدة” كما نقلت الصحيفة عن مصادرها.
اللافت أن الصحيفة اعتبرت أن عروض كوبمانز “تدلّل إلى أن أوروبا شريكة أساسية في حصار لبنان حالياً وإفقار شعبه وتجويعه وتهجيره”، وإلى السعي الأوروبي “لفصل المسار اللبناني عن المسار السوري” من المفاوضات مع إسرائيل. وعليه، اعتبرتها “تهديداً” للبنان “وابتزازاً” للبنانيين لـ”الاستسلام مقابل الغذاء”.
بين طيّات المنطق الضعيف وراء تخوين الأطروحات الأوروبية، هناك ما يريده حسن نصر الله في مرحلة التموضع النفطي وتسليمه إلى “المقاومة”. ففي كلمته الأربعاء الماضي، قال إن لبنان أمام خيارين، إما أن يكون قوياً “بالمعادلة الذهبية التي حمته خلال الأعوام الماضية، والتي تستطيع أن تحفظ ثرواته”، وأما أن يكون لبنان “الضعيف والمتسوّل”.
لعلّ “حزب الله” يقوم بالتفاوض العلني مع الأوروبيين، بالذات مع الفرنسيين، ليفرض ما يريده هو في إطار التفاهم على “عقد اجتماعي جديد” يفصّله على قياس طموحاته وتهديداته. السيد حسن نصر الله يرى اليوم أن خلاص لبنان هو بالنفط والغاز، ويريد إبلاغ الجميع أنه هو ولي أمر حماية هذه الثروات، حرباً أو سلماً. لديه الدولارات “الفرش”، وهو يسيطر على المرفأ والمطار وجزء كبير من الاقتصاد، ويريد أن يضمن لنفسه القدرة على شراء لبنان بالثمن الرخيص أمام انهياره، وهكذا يستطيع النهضة بالبلد بالرخص ويفرض عليه هويته ليشبهه كما سبق واستطاعت نهضة رفيق الحريري أن تنتج بلداً يشبهه حينذاك.
رسالة نصر الله بسيطة، خلاصتها أن الأفضل للاعبين الآخرين قبول ما يفرضه عليهم بالطاعة والكرامة، فالأمر له، بتصوّره، وهو يعتزم فرض ما يريده ‘ما بالطاعة أو بـ”السحسوح” بحسب تعبير أحدهم. المزيد من الانهيار الاقتصادي والإنهاك التام للناس يساهم في الاستسلام، أو يؤدّي إلى ثورات تبدو مستبعدة في لبنان اليوم. وهذا يلائم “حزب الله” الذي يدرك تماماً أنه ليس مرغوباً به بما يمثّله ويريد فرضه على اللبنانيين، ولذلك أتت نتيجة الانتخابات النيابية برسالة في غير مصلحته أو مصلحة رموز الهيمنة السورية المعهودة على لبنان.
لكن السؤال يبقى التالي: هل ترى قيادة “حزب الله” وقيادة “الحرس الثوري” أن مصلحتهما تقتضي الدخول في حرب مع إسرائيل في هذا المنعطف، أم أن طبول الحرب تُقرَع كجزء من التموضع في حال نجاح الصفقات مع الغرب أو في حال فشلها؟
الأمر البديهي هو أنه في حال وقوع حرب بين “حزب الله” وإسرائيل اليوم، لن يكون مجلس الأمن قادراً على وقف هذه الحرب، كما سبق وفعل عام 2006، وبالتالي إن حرباً مفتوحة قد لا تكون في مصلحة “حزب الله”، أو إسرائيل، أو إيران. هذا ما لم تقتضِ المعادلة النووية حرباً إما تستدرج إسرائيل الولايات المتحدة إليها منعاً لامتلاك إيران القنبلة النووية، أو تستدرج إيران إسرائيل إليها إذا استنتجت أن لا رفع للعقوبات عنها بموجب مفاوضات فيينا، وأن الوقت حان للانتقام من عملياتٍ إسرائيلية وقعت داخل إيران، أو للقيام بعمليات استباقية تخدم توسيع رقعة التورّط الإسرائيلي الذي يقع في المصلحة الإيرانية.
من المبكّر الحزم قطعاً بمصير مفاوضات فيينا الرامية إلى إحياء الاتفاقية النووية JCPOA بين الولايات المتحدة والصين وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا من جهة، وإيران من جهة أخرى، والتي بموجبها يتم رفع العقوبات عن إيران مقابل قيودٍ على برنامجها النووي. طهران افترضت أن حاجة الولايات المتحدة وأوروبا إلى النفط الإيراني تعويضاً عن النفط الروسي الذي يريد الغرب حظره، ستؤدّي إلى انبطاح إدارة بايدن والحكومات الأوروبية أمام كامل مطالبها.
الانبطاح كان وارداً إلى حين رفضت طهران تقديم الضمانات حول السلوك الإقليمي لـ”الحرس الثوري” وعدم تدخّله في شؤون الدول الإقليمية، الأمر الذي يتناقض جوهرياً مع جوهر مهمّة “الحرس الثوري” وصلبها، طبقاً لعقيدة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
طهران تمسّكت بشرط شطب “الحرس الثوري” من لائحة الإرهاب، لأن إبقاءه على تلك اللائحة يعني، عملياً وواقعياً، عدم قدرة إيران على التصرّف بالأموال التي تأتيها عبر رفع العقوبات عنها. هذا الطرح منطقي من جهة، لكنه مستحيل في الوقت ذاته بسبب الدور المخرِّب الموكل إلى “الحرس الثوري” رسمياً من قِبَل الدولة في إيران. وهكذا تعرقلت المفاوضات في فيينا بسبب استمرار إدراج الولايات المتحدة “الحرس الثوري” على لائحة الإرهاب… كما بسبب آلية المراقبة على البرنامج النووي.
تعثّرت لأنه لم يكن ممكناً للرئيس جو بايدن الإقدام على تبرئة “الحرس الثوري” من الإرهاب أمام معارضة واسعة داخل الكونغرس، واستياء الناخب الأميركي من خطوة كتلك يمكن أن تُتَرجم في غير مصلحة الديموقراطيين في الانتخابات النصفية. تعثّرت أيضاً لأن إسرائيل قامت بحملة منظّمة قطعت الطريق على أركانٍ في إدارة بايدن أرادوا التساهل مع طهران من أجل التوقيع على إحياء الاتفاقية النووية، باعتبار ذلك قصّة نجاح للرئيس بايدن.
عدم رفع العقوبات عن طهران بموجب فشل مفاوضات فيينا قد يضطر “الحرس الثوري” إلى التصعيد على مختلف الجبهات وبمختلف الوسائل، من الحروب بالنيابة، إلى العمليات العسكرية المباشرة حتى ولو محدودة مع إسرائيل، إلى ضخ المخدرات. ذلك أن الاستمرار بالعقوبات في مرحلة تدهور الاقتصاد الإيراني وتصاعد نقمة الناس هو، في نظر القيادة الإيرانية، بمثابة قرار غربي بتغيير النظام، مهما كابر أركان النظام وتظاهروا بغير ذلك.
لعلّ الأمور تصل إلى مرحلة تفرض على طهران الاختيار بين تغيير السلوك أو تغيير النظام. لكن هذا سابق لأوانه الآن. الواضح اليوم هو أن المسألة النووية لن تكون عابرة، والحروب ستكون مُكلِفة، والتغييرات الجوهرية في الخريطة السياسية – الجغرافية ستجبر على إعادة النظر في الحسابات والشراكات والتوقعات. فماذا ستفعل إيران؟ وماذا ستفعل إسرائيل والولايات المتحدة؟ ومَن الذي يرقص على الهاوية أكثر من سواه؟
المصدر: النهار العربي