محمد نور فرهود
ربما الكثيرون لا يعرفون أن الحياة السياسية في تركيا تعج بـ 124 حزباً سياسيّاً نشطًا، وفق المصادر الرسمية، وهو رقم كبير في الحقيقة فضلًا عن أنه مؤشر على وجود ديمقراطية معقولة في هذا البلد، ومع ذلك فلا يمكن القول إن جميع هذه الأحزاب فاعلة ومؤثرة، فهناك أحزاب كبيرة تتحكم بالمشهد السياسي القائم، وأخرى صغيرة تأخذ دور المساعد.
من جهة أخرى، هناك أحزاب برلمانية وأحزاب غير برلمانية، والحزب البرلماني هو الذي حصل على 10% وأكثر من مجمل الأصوات في آخر انتخابات برلمانية جرت منتصف 2018، وهذه الأحزاب هي: “العدالة والتنمية” الحاكم، وحليفه “الحركة القومية”، و”الشعب الجمهوري” أكبر أحزاب المعارضة، وحليفه “الجيد”، إضافة إلى حزب “الشعوب الديمقراطي”.
ما عدا ذلك، هناك أحزاب لم تحصل على 10% بالفعل، لكنها تتمتع بمقعد أو مقعدين داخل البرلمان، عن طريق “المصادفة”، مثل أن يكون برلماني انشق عن أحد الأحزاب البرلمانية المذكورة، ثم انتقل لحزب جديد أو أسس حزبًا، وبذلك يحق له الاحتفاظ بمقعده، مثل أوميت أوزداغ مؤسس حزب “النصر” على سبيل المثال، حيث انشق عن حزب الجيد ليؤسس حزبه الخاص ويحتفظ بمقعده البرلماني دون عائق.
هذه المقدمة مهمة للإلمام بعوامل القوى التي يمكن أن يتمتع بها أي حزب، ولا يبقى الأمر عند حدود ذلك بالطبع، فهناك أحزاب “صغيرة” تتمتع بقوة ما لكن عبر الاعتماد على أحزاب كبيرة، مثل حزب “السعادة” المحافظ الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان، ويقوده اليوم تمل كارامولا أوغلو، وهو يتمتع بحضور على المشهد السياسي، استناداً إلى شريحته المحافظة من جهة، وتحالفه مع الشعب الجمهوري والجيد من جهة أخرى.
الأحزاب الصغيرة المؤثرة
موضوعنا الرئيسي هو الأحزاب الصغيرة، وعوامل القوى التي يمكن أن تتمتع بها، ودورها في الحياة السياسية، والأهم من ذلك مدى انعكاس ذلك على المستقبل القريب، وأتحدث هنا عن الانتخابات المقبلة منتصف 2023.
لكن قبل أن ندخل في صلب الموضوع، علينا معرفة من هي تلك الأحزاب المقصودة بـ”الصغيرة”؟
بين عشرات الأحزاب السياسية الموجودة والتي لا يعرف معظمها حتى الأتراك أنفسهم، تبرز أحزاب صغيرة رئيسية، هي:
– (حزب السعادة – الحزب الديمقراطي؛ وهما حليفان للشعب الجمهوري والجيد ضمن تحالف رباعي برز في انتخابات 2018).
– (حزب المستقبل بقيادة أحمد داود أوغلو – حزب الديمقراطية والتقدم بقيادة علي بابا جان؛ وهما حزبان منبثقان عن العدالة والتنمية الحاكم).
– حزب “وطن” بقيادة محرم إنجة المرشح الرئاسي عن المعارضة في 2018 (منشق عن الشعب الجمهوري).
– حزب “النصر” بقيادة أوميت أوزداغ المنشق عن حزب الجيد.
– حزب “الرفاه مجدداً” بقيادة فاتح أربكان نجل الراحل نجم الدين أربكان (منشق عن حزب السعادة).
– حزب “الاتحاد الكبير” حليف للعدالة والتنمية الحاكم.
يمكن القول إن هذه أهم الأحزاب الصغيرة التي تلعب دوراً ما في الحياة السياسية، لكن علينا معرفة أن كل حزب منها لا يتجاوز في النهاية نسبة 1%، ناهيك عن أن حزبي السعادة، والاتحاد الكبير، هما الوحيدان اللذان يصلان لهذه النسبة، أما باقي الأحزاب فمن الممكن أن يصل كل واحد منها حتى إلى 0.5% لا سيما أنها لم تخض أي انتخابات بعد.
عوامل قوة الأحزاب الصغيرة ودورها الموجود
تختلف عوامل القوى من حزب لآخر. وبحسب المشهد السياسي الموجود؛ نجد أن أهم عنصر يغذي تلك الأحزاب هو: وجودها ضمن تحالفات سواء تحت مظلة الحزب الحاكم أو المعارضة، مثل الحزب الديمقراطي المعارض على سبيل المثال، و”الاتحاد الكبير” المؤيد للحكومة كمثال آخر.
في هذه الحالة، لو نظرنا لهذا النوع من الأحزاب فلن نجد له قاعدة انتخابية رصينة، إلا أنها تستفيد من اصطفافها بجانب حزب كبير، بغية تحصيل مكاسب مثل الحصول على مقعد برلماني، أو رئاسة بلدية، من خلال دخول الانتخابات تحت جناح الحزب الكبير.
ثانياً، يأتي عنصر الأيديولوجيا، وهنا يبرز حزب السعادة المحافظ، فهو يتمتع بتركة ثمينة خلّفها الراحل أربكان معلّم الرئيس التركي أردوغان، إلى جانب حزب “الرفاه مجدداً” الذي أسسه نجل أربكان نفسه.
وفي هذه الحالة، يحاول الحزب الحفاظ على قاعدته الانتخابية المؤدلجة، والاعتماد عليها في استقطاب أصوات من الشرائح الشبيهة، فمثلاً بينما يحاول السعادة سحب أصوات ناقمة من شريحة العدالة والتنمية، نجد أن الرفاه مجدداً يحاول سحب الأصوات نفسها من دائرة حزب السعادة.
ثالثاً، يأتي عنصر المناكفة، والمقصود بذلك الأحزاب التي انبثقت عن قواعد انتخابية كبرى سواء حاكمة أو معارضة، مثل حالتَي “المستقبل” بقيادة داود أوغلو، و”الديمقراطية والتقدم” بقيادة بابا جان، وكلاهما شغلا مناصب عليا في حكومات العدالة والتنمية، وكان من أصدقاء أردوغان المقرّبين. وفي هذا الإطار أيضاً يأتي حزب “وطن” بقيادة محرم إنجة، الذي انبثق عن الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة، إثر خلافات مع رئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو.
في هذا النوع، نجد أن عامل الأمان غير متوفر في هذه الأحزاب، فهي لا تضمن مستقبل غدها، لعدم وجود قاعدة واضحة، حتى ولو اعتقد بعضهم أن علي بابا جان مثلاً يحظى بفرص كبيرة في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية على اعتبار أنه رجل اقتصاد برز اسمه في نهضة تركيا الاقتصادية في العقد الأول من القرن الجاري؛ إلا أن الأرقام والواقع يخبراننا بعكس ذلك، فهو لا يتمتع بشريحة أصوات معتبرة من جهة، كما أنه فشل إلى الآن في استقطاب كتل مؤثرة من العدالة والتنمية مثل برلمانيين أو رؤساء مقاطعات وما شابه، فضلاً عن وجود زعزعة داخل البيت الداخلي لحزب بابا جان ذاته، ومن حين لآخر نسمع بخروج بعض الأسماء من حزبه.
وفي هذا النوع أيضاً، يبرز عامل المعارضة لأجل المعارضة، أو لنسمّها بـ”المناكفة”، مثل أحمد داود أوغلو الذي يبدو منزعجاً من تهميشه داخل العدالة والتنمية -بغض النظر عن أحقية مطالبه أو لا-، وكمثال آخر، محرم إنجة الذي حاول جاهداً تسلّم زمام الشعب الجمهوري والتغلب على منافسه كليتشدار أوغلو، لكن حينما عجز عن ذلك لجأ إلى تأسيس حزب جديد.
رابعاً: عنصر الشعبوية، وهو أسوأ الأنواع وأخطرها، ولا شك أن عرّاب هذا المجال هو المدعو أوميت أوزداغ، من دون منازع، فهو على أرض الواقع لا يمتلك برنامجاً سياسياً شاملاً أو واضح المعالم والأطر، سوى التركيز على قضية واحدة هي اللاجئون على اعتبار أن رحيلهم يمثل الحل السحري لمعالجة جميع مشكلات وأزمات تركيا.
كأي حزب صغير، يشعر أوميت أوزداغ بالتعطش لوجود عصا سحرية يعلق عليها كل خطاباته من أجل حشد أصوات لحزبه، وهي حركة ذكية وماكرة بآن واحد. كلّ حزب جديد يحتاج لشريحة أساسية يدخل بها الانتخابات، لكن أوزداغ صاحب الخلفية القومية المتطرفة، يصرّ على تحصيل مكاسبه من خلال عداوة اللاجئين والعرب.
التأثير على المستقبل السياسي
لا أقلّل من أهمية تعدد الأحزاب حتى ولو وصلت للمئات، فهي مؤشر إيجابي على ازدهار الديمقراطية في أي بلد، لكن المشهد الموجود في تركيا هو رهن أصحاب القرار في الأحزاب الكبرى أي البرلمانية.
أما الأحزاب الصغيرة المتحالفة معها أو المستقلة عنها، فلا أعتقد أن يكون لها تأثير يذكر في الانتخابات المقبلة، حتى إن الرهان على “الطاولة السداسية” التي تجمع اليوم بين 6 أحزاب معارضة، يعتبر غير مضمون، لا سيما أنها لا تزال متنازعة حول من سيكون المرشح الرئاسي أمام أردوغان.
من جانب آخر، كل هذه الأحزاب الصغيرة داخل “الطاولة السداسية” إلى جانب حزب الجيد البرلماني، لا يعادلون مجتمعين أصوات حزب الشعوب الديمقراطي المعارض، وبالتالي فنحن أمام مشهد ضبابي لا تحظى فيها الأحزاب الجديدة بموضع، سوى في المناكفة التي تخدم ربما فقط رواد مواقع التواصل لملء وقت الفراغ بمتابعة مسلسل طويل من الأخذ والرد بين تلك الأحزاب.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا