إبراهيم درويش
ناقشت زها حسن الزميلة في وقفية كارنيغي ومروان المعشر، نائب مدير الأبحاث في نفس المركز، بمقال مشترك في دورية “فورين أفيرز” مظاهر القصور في اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية مع دول عربية مؤكدين على أن تهميش الفلسطينيين هي وصفة للعنف وليس السلام. وأشارا بداية لإعلان الرئيس دونالد ترامب الذي وقف في 15 أيلول/سبتمبر على شرفة البيت الأبيض مع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو ووزيري خارجية كل من الإمارات العربية والبحرين قائلا “هذا فجر الشرق الأوسط الجديد”.
وتبع الدولتين الخليجيتين المغرب والسودان في التطبيع ووسعت الإمارات علاقاتها مع إسرائيل باتفاقية تجارة حرة. وقالا إن تمزق الوحدة العربية كان مدهشا، وفي ضوء التزام العالم العربي بأن الاعتراف بإسرائيل سيأتي تابعا لموافقة إسرائيل على إنهاء الاحتلال العسكري لأرض عربية والالتزام بالقانون الدولي.
وقالا إن إسرائيل عقدت في آذار/مارس قمة لتعميق علاقاتها مع الدول العربية، شاركت فيها البحرين والمغرب ومصر والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة. وذكر وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن الحاضرين أن التطبيع العربي ليس بديلا عن الحل السياسي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. ورغم تلميح متحدثين في تعليقاتهم للسلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلا أن الموضوع لم يكن على أجندة المباحثات. ولم تتم دعوة الفلسطينيين وغاب الأردن والسعودية اللاعبان المهمان في القضية.
وعندما وقعت الإمارات العربية المتحدة اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، أعلن سفيرها في واشنطن يوسف العتيبة أن أهم نتيجة لها هي وقف عمليات الضم للمستوطنات في الضفة الغربية واستئناف المحادثات السلمية. مع أن الضم الفعلي لم يتغير وتنكر القادة الإسرائيليون للمحادثات السلمية. و”الحقيقة لن تدفع اتفاقيات السلام في الشرق الأوسط لأن هدف إسرائيل كان حرف انتباه العالم عن احتلالها العسكري لا نهايته”. وبدون مشاركة دولية ستظل عمليات تشريد الفلسطينيين مستمرة وكذا سرقة أراضيهم. وأهم مثال هو قرار المحكمة الإسرائيلية العليا في بداية أيار/مايو الموافقة على تدمير 8 قرى في الضفة الغربية وطرد مئات من سكانها، لفتح المجال أمام الجيش الإسرائيلي بناء ميدان رماية. ويجري العنف الإسرائيلي في الضفة الغربية بدون شجب دولي، مع أن شجب مهاجمة الشرطة الإسرائيلية جنازة الصحافية الفلسطينية- الأمريكية شيرين أبو عاقلة التي من المحتمل أنها قتلت برصاص الجيش الإسرائيلي -حسب تحقيقات أسوسيتدبرس وسي إن إن- كان استثناء للقاعدة.
ولو كان الشهران الماضيان نذيرا للقادم، فإن المشهد جاهز لمزيد من العنف داخل الأراضي المحتلة، ويرفض الفلسطينيون تأجيل حقوقهم الأساسية للأبد. ويعلق الكاتبان أن اتفاقيات إبراهيم سمحت بتعاون دول عربية مع إسرائيل في مجال التجارة والأمن وبدون شروط لكي توقف إسرائيل توسعها الاستيطاني.
وفي ظل إدارة ترامب بني عدد كبير من المستوطنات بالضفة الغربية كما بني في ولاية باراك أوباما الثانية. ويسمح العمل على الطرق والبنى التحتية في المناطق المحتلة لاستيعاب مليون جندي إضافي حسب منظمة “السلام الآن”. ويقول الباحثان إن توسع الاستيطان كان نتاجا لخطة ترامب “سلام للازدهار”، وهي الخطة للتسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين وكانت سابقة على اتفاقيات إبراهيم. وتم تطوير الخطة بالتعاون مع حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلية واحتوت على خريطة طريق تمنح إسرائيل سيطرة دائمة على المناطق المحتلة. وما أطلق عليه ترامب “صفقة القرن” هي خطة لحل الأزمة الطويلة لصالح إسرائيل، فهذه ستحتفظ بالسيادة على الضفة الغربية وبدون عودة للاجئين إلى وطنهم، وبقاء المستوطنات الإسرائيلية في المناطق التابعة للسلطة تحت السيطرة الإسرائيلية. أما القدس فستظل تحت سيطرة إسرائيل باستثناء بعض الأحياء ذات الكثافة الفلسطينية.
وبناء على الخطة، فالمشاريع المقترحة ستعطي إسرائيل فرصة لتجريف الخط الأخضر، المعترف به دوليا كحاجز بين إسرائيل والمناطق المحتلة. وستقام بناء على هذا “إسرائيل الكبرى” الممولة بأموال المانحين وخطوط اتصال وأنابيب غاز ومناطق سياحة وشبكة نقل.
وعندما رفض الفلسطينيون، كما هو متوقع العيش بدون حقوق مدنية وسياسية تحت السيطرة الإسرائيلية الدائمة، فتحت اتفاقيات إبراهيم قناة سياسية خلفية لتنفيذ المشاريع هذه بدون موافقتهم. ومنحت الاتفاقيات جرأة للمتطرفين اليهود، وبخاصة في القدس الذين واجهوا الفلسطينيين في المسجد الأقصى التابع للأوقاف الإسلامية التي يديرها الأردن بناء على سياسة الأمر الواقع “المسلمون يصلون لا زيارات لغير المسلمين”، إلا أن اليهود باتوا وبشكل مفتوح يصلون هناك. ولم يكن المسيحيون في القدس بمأمن من تحرشات المتطرفين الذين قاموا بعرقلة مسيرتهم للأماكن المقدسة متذرعين بقرارات محكمة. وحددت إسرائيل عدد المشاركين في قداس الفصح بكنيسة القيامة.
ولم تظهر القيادة الإسرائيلية اهتماما بمحادثات السلام، فرغم اهتمام رئيس الوزراء نفتالي بينت بمنح الفلسطينيين مزيدا من تصاريح العمل وزوجاتهم للإقامة بشكل مشروع في الضفة الغربية، بدون أي اهتمام بالمحادثات مع القيادة الفلسطينية. وكما قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في شباط/فبراير فعلى الفلسطينيين ألا يتوقعوا دولة لهم من المفاوضات. وتقترح الأحداث المتتابعة انتفاضة مثل انتفاضة 2000 عندما انهارت محادثات السلام واقتحم أرييل شارون الأقصى ضمن حملته لكي يصبح رئيسا للوزراء. وفي كانون الأول/ديسمبر اعترفت وزارة الدفاع الإسرائيلية عن سياسة “أطلق النار لتقتل” ضد راشقي الحجارة الفلسطينيين والذين لا يمثلون تهديدا مباشرا. وليس غريبا مقتل أكثر من 50 فلسطينيا ما بين كانون الثاني/يناير وآذار/مارس هذا العام، بزيادة 5 أضعاف عن نفس الفترة في العام الماضي. وقتل مسلحون فلسطينيون- مواطنون في داخل إسرائيل والضفة الغربية- 18 إسرائيليا. وزادت عمليات التفتيش والحواجز من عدد الضحايا، ومن بينهم غادة سباتين، 47 عاما التي لم تكن مسلحة وأما لستة أولاد. ووسط هذا الجو أمر بينت المواطنين الإسرائيليين بحمل السلاح، فيما هدد زعيم حماس في غزة، يحيى السنوار بإحياء العمليات الانتحارية، وكل الإشارات تظهر أن الوضع سيزداد سوءا.
وتساءل الباحثان عن موقف الإدارة الأمريكية، فقد أكد الرئيس جو بايدن على دعمه لحل الدولتين واتفاقيات إبراهيم، لكنه أبقى على سياسات سلفه التي تعامل المستوطنات بأنها جزء من أراضي السيادة الإسرائيلية. وعبر بايدن عن رغبة بإلغاء قرار واحد للإدارة السابقة وهو إغلاق القنصلية الأمريكية في القدس، لكن إسرائيل ترفض التعاون. ولكن إدارة بايدن لم تتوانى عن منح الأولوية لآلية تشريعية تعود إلى عهد ترامب وتقوي الاتفاقيات التي قد تشرعن المستوطنات غير الشرعية. ففي كانون الأول/ديسمبر 2020، مرر الكونغرس قانون شراكة نيتا لوي للشرق الأوسط من أجل السلام، وبهدف توجيه التمويل الأمريكي نحو مشاريع استثمارية مشتركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين والمساهمين الإقليميين. وفي حذف صارخ لم يحتو القانون على ضمان يمنع المستوطنين من الانتفاع من التمويل. وفي الحقيقة تحدث مسؤولة في وكالة التنمية الأمريكية مع “جويش إنسايدر” في نيسان/إبريل 2022 وقال إن المستوطنات ليس مستثناة من المشاريع طالما دعمت حل الدولتين.
ورغم مظاهر القلق هذه مرر الكونغرس الذي يسيطر عليه الديمقراطيون قانون تطبيع العلاقات الإسرائيلي، والذي يتطلب من وزارة الخارجية الأمريكية استخدام النفوذ الأمريكي والمصادر لتوسيع وتعميق اتفاقيات إبراهيم. إلا أن اشتراط استخدام التأثير الأمريكي في خدمة الحكومات الأجنبية ليس سياسة جيدة. بل ويعتبر خطيرا في ضوء قائمة من الخبراء القانونيين، بمن فيهم تحليل في شباط/فبراير 2022 أجرته هيومان رايتس كلينك بجامعة هارفارد وأكد أن إسرائيل تعامل الفلسطينيين في الضفة الغربية بطريقة تصل للفصل العنصري. وعلى الولايات المتحدة أن تكون قلقة من الاستثمار في أفعال إسرائيل بالضفة الغربية، في وقت تفكر فيه بدعم محكمة الجنايات الدولية وتحقيقها بجرائم الحرب في أوكرانيا. ولن يكون موقف أمريكا جيدا في العالم، حينما يدعو المسؤولون الأمريكيون لمحاسبة النظام الروسي ويمنعون محاسبة إسرائيل على أفعالها.
وأشار الكاتبان إلى دبلوماسية المقايضة التي انتهجتها أمريكا لحث الدول العربية على دعم اتفاقيات إبراهيم، فقد وعدت الإمارات العربية المتحدة، الديكتاتورية بسجل مثير للقلق في حقوق الإنسان، بأنظمة عسكرية متقدمة. وتم شطب السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب. وحصل المغرب على اعتراف بالسيادة على الصحراء الغربية التي يعتبرها المجتمع الدولي محتلة ويراها الصحراويون أرضهم.
ولا تخدم هذه التحركات مصالح أمريكا ولا مصالح السلام. فرمي مزيد من الأسلحة في الشرق الأوسط الذي يحصل على نصف الصفقات الأمريكية سيزيد من تغذية سباق التسلح مما يزيد من احتمال اندلاع نزاعات عنيفة. وهذا يعني منح إسرائيل مزيد من الأسلحة، وهي دولة مصنعة ومصدرة للسلاح، لمجرد الوفاء بتعهد الكونغرس بالحفاظ على التفوق العسكري الإسرائيلي. وتقديم أمريكا السخي بدون شروط مرفقة لن يزيد من تأثير أمريكا على إسرائيل، بل العكس. ولهذا السبب يرفض رئيس الوزراء فتح القنصلية الأمريكية في القدس. ويقول إن إحياء المعاهدة النووية مع إيران لا يمنع إسرائيل من اتخاذ التحرك ضدها وبنفسها. كما أن المشاريع التي تهدف اتفاقيات إبراهيم تحقيقها لن تخفف من معاناة الفلسطينيين الذين يعتمدون على المانحين، ذلك أن إسرائيل تفرض القيود عليهم وتمنعهم من الحركة واستخدام مصادرهم الطبيعية وأراضيهم. وبحسب البنك الدولي، تكلف سياسات إسرائيل اقتصاد الضفة الغربية مليارات الدولارات كل عام.. وأهم عقبة أمام تنمية الاقتصاد الفلسطيني ليس رأسمال ولا الإبداع بل الاحتلال. وهناك جانب آخر ليس في مصلحة أمريكا للدفع في اتفاقيات التطبيع، نابع من أن دفع دول بسكان يدعمون الحقوق الفلسطينية سيكون مبررا للأنظمة الديكتاتورية لاستخدام أساليب القمع لسحق أية معارضة، مما يعقد مهمة الترويج لحقوق الإنسان والديمقراطية. كما أن اعتراف أمريكا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية رغم الموقف الدولي، مبرر لدول أخرى مثل روسيا والصين عدم الاهتمام بالأعراف الدولية. وبنفس السياق فشطب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب مقابل التطبيع وليس لأنه حقق الشروط التي تدعو لشطبه هو تسييس لجهود مكافحة الإرهاب ويضر بالأمن القومي. وفي ظل تحضير الرئيس بايدن لزيارة إلى إسرائيل والمناطق المحتلة في الأشهر المقبلة والتحضير لقمم أخرى، يجب على واشنطن التعبير عن التزام لا مساومة فيه للسلام الدائم في الشرق الأوسط. ويمكن للولايات المتحدة دعم التعاون الإقليمي إلى جانب متابعة مصالحها، وعمل هذا يعني تعريف متى وكيف ستستخدم قوتها. ويجب عليها أن تتجنب تقديم محفزات للحكومات العربية لكي تطبيع مع إسرائيل ما دامت هذه تسرق أراضي الفلسطينيين. وبالنسبة للدول التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل، فيجب أن تؤكد على أهمية أنها لن تدعم مشاريع إقليمية تتعدى على الحدود بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة أو تقوض حقوق الإنسان.
وعندما يتعلق الأمر بالخلافات الإسرائيلية – الفلسطينية فعلى الولايات المتحدة أن تقدم مثالا، وقبل رحلة بايدن، عليها التحلل من خطة ترامب التي تعامل الأراضي الفلسطينية كجزء من إسرائيل. ويجب أن توجه حكومته وكالة التنمية الدولية وبقية مؤسسات الدعم الأمريكي أن توصل المساعدات بطريقة تحترم حقوق الإنسان. ولا تستطيع الولايات المتحدة حرف العلبة السياسية على جانب الطريق حتى تكون هناك فرصة لصنع السلام. ووصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى طريق مسدود. ومنح الأولوية لاتفاقيات إبراهيم وتجميد الحقوق الفلسطينية، ما هي إلا رسالة للطرفين، وبالنسبة للإسرائيليين، فلديكم الحرية للسيطرة على الضفة الغربية وبالنسبة للفلسطينيين فلا أحد يهتم بكم، وهذه وصفة للعنف.
المصدر: “القدس العربي”