إسماعيل جمال
على الرغم من تشعب وتداخل الخلافات والنزاعات بين أغلب الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، إلا أن اليونان وتركيا تتصدران محور الصراع الذي تصاعد في السنوات الأخيرة شرق المتوسط وذلك مع تزايد اكتشافات الغاز والبترول وسط تحشيد غير مسبوق يزيد من مخاطر وقوع مواجهة عسكرية خطيرة تحذر أطراف مختلفة من أن نتائجها ستكون مدمرة على البلدين والمنطقة.
وما بين فترات تصعيد خطيرة جداً، وفترات هدوء نسبي شهدتها علاقات البلدين وساحة النزاع في شرق المتوسط، إلا أن جوهر الخلاف والنزاع لا يزال قائماً بقوة من دون أي حلول حقيقية تنزع خطر المواجهة والصدام بين البلدين الذي يبقى قائماً بقوة مع أي تحركات سياسية أو عسكرية غير محسوبة في المنطقة المتداخلة وغير المتفق على حدودها بين البلدين.
فمع وجود جزيرة قبرص في صلب النزاع على الموارد الطبيعية في شرق المتوسط، وعدم الاتفاق على أي حلول حول مستقبل الجزيرة، تبقى معظم الحدود البحرية والجوية بين شقي قبرص وتركيا واليونان مناطق متنازع عليها وغير متفق على خطوطها وهو ما يرفع بشكل كبير خطر الصدام القائم منذ عقود وتصاعد بشكل كبير جداً في السنوات الأخيرة وسط محاولات حثيثة من أنقرة وأثينا لإقامة تحالفات إقليمية ودولية تعزز موقفهم السياسي وتحالفاتهم العسكرية في حال اندلاع مواجهة عسكرية.
نزاع تاريخي أحياه الغاز
تعود جذور الخلافات والعداء بين تركيا واليونان إلى قبل أكثر من 100 عام إبان الحرب العالمية الأولى واحتلال اليونان أجزاء من غرب تركيا ولاحقاً تحرير هذه المناطق وما رافق ذلك من مجازر وعمليات قتل متبادلة، وخسارة تركيا لجزر قريبة من سواحلها لليونان وصولاً إلى النزاع حول جزيرة قبرص وعدم التوصل إلى حل سياسي حتى اليوم، وسط خلافات حادة حول ترسيم الحدود البحرية والمجال الجوي والسيادة على الجزر وغيرها من ملفات الخلافات العميقة.
وفي خضم هذه الخلافات الحادة، بدأت في السنوات الأخيرة تتزايد اكتشافات الغاز والبترول في مناطق مختلفة في البحر المتوسط خاصة قبالة وساحل الأراضي الفلسطينية المحتلة ومصر ولاحقاً على نطاق أوسع في شرق البحر المتوسط قبالة ساحل اليونان وتركيا وقبرص وهي مناطق جزء منها خلافي يدعي كل طرف أنها تدخل في أطار مياهه الإقليمية وهو ما فجر خلافات حادة بين البلدين.
فاليونان أعلنت عن اكتشافات ضخمة قبالة سواحلها كما أعلنت قبرص اليونانية عن اكتشافات مشابهة، وهو ما أثار غضب تركيا التي تستورد كافة احتياجاتها من الطاقة بتكلفة ضخمة تصل إلى قرابة 50 مليار دولار سنوياً تتسبب في عجز دائم بالميزان التجاري وهو ما دفعها لتعزيز أسطولها البحري للتنقيب وبدأت عمليات تنقيب في مناطق مختلفة من شرق المتوسط وهو ما اعتبرته اليونان تعدياً على جرفها القاري وسط تحشيد عسكري غير مسبوق وصل ذروته عام 2020 وكاد أن يتحول إلى مواجهة عسكرية مفتوحة.
سباق التحالفات السياسية والعسكرية
على مدى السنوات الماضية، نجحت اليونان في التفوق على تركيا دبلوماسيا في صراع شرق المتوسط من خلال بناء تحالف سياسي قوي مع دول حوض المتوسط التي كانت على خلاف كبير مع تركيا لأسباب مختلفة ونجحت في التقارب مع إسرائيل ومصر وقبرص والحصول على دعم الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، كما جلبت دولا خليجية على خلاف مع تركيا لإظهار دعمها لسياسة أثينا في شرق المتوسط ونجحت في بناء «تحالف شرق المتوسط» واتفاقيات عسكرية ودفاعية مختلفة، ولاحقاً التوقيع على مشاريع طاقة مختلفة مع إسرائيل ومصر بشكل خاص.
إلا أن الاكتشافات الهائلة للغاز في البحر المتوسط كانت بحاجة لمشروع واقعي للتصدير للاستفادة من هذه الثروات، حيث وجد محور منتدى غاز شرق المتوسط والدول التي انضمت إليه صعوبات بالغة في القيام بمشاريع استراتيجية كبيرة تحدد مستقبل الغاز المستخرج من المنطقة وخطوط تصديره والتعاون في مجال الطاقة بشكل عام بمعزل عن تركيا التي ما زالت تمتلك القوة العسكرية و«فيتو مُعطل» للكثير من المشاريع الاستراتيجية في المنطقة.
ومقابل العديد من الاتفاقيات التي توصلت إليها اليونان مع دول المنطقة، نجحت تركيا في التوقيع على اتفاقية واحدة لترسيم الحدود البحرية مع الحكومة الليبية، إلا أن هذه الاتفاقية كان أثرها كبيرا جداً وذلك بعدما ربطت الحدود البحرية التركية الليبية عبر خط يمر من كامل حدود شرق المتوسط يجبر أي دولة تفكر في مد أي خطوط لنقل الغاز إلى أوروبا أن تحصل على إذن من تركيا وهو ما يتطلب بطبيعة الحال علاقات جيدة ومراعاة للمصالح التركية.
ومنذ سنوات كان المشروع الاستراتيجي الأول يتعلق بمد خط رئيسي يمر عبر شرق المتوسط وتركيا وصولاً لأوروبا، إلا أن تصاعد الأزمة والخلافات دفع أطراف منتدى شرق المتوسط للبحث عن بدائل أخرى يقول خبراء إن جزءا كبيرا منها ممكن نظرياً فقط حيث تدور أغلبها حول مشاريع غير مجدية اقتصادياً لتبقى تركيا هي الخيار الأول في هذا الإطار بسبب موقعها الجغرافي وما تمتلكه من بنية تحتية قوية من خطوط الغاز التي تصل أوروبا وهو من شأنه أن يجعل من طرحها أقل تكلفة وأكثر ربحاً لكافة الأطراف.
وفي خطوة غير متوقعة، أبدت الإدارة الأمريكية مؤخراً تحفظات شديدة بشأن المشروع اليوناني لإنشاء خط أنابيب لنقل الغاز المتنازع عليه شرق البحر المتوسط إلى أوروبا «إيست ميد» في خطوة اعتبرها الإعلام اليوناني بمثابة ضربة قاصمة لمشاريع أثينا في شرق المتوسط، ويرى مراقبون أنها قد تمثل فرصة كبيرة لتركيا لقلب تأخرها في صراع شرق المتوسط إلى انتصار إذا ما نجحت في التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل ومصر لنقل الغاز إلى أوروبا بعيداً عن اليونان التي سعت لعزل تركيا وتهميشها طوال السنوات الماضية.
قلب التأخر إلى انتصار
في الأشهر الأخيرة، وفي إطار تحول كبير شهدته الدبلوماسية التركية، عملت أنقرة على إعادة رسم خريطة تحالفاتها في المنطقة في إطار مشروع أطلق عليه مجازاً «مساعي العودة لسياسة صفر مشاكل» وذلك من خلال تحييد الخلافات مع معظم الدول التي تدهورت علاقات أنقرة معها في السنوات الماضية، وهو ما مكن تركيا من تحقيق اختراق حقيقي في خريطة تحالفات شرق المتوسط.
وفي هذا الإطار، نجحت تركيا في تفكيك الكثير من غطاء الدعم السياسي الذي حشدته اليونان طوال السنوات الماضية، وذلك من خلال التهدئة مع الاتحاد الأوروبي لدفعه نحو اتخاذ موقف متوازن من الأزمة، ومساعي الحصول على موقف أمريكي مشابه يبدو أنه بدأ يظهر بمعارضة واشنطن لمشروع «إيست ميد» وتحييد مواقف دول خليجية من خلال التقارب مع الإمارات وقرب إنهاء الخلافات مع السعودية والمتوقع أن تتوج بزيارة قريبة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى أنقرة.
لكن الأهم، هي مساعي تحسين العلاقات المتواصلة مع مصر وإسرائيل، حيث يتوقع أن تنجح هذه المساعي خلال المرحلة المقبلة في إنهاء الخلافات وإعادة تطبيع العلاقات وهو ما قد ينتج عنه اتفاقيات جديدة لترسيم الحدود البحرية بين الجانبين لا سيما مصر التي وعدتها تركيا بحصة أكبر في شرق المتوسط، على أن يقود ذلك جميع الأطراف لتغليب المصالح الاقتصادية والعمل بشكل مشترك على مد خط ينقل ثروات شرق المتوسط لأوروبا ليبقى الخيار الأسهل والأجدى اقتصادياً هو التعاون مع تركيا التي ما زالت تحتاج الكثير من الجهد السياسي والدبلوماسي لتنجح في هذه المهمة التي قد تقودها بالفعل إلى تحويل تأخرها في ملف شرق المتوسط إلى انتصار. لكن هذا السيناريو لا يبدو وحيداً في ظل التصعيد الجديد بين أنقرة وأثينا حول ملفات أخرى مرتبطة بشكل مباشر أو غير مباشر بالصراع على الغاز، حيث أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان قبل أيام إلغاء مجلس التعاون بين البلدين وأن رئيس الوزراء اليوناني «لم يعد موجوداً بالنسبة له» كما أطلق تهديدات غير مسبوقة بسبب ما قال إنه تسليح اليونان للجزر منزوعة السلاح قرب السواحل التركية في بحر إيجه وهدد بالرد على هذه الخطوة وسط اتهامات متبادلة باختراق الحدود البحرية والجوية وهو ما يبقي شبح المواجهة العسكرية مُخيماً على المشهد.
المصدر: القدس العربي