راغدة درغام
تقع إدارة بايدن في الحبال المشدودة، الإيرانية منها والروسية، وتجد نفسها أمام تحديات “ماذا بعد”. فلقد بات واضحاً أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عازم على الانتصار عسكرياً في أوكرانيا، وهو يستعدّ لأن يكون “الفيل في غرفة” قمّة دول حلف شمال الأطلسي (ناتو) المقبلة قوياً وثقيلاً، متوقّعاً للقمة الغربية أن تصنّفه “عدواً” لها.
المعركة بين الوكالة الدولية للطاقة الذرية IAEA والجمهورية الإسلامية الإيرانية بشأن كاميرات المراقبة النووية، دفعت بإدارة بايدن إلى الاضطرار للتحذير من “الاستفزازات” في “أزمة نووية خطيرة”، ومن “مزيد من العزلة الاقتصادية والسياسية لإيران”، إنما حرصت أيضاً عبر مبعوثها إلى إيران روبرت مالي على القول: “نحن مستعدون لعودة متبادلة إلى الاتفاق النووي إذا تنازلت طهران عن شروطها”، مؤكداً أن “هناك مخرجاً لإيران من الأزمة التي تسببت بها إذا تعاونت مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية”.
شدّ الحبال الإيرانية – الإسرائيلية يتخذ أشكالاً عدة لا تقتصر على المسألة النووية، بل تشمل تطورات أمنية لافتة لإسرائيل، منها الحديث عن نشرها منظومة رادارات في الخليج وسط تحرك في الكونغرس الأميركي لدمج الدفاعات الجوية لدول عربية وإسرائيل، ووسط ازدياد التذمر في صفوف المشرّعين الأميركيين من تساهل إدارة بايدن مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ما زالت الصفقات واردة بين إدارة بايدن والنظام في طهران، أبرزها ما يصبّ في ترتيبات انتقالية إنقاذاً لمفاوضات فيينا، التي بموجبها، إذا نجحت، يتم إحياء الاتفاقية النووية مع إيران مقابل رفع العقوبات عنها. مسألة الرقابة على البرنامج النووي الإيراني ليست ثانوية، وما حدث هذا الأسبوع من تصعيد إيراني بإزالة 27 من كاميرات مراقبة المفاعلات النووية يهدّد جدياً بنسف إحياء الاتفاقية النووية لعام 2015.
إلا أن إيران ما زالت تريد نجاح مفاوضات فيينا، وهي تودّ احتواء الغضب الأميركي والألماني والبريطاني والفرنسي، لكن أولويتها أميركية بامتياز. وبحسب المصادر، هناك مؤشرات تفيد بأن طهران تريد تفاهمات سرّية مباشرة مع إدارة بايدن عبر اتصالات غير رسمية، ولا تريد وسطاء. طهران تريد تقديم نفسها بأنها عنصر الاستقرار للأسواق النفطية الذي تحتاجه واشنطن، وبالتالي أنها تفتح الباب على صفقات مع إدارة بايدن لترتيبات انتقالية على نسق وضع الأمور العالقة في سلّة لاحقة، ووضع المسائل السالكة في سلّة مباشرة تشمل رفع العقوبات عنها. (راجع مقالة الأسبوع الماضي).
إسرائيل تقف بالمرصاد لواشنطن في الموضوع النووي خوفاً من موافقة إدارة بايدن على صفقة مع طهران، سرّية أو علنيّة، ولذلك تنسّق مع المشرّعين في الكونغرس كما تتحرك مع دولٍ عربية في الإطار الأمني. زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت الخميس الماضي لرئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد، بحسب المتحدّث باسم الحكومة الإسرائيلية، تطرّقت إلى التعاون الأمني والتحدّي الإيراني وتداعياته وتقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
هذا في الوقت الذي تقدّم فيه جمهوريون وديموقراطيون بمشروع قانون إلى الكونغرس ينص على أن تعمل وزارة الدفاع (البنتاغون) مع إسرائيل وعدد من الدول العربية من أجل دمج الدفاعات الجويّة. وبحسب السيناتورة الجمهورية جوني أرنست، فإن مشروع القانون يوجّه وزير الدفاع الأميركي إلى التعاون مع الشركاء والحلفاء في الشرق الأوسط لإيجاد بنية أنظمة صاروخية وجويّة متكاملة للتصدّي لـ”تهديداتٍ إيرانية” وتهديدات وكلائها في المنطقة. وبين الشركاء والحلفاء دول مجلس التعاون الخليجي والعراق والأردن ومصر وإسرائيل ودول أخرى يحددها وزير الدفاع، بحسب أرنست. أما دمج الدفاعات الجويّة فإن من شأنه أن يحمي من هجمات صواريخ كروز وصواريخ بالستية من إيران ووكلائها الحوثيين في اليمن و”حزب الله” في لبنان.
الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، أوضح أكثر من مرة أن “المقاومة” قادرة وعازمة، ليس فقط على مواجهة إسرائيل لأسباب أمنية، بل أيضاً لمنعها من “استخراج النفط والغاز من حقل كاريش المتنازع عليه”. وقال هذا الأسبوع إن “أي حماقة يُقدم عليها العدو ستكون تداعياتها، ليس فقط استراتيجية بل وجودية”.
القراءة بين سطور كلام نصر الله تفيد بأن طهران لم تقرّر بعد إن كانت ستُطلق يد “حزب الله” ضد إسرائيل، أو إن كانت تلجم “حزب الله” عمداً فيما يصعّد لفظاً كوسيلة لإبلاغ واشنطن بأنها راغبة بالصفقة، لكن لديها أدوات الانتقام في حال انتهاء مفاوضات فيينا إلى الفشل. نصر الله تحدّث بلغة فسح المجال لرئيس الجمهورية اللبنانية للتفاوض، بالذات عبر المبعوث الأميركي والمنسق الخاص لشؤون الطاقة، آموس هوكشتاين، لكنه احتفظ بحق “المقاومة” لضمان حصته من ثروة النفط والغاز اللبنانية، كما احتفظ بالفيتو على التفاهمات والحلول إذا وجدها في غير مصلحته. أما كلامه عن التداعيات “الوجودية” فإنه يدخل في خانة الحسابات الإيرانية لا اللبنانية.
إقحام “حزب الله” لما يسميه بالمقاومة على مصير ثروة النفط والغاز اللبنانية، يقوّض من سلطة الدولة ويضع مصير هذه الثروة رهينة الاعتبارات والقرارات الإيرانية الاستراتيجية والوجودية، وهذا لا بد أن يكون مصدر قلق لإدارة بايدن وهي تسير على الحبل المشدود بين لبنان وإسرائيل في مسألة المفاوضات بينهما على الحدود البحرية، لتحديد حقوق التنقيب والاستخراج للنفط والغاز.
أركان إدارة بايدن يدركون حجم دور إيران في هذا الملف، لكنهم كانوا قد أخذوا القرار بأن المفاوضات النووية لا علاقة لها بالسلوك الإيراني الإقليمي، لا في لبنان ولا في العراق أو سوريا أو اليمن. هم اليوم مضطرون لإعادة النظر لأسبابٍ إسرائيلية، لكنهم ازدادوا اندفاعاً نحو الصفقة مع إيران لأسباب نفطية ذات علاقة بتعويض إيران للدول الأوروبية عن النفط الروسي بعد فرض الحظر عليه. لذلك يسيرون بحذر على الحبل المشدود، لا سيّما أن الحرب الأوكرانية والتصدّي لروسيا لهما الأولوية في حسابات الاستراتيجية الكبرى.
إذا، وعودةً إلى موضوع روسيا لقراءة ماذا في الأفق ميدانياً واستراتيجياً، تبدو قمّة الناتو المزمع عقدها بتاريخ 28-30 حزيران (يونيو) في مدريد إسبانيا، موقع اهتمامٍ مميّز لدى روسيا. من الآن وحتى ذلك الموعد، تتوقع موسكو أن تستشرس المعارك ميدانياً في أوكرانيا، وينوي بوتين الانتصار في دونباس في غضون الأسبوعين المقبلين ليتقدّم لاحقاً في أوديسا وربما في ضم ترانزنيستريا الخريف المقبل. فهدفه واضح وهو توسيع رقعة الأراضي الروسية عبر توسيع حدودها. فصل أوكرانيا عن البحر الأسود هدف مهم لبوتين، لكن الهدف الأكبر كلاسيكي لروسيا، أي، اعتماد أسلوب الاستيلاء على المزيد من الأراضي لمواجهة “العدو”.
فلاديمير بوتين يتوقع أن تُصنَّف روسيا “عدواً” أثناء قمّة الناتو المقبلة، بعدما كانت في الماضي القريب في خانة تطوير العلاقة معها إلى “شريك”.
ضمن وسائل تعاطي فلاديمير بوتين مع ما قد يحدث في قمّة الناتو، إلى جانب عزمه على توسيع رقعة الأراضي التي سيستولي عليها، استخدام تركيا كونها عضواً شبه متمرِّد في حلف شمال الأطلسي الى جانب كونها عضواً مُزعجاً في نظر بعض أعضاء الناتو.
هناك توجّه نحو عقد قمّة في سوتشي بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب أردوغان الأسبوع المقبل، تأتي قبيل قمّة الناتو تحديداً وعمداً. الرئيس بوتين يريد الاستفادة من غضب الرئيس الأميركي جو بايدن من معارضة الرئيس أردوغان لانضمام فنلندا والسويد إلى حلف الناتو. فلقد بات حل هذه العقدة مستبعداً، بعدما رفضت السويد شروط تركيا المتعلقة بالأكراد لديها، وهذا أغضب أردوغان وجعله أكثر تمرّداً.
أمام قمّة الناتو، في هذه الحالة، إما إيجاد وسيلة لدحض “الإجماع” الضروري لتبنّي مثل هذه القرارات، أو المزيد من الضغط على أردوغان على نسق ما يتردد من عزم أميركي على تهديد أردوغان بمعاقبته اقتصادياً بما يؤدّي الى إسقاطه انتخابياً. وهذه موسيقى جميلة في آذان فلاديمير بوتين الذي يتّكل على قيام تركيا بخلق المشكلات للقمّة الأطلسية.
فمن وجهة نظر الكرملين، إن بقاء تركيا في حلف الناتو “خروفاً أسود” واحتمال قدرتها على تحطيم الإجماع في صفوف الناتو إنما يفيد روسيا، بالرغم من الدعم الذي تقدمه تركيا إلى أوكرانيا في حربها مع روسيا. وبوتين جاهز لدفع الثمن اقتصادياً لتركيا، وسورياً إلى حدٍّ ما من خلال التوافق مع تركيا على الحفاظ على الوضع الراهن هناك. فتركيا فشلت بأن تكون الوسيط بين روسيا وأوكرانيا أو بين روسيا والولايات المتحدة، لكن قيمتها لدى فلاديمير بوتين لها علاقة مميزة في إطار عضويتها في حلف شمال الأطلسي.
الأهم للرئيس الروسي هو توسيع الحدود ليستنهض الإمبراطورية الروسية بما يشمل دول البلطيق وبولندا وأوكرانيا. هي ذي الرؤية التي تحدّث عنها فلاديمير بوتين في 21 تموز (يوليو) 2021، والتي أعلن فيها عزمه على، إما ترويض أوكرانيا لتطيعه بولاء، وإما فرض ذلك عليها بالقوة العسكرية. والعنوان هو: إن روسيا ستنتصر وستهزم بالقوة العسكرية الشرسة.
مشكلة بوتين هي أن الدول الغربية باتت موحَّدة ضده، وأن تورط روسيا أكثر فأكثر في أوكرانيا يضاعف فرض المواجهة العسكرية المباشرة مع دول الناتو انطلاقاً من الأراضي الأوكرانية، ثم لا ندري ما سيحصل.
عسكرياً، يقول الخبراء الروس، إن روسيا قادرة على تدمير أوكرانيا، إذ لديها من الصواريخ لتكرار ما يسمونه “بسيناريو بغداد”، أي التدمير المطلق. لكن في ظل مثل هذا السيناريو، “قد تحصل روسيا على الأراضي، لكنها ستبقى في نزاع لعقود مع أوكرانيا الغاضبة والناقمة والمدعومة أميركياً” يقول أحد الخبراء. ويضيف: “وعندئذٍ سنكون في حرب باردة من نوع آخر، وحيث سيكون على حدودنا أفغانستاننا لتستنزفنا”.
هذه حرب غير قابلة للفوز بها، لا روسياً ولا أميركياً، وبالتأكيد ليس أوكرانياً مهما ازدادت المعونات العسكرية الأوروبية والأميركية. المعضلة أن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة إلى الوراء.
الرأي العام الروسي اعتاد على الاتكال على ما تمليه عليه الأوتوقراطية البوتينية الحريصة على إبعاد الشعب الروسي عن القرار. خصوصية هذه الأوتوقراطية أنها تأتي برضا الناس، لا سيّما أنهم لم يشعروا حتى الآن بوطأة العقوبات.
الرأي العام الأميركي والأوروبي بدأ يتذمر من حرب مع روسيا غامضة الأهداف، سوى أن كبار المستفيدين منها هم المؤسسة العسكرية Military-industrial complex التي تشمل صناعة السلاح والتكنولوجيا العسكرية، وكذلك شركات النفط. هذا الرأي العام لا يتفهم فكرة إلحاق الهزيمة العسكرية بروسيا بثمن باهظ عليه، اقتصادياً بالذات، ولذلك تقع إدارة بايدن تحت المراقبة مهما بدا لها أنها تتمتع بدعمٍ شعبي لسياساتها. والأمر ذاته يُطبَّق على الرأي العام الأوروبي.
ماذا بعد؟ إذا انتصرت روسيا بحربها الأوكرانية وبرؤيتها البوتينية، فستسيطر روسيا على حدودها مع الناتو. وإذا هُزِمَت، فستُحذَف روسيا من المعادلة الجغرافية – السياسية العالمية وسيتحوَّل العالم إلى قطبين أساسيين: أميركا والصين.
فلاديمير بوتين لا ينوي الخسارة بل ينوي الانتصار ليفوز مجدّداً بالانتخابات الرئاسية عام 2023. الغرب يبدو عازماً على منع بوتين من الانتصار وهو يحدِّق به لعلّه يتراجع، ولن يتراجع.
ماذا بعد؟ الواضح أن الحرب الأوكرانية ماضية إلى الأمام، ولا مجال أبداً الآن لتسوية سياسية. لا خروج من المأزق ولا تملّص من الورطة.
والسؤال الذي يواجه إدارة بايدن وقمّة حلف شمال الأطلسي هو: ماذا إذا مضى فلاديمير بوتين إلى وحشيّة عسكريّة تضمن له انتصاراً واستيلاءً على الأراضي الأوكرانية؟ هل الرئيس بايدن جاهز للدخول في حرب مباشرة مع روسيا؟
إنه حقاً يسير على الحبال المشدودة.
المصدر: النهار العربي